نبوءات روبرت كاغان… من القرن الأميركي إلى الحرب الأهلية

المفكر الأميركي يحذر مما قد يجري في سياق الانتخابات الرئاسية: رفض للنتائج وعنف جماعي وانهيار السلطة الفيدرالية ونشوء جيوب جمهورية وديمقراطية والجيش أمام خيارات صعبة

عبر عموده في صحيفة “واشنطن بوست” كتب المفكر الأميركي روبرت كاغان أن الولايات المتحدة تسير قدماً نحو أكبر أزمة سياسية ودستورية لها منذ الحرب الأهلية، مع احتمال وقوع حوادث عنف جماعي، وانهيار السلطة الفيدرالية، وتقسيم البلاد لجيوب متحاربة بتباين

يمكن اعتبار الرجل من أهم دعامات جماعة المحافظين الجدد، أولئك الذين رسموا صورة الولايات المتحدة في نهاية القرن الماضي وخططوا لفكرة “القرن الأميركي”، أي أن تسيطر الولايات المتحدة على جميع مقدرات العالم، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، ومن غير أن ينافسها أحد، لا سيما القطب الصيني القادم، ولا روسيا الاتحادية القائمة من الرماد.

روبرت كاغان ليس كاتباً أو مفكراً أميركياً اعتيادياً، بل هو أحد أساطين “الدولة الأميركية العميقة”، فكرياً في الأقل، وقد يدهش المرء حين يدرك أن زوجته هي وكيلة وزارة الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند السيدة التي تعرف بأنها صعبة المراس تجاه أعداء واشنطن بنوع خاص، وقد قامت بزيارة أخيرة للعاصمة الأوكرانية كييف، قبل بضعة أيام من هجوم موسكو الأخير، وهناك أطلقت ما يمكن اعتباره إنذاراً بما سيحل بروسيا من خراب.

نحن إذاً أمام شخصية أميركية استثنائية، وقد تزايدت أهميته في الأشهر الأخيرة الماضية، بعدما لفت انتباه الأميركيين في الداخل، وبقية العالم، للمآلات الصعبة التي تنتظر البلاد والعباد، على هامش انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

ما الذي يخشاه كاغان ويمكن أن يؤثر في العالم برمته؟ ثم ماذا عن مشروع المحافظين الجدد الذي تجاوز ربع قرن، هل أخفق في أن يجد طريقه على الأرض بنجاح وكتبت نهايته سريعاً؟ ثم، وربما هذا هو الأهم، ما رؤية الرجل لأميركا في بقية هذا العقد وما نصائحه لتحافظ أميركا على مكتسباتها القطبية في عالم عرف بقطبية أحادية، ماضية في طريق التغير لجهة عالم متعدد الأقطاب؟

أميركا وأزمات تقود للتفكيك

هل الولايات المتحدة الأميركية على موعد مع سيناريو مشابه لسيناريو تفكيك وتفخيخ الاتحاد السوفياتي سابقاً؟

المقطوع به أن ما جرى للاتحاد السوفياتي كان نتيجة أخطاء في الداخل عبر سبعة عقود، وجدت من يغزل عليها من الخارج، ذاك المتمثل في أميركا وأوروبا للخلاص من الإرث الشيوعي سيئ الذكر، لكن الحال في الداخل الأميركي يختلف جذرياً، ذلك أن الخلافات داخلية، ومن غير أدنى مقدرة لأحد من الخارج، على تهديد السلام المجتمعي، إلا أبناء أميركا أنفسهم.

منذ أكثر من عام، وبالتحديد منذ سبتمبر (أيلول) 2021، وكاغان يستشرف مخاوف قاتلة بالنسبة للإمبراطورية الأميركية المنفلتة.

عبر عموده في صحيفة “واشنطن بوست” كتب كاغان موضحاً كيف أن الولايات المتحدة تسير قدماً نحو أكبر أزمة سياسية ودستورية لها منذ الحرب الأهلية، مع احتمال وقوع حوادث عنف جماعي، وانهيار السلطة الفيدرالية، وتقسيم البلاد لجيوب متحاربة بتباين، ولاؤها بين جمهوريين وديمقراطيين على مدى السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة.

يعن لنا أن نتساءل: هل يمتلك كاغان بلورة سحرية يرى فيها قادم أيام أميركا، أم عيني زرقاء اليمامة؟

قطعاً لا هذا ولا ذاك، وإنما لديه مقدرة تحليلية للأحداث تتيح له استشراف مآلات الأوضاع السياسية في الداخل الأميركي.

هنا بدا واضحاً أن كاغان وعلى ضوء ما جرى في انتخابات الرئاسة الأميركية 2020، يوقن بما ستجري به الأحداث، لا سيما أن هناك أكثر من 70 مليون أميركي، يعتقدون في صحة حديث الرئيس السابق ترمب، وصيحاته المستمرة والمستقرة، بأن الانتخابات الرئاسية قد تم تزويرها، وأن ولايته الثانية قد سرقت منه.

بدا لوهلة أن أميركا قد تجاوزت هذه الأزمة السياسية الخطرة، لكن الواقع هو أن البلاد كانت تعيش أزمات أخرى مثل مكافحة وباء “كوفيد-19″، وتردي أحوال الاقتصاد، والأزمات العالمية المتباينة الأثر، ومنها أزمة سلاسل إمداد الغذاء، كل هذه قد حجبت المصير المتوقع والمنتظر.

هل كاغان يعتبر أن ترمب هو السبب الرئيس وحجر الزاوية في تدهور أوضاع البلاد عما قريب، وبخاصة بعدما بات قاب قوسين أو أدنى من الفوز برئاسة جديدة، غالباً ستكون كارثية، انطلاقاً من رغبته في الثأر ممن يرى أنهم تسببوا بالفعل في خسارته للانتخابات الرئاسية الماضية؟

ترمب ومسرح مهيأ للفوضى

يبدو أن ترمب في تقدير كاغان قد هيأ المسرح الأميركي لفوضى كارثية تعم كافة أرجاء البلاد، حيث تبين أن الآمال والتوقعات في تلاشي صورته وتأثيره تدريجاً كانت محض أوهام، لا سيما بعد أن بات جواد الجمهوريين الرابح، وأقصى جميع الذين سعوا إلى الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة.

استعد ترمب وحلفاؤه الجمهوريون بنشاط لضمان الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة بأي وسيلة كانت، وباتت الاتهامات بالتزوير التي كالها لمنافسه جو بايدن خلال الانتخابات الرئاسية 2020 أساساً لتحدي أي نتيجة مستقبلية قد لا تكون في صالحه، حيث تبدو الاستعدادات ماضية على قدم وساق، للدفع بتزوير انتخابات 2024، حال فوز بايدن أو أي مرشح ديمقراطي آخر.

ضمن الخطوات التي اهتم ترمب بها بنوع خاص، ما يعرف باسم حملة “أوقفوا السرقة”، إذ أعد أنصاره ومسؤولو حملته الانتخابية على مستوى الولايات لمراقبة سير الأحداث وعدم تكرار ما جرى من قبل.

هل من صورة بعينها يرسمها كاغان لما بعد إعلان نتيجة انتخابات 2024، وحال التأكد من خسارة ترمب؟

عند رجل “مشروع القرن الأميركي” أن المسرح بات مهيأً ذهنياً ونفسياً لنوع من أنواع الفوضى التي لم تعرفها الولايات المتحدة من قبل.

هنا، وحال تخيل أسابيع – قد تمتد لأشهر – من الاحتجاجات الجماهيرية المتنافسة عبر ولايات متعددة، حيث يدعي المشرعون من كلا الحزبين النصر، ويتهمون الطرف الآخر ببذل جهود غير دستورية للاستيلاء على السلطة، فسيكون حينها الحزبيون من كلا الجانبين أفضل تسليحاً وأكثر استعداداً لإلحاق الأذى بالطرف الآخر مما كانوا عليه عام 2020.

تبدو الخيارات في تلك اللحظات أمام الرئيس الفائز، لا سيما إذا كان بايدن، مزعجة للجميع، فهل سيستدعي حكام الولايات الحرس الوطني لتهدئة الوضع؟ أم سيقوم بتأميم الحرس ويضعه تحت سيطرته؟

سيناريوهات أميركية داخلية مرعبة

الأمران غير مؤكدين، لا سيما أن غالبية من قوات الحرس الوطني تنتمي إلى الأميركيين البيض الرافضين لتغيير التركيبة السكانية للبلاد، والخائفين من أن يصبحوا أقلية، وعلى هذا الأساس، ربما لن يستمعوا أو يستجيبوا للأوامر الرئاسية.

لن يكون أمام بايدن وقتها سوى الاستناد إلى ما يعرف بـ”قانون التمرد”، وساعتها سيلجأ إلى الاستعانة بالقوات المسلحة الأميركية، التي تعد قوات نظامية، تأتمر بأمر الرئيس.

هنا ربما يفكر بايدن جدياً في إرسال فرق أميركية مدججة بالسلاح لإخماد العنف المتطرف، وقمع الاحتجاجات. غير أن هذا السيناريو، تشوبه أكثر من شائبة، والبداية من عند القطع واليقين بأن القوات المسلحة الأميركية، ستستجيب لأمر الرئيس، ذلك أن من بين تلك القوات، من يميل إلى اليمين الأميركي، الأمر الذي يعزز فكرة التمرد على الحكومة الفيدرالية، ومن عينة هذه النوعية، الجنرال “مايكل فلين”، الرجل المقرب جداً من ترمب في إدارته الأولى، والمعروف بمواقفه المتشددة، وللمرء أن يتصور وجود جنرالات أربع نجوم من نوعية الجنرال فلين.

أما الأمر الآخر، فيتمثل في أنه في حال الاستجابة الفورية من القوات المسلحة لأمر الرئيس، فإن هذا يعني المواجهة المسلحة مع الحرس الوطني في ولايات بعينها، ومع جماعات يمينية مسلحة تسليحا عاليا، مما يؤكد تحول الدولة إلى حالة من حالات الاحتراب الأهلي الداخلي.

يضع كاغان، وبوصفه كاتباً ومفكراً أميركياً عميقاً، له دالة على تاريخ البلاد البعيد كما القريب، يضع الأميركيين أمام مسار ثالث أكثر هولاً، وهو أن استعانة بايدن بالقوات المسلحة لإخماد مثل هذه الانتفاضة، أمر سينظر إليه على أنه نوع من أنواع “طغيان القوة”، وستتم إدانته، لا سيما أنه سيذكر عموم الأميركيين بالموقف ذاته الذي عاشه رؤساء أميركيون سابقون، مثل الرئيس أندرو جاكسون خلال ما عرف بـ”أزمة الأبطال” عام 1832، التي كانت مقدمة للحرب الأهلية، وأبراهام لنكولن بعد انفصال الجنوب.

وسط هذه الفوضى غير الخلاقة يفترض أن بايدن سيقرر بلا قواعد أو سوابق واضحة، ويصدر أحكاماً شخصية حول ما يملكه أو لا يملكه من صلاحيات دستورية.

في هذا السياق المخيف يرتفع تساؤل حول مقدرات بايدن الذهنية في تلك الأوقات، وهل يمكن بالفعل أن يكون لدى الرجل ما يكفي لإدارة أزمة من هذا النوع؟ وإذا لم يكن قادراً على ذلك، فمن سيتولى الأمر، هل بعض الأوصياء من داخل الحزب الديمقراطي، من نوعية الرئيس السابق باراك أوباما، الذي يلعب هذه الأيام دوراً مثيراً من وراء الستار في البيت الأبيض؟

يبقى وسط هذا الاحتمالات المخيفة والكارثية سيناريو آخر كفيل بأن يغير مسار الديمقراطية الأميركية، وهو سطوة القوات المسلحة على البلاد، والتحول من الحكم المدني الليبرالي العلماني إلى نظام عسكري فاشي، لا سيما حال اليقين بأن هناك أخطاراً جدية تتهدد البلاد، ويمكن أن تتمثل في اعتداءات نووية من روسيا أو الصين.

الذين لهم دالة على تذكر الأحداث التاريخية يعرفون كيف أن الصينيين قد استعدوا نووياً غداة أحداث السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، التي حاول فيها ترمب إلغاء نتيجة انتخابات فاز بها بايدن، ولولا اتصال غير شرعي تراتبياً، من جانب الجنرال مارك ميلي رئيس الأركان الأميركية مع نظيره الصيني، لربما مضت أميركا في طريق مواجهة نووية، فقد خشي الصينيون من أن يلجأ أنصار ترمب إلى قصف حواضن صينية بصواريخ نووية، وسط حالة الفوضى الحادثة.

هنا يمكن لأي محلل سياسي محقق ومدقق التساؤل: ماذا يمكن أن يكون من شأن روسيا، التي على شفا مواجهة نووية بالفعل مع الأميركيين؟ الجواب المؤكد هو أن أحداً لن ينتظر أن تطاوله الرؤوس النووية الأميركية، ولهذا ستكون المبادأة من الطرف الآخر، وليدخل العالم إلى الأتون النووي.

تقويض مطلق محتمل للديمقراطية

تبدو الخيارات السابقة المتقدمة وكأنها تمهيد لتقويض ديمقراطية أميركية حرص عليها الآباء المؤسسون للجمهورية الأميركية، وفي طريقها قسموا السلطات بحيث يكون كل فرع مراقباً للفرع الآخر، تجنباً لحالة من حالات الشمولية أو الديكتاتورية.

هل أميركا في مواجهة أخطار حقيقية لمسارات الديمقراطية ستكون ذروتها في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؟

في ورقة بحثية للمتخصص في مجال القانون والعلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا ريتشارد هاسن نقرأ أن الولايات المتحدة الأميركية في لحظة مصيرية وتعيش خطراً داهماً على الديمقراطية خطراً غير مسبوق يمكن أن يقوض عملية الانتخابات الرئاسية القادمة، بل يمكن أن ينتشر الخطر ليعم كل انتخابات محلية على صعيد الولايات والمدن وأصغر الأحياء، لا سيما أنها انتخابات ستجري برسم العداوات والعنصرية، لا ضمن سياق التنافسية الديمقراطية التقليدية.

كتب هانس أن “الولايات المتحدة تواجه خطراً جديا بألا نجري انتخابات 2024 الرئاسية وغيرها من الانتخابات الأميركية المستقبلية بصورة منصفة، وبألا يعكس المرشحون الذين يتولون السلطة الخيارات الحرة للناخبين المؤهلين بناءً على قواعد انتخابية معلنة مسبقاً.

هل سيجد الناخب الأميركي نفسه أمام حيرة انتخابية غير مسبوقة، بين طرفين يشكك كل منهما في نزاهة الطرف الآخر؟

من الواضح أن الجمهوريين عازمون على الفوز بأي ثمن، حتى لو كان الدخول في معترك الفوضى، وليس سراً القول إن ترمب وجماعته لديهم استراتيجية هذه المرة لمواجهة ما يعدونه مؤامرة تعرضوا لها في انتخابات 2020.

على الجانب الآخر، لن يظل الديمقراطيون عاقدين الأذرع على الصدور من غير ردود فعل قوية، ذلك أن ما يخطط له الجمهوريون بقيادة ترمب، سيؤدي حكماً إلى إغضابهم، وساعتها يمكن للمجالس التشريعية في الولايات التي يهيمن عليها الجمهوريون تجاهل الأصوات الشعبية في ولاياتها إذا كانت غير مواتية لترمب، وتعيين شخصيات تختارها في الهيئة الانتخابية، تلك التي يعود لها الفضل في تحديد هوية الفائز.

تبدو الديمقراطية الأميركية أمام آفة خطرة تسمى “الكذبة الكبرى”، والمتعلقة بفكرة تزوير انتخابات الرئاسة الماضية، والخوف كل الخوف من ترديد النغمة عينها بعد بضعة أشهر.

يذهب إدوارد فولي المتخصص في مجال القانون الدستوري لدى جامعة ولاية أوهايو إلى القول إن هناك ظاهرة جديدة في الانتخابات الأميركية، ويضيف “كانت هناك خلافات في شأن الثقوب غير الواضحة على بطاقات الاقتراع، كما كان الحال مع جورج بوش الابن وآل غور في عام 2000، وكثيراً ما أعيد فرز الأصوات في الانتخابات الأميركية، لكن فكرة الكذبة الكبرى، أي تزوير الانتخابات بالمرة، هي فكرة منفصلة عن الواقع، وباتت تشبه آفة اجتماعية”.

هل سيناريو 2020 يشاغب خيال الأميركيين عامة والجمهوريين بخاصة عما قريب؟

يقول فولي، “على رغم بشاعة المشهد في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، مع سفك الدماء والتمرد، لم تكن النتيجة يوماً محط تشكيك”، فيما رفض نائب الرئيس حينذاك مايك بنس في نهاية المطاف الخضوع لمطالب ترمب بأن يرفض أصوات الهيئة الناخبة من عدة ولايات خسرها الجمهوريون لصالح بايدن. ويتابع فولي بالقول “لكن إذا كان أعضاء الكونغرس في السادس من يناير 2025 يميلون لنهج الكذبة الكبرى، أي إنهم سيرددون من جديد أن بايدن والدولة الأميركية العميقة، قد قاموا بتزوير الانتخابات، وحرمان ترمب من رئاسة جديدة، ما يعني أنهم على استعداد لرفض نتيجة الانتخابات فحسب من أجل السلطة السياسية، فإن ذلك سيمثل التقويض المطلق للديمقراطية الأميركية العريقة.

هل هذه القراءات المتقدمة نوع من أنواع التنبؤات التي تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها؟ أي هل هناك بالفعل من يجهز الأوراق ويعد الملفات، بل أكثر من ذلك يقوم بتهيئة الأجواء لتحويل معركة سياسية انتخابية، إلى حالة من التآمر على الذات وعلى مستقبل أميركا برمتها؟

أصوات محذرة من قبل كاغان

السؤال هنا: أترى روبرت كاغان فقط هو أول من حذر وأنذر من سيناريوهات الديمقراطية المتدهورة والعنف المتوقع وتفسخ النسيج المجتمعي الأميركي عبر مشاهد متباينة من الاستقطابات المجتمعية في العقدين الأخيرين بنوع خاص؟

المؤكد أن هناك من سبق كاغان بالفعل في تقسيم أميركا إلى جيوب جمهورية وديمقراطية. مفكرون ثقات من أمثال صموئيل هنتنغتون وستانلي هوفمان حذروا في وقت مبكر من هشاشة أميركا بسبب النزعة الانفصالية السياسية والعرقية والثقافية والدينية. ولم يعد التماسك الوطني أمراً ذا قيمة كبرى، وربما أظهرت سنوات “كوفيد-19″، تصاعد الوزن النسبي لحكام الولايات، في مواجهة السلطة الفيدرالية التي يقف على رأسها الرئيس الأميركي، أي رئيس.

من هنا يحاجج الكاتب الأميركي رومالد سيورا بأن الأهمية غير المتكافئة التي توليها الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام لوظيفة الرئاسة الأميركية مضللة. فكثيراً ما كانت الحكومة الفيدرالية سلطة ضعيفة نسبياً أمام الكونغرس، ويتمتع الرئيس في نهاية المطاف بصلاحيات قليلة، على عكس نظيره الفرنسي. ويبدو المشهد اليوم متحولاً من سلطة ضعيفة إلى سلطة هشة، ذلك أن بضعة آلاف من المواطنين، وقد يصلون إلى ملايين، ومعهم عديد من السياسيين المحليين البارزين، يرون في حكومة واشنطن شرعية، لكن ومع ذلك يرفضون الاعتراف بها باعتبارها أعلى سلطة في البلاد.

أهو الذنب ذنب ترمب، أم أن رئاسة بايدن العجوز كما تطلق عليه وسائل إعلام يمينية أميركية، هي السبب في تدهور أحوال البيت الأبيض والرئاسة إلى هذا الحد؟

بحسب عديد من المراقبين السياسيين الأميركيين، فإن بايدن لا يتمتع خلال النهار كله، إلا ببضع ساعات من الصفاء الذهني، ويتم الاعتراض على مشاريعه بانتظام، إن لم يتم رفضها جزئياً من قبل غالبيته الديمقراطية.

هل نذيع سراً إن قلنا إن هناك في الداخل الأميركي من يعتبر بايدن ألعوبة في يد الرئيس السابق باراك أوباما، وأنه هو من يحركه إلى الدرجة التي يقال فيها إن ولاية بايدن الأولى، ليست سوى الولاية الثالثة لأوباما عينه؟

عرف الجمهوريون الذين ساروا وراء ترمب، ذاك الذي ما انفك يسمى الرئيس بـ”جو النعسان”، قبل أن يمضي لاحقاً مكيلاً له الاتهامات، عرفوا كيف يستغلون مثل هذه الثغرات في جسد رئاسته، وقاموا من ثم على عقد المقاربات بين ما يفعله من خنوع وخضوع أمام إيران والصين، كوريا الشمالية وروسيا، وبين ما كان من الممكن أن يؤديه ترمب لو أكمل ولايته الثانية.

ولعل ما يزيد الطينة بلة كما يقال، تصرفات الهواة التي تقوم بها النائبة كامالا هاريس، التي لا تجد لها مكانا متقدماً بين نواب الرؤساء الأميركيين، إذ اعتبر 60 في المئة من الأميركيين في أحد استطلاعات الرأي الأخيرة، بأنها غير كفؤة لمنصبها، الأمر الذي من شأنه أن يثير مشاعر كثير من الأقليات العرقية في الداخل الأميركي، ويجعل التصويت يمضي برسم عنصري لا ديمقراطي.

هل القول بالسير الأميركي الوئيد نحو العنف ومخاوف تفكك البلاد وتشرذم العباد عما قريب، قدر مقدور في زمن منظور، أم أن هناك سيناريو ما، ولو في ربع الساعة الأخيرة، عوضاً عن دخول الإمبراطورية في زمن انحدارها؟

ترمب وبايدن وسيناريو التواري

كثرت الأصوات التي ترى في مستقبل انتخابات الرئاسة الأميركية أمراً مهدداً لبقاء الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي تنبأ به من قبل يوهان فنسنت غالتونغ، عالم المستقبليات والسلام النرويجي، الرجل الذي تنبأ في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك أوصاله، وهو ما حدث بالضبط خلال أقل من عقد من الزمن.

غالتونغ عينه تحدث مسبقاً عن نهاية الفيدرالية الأميركية بحلول عام 2025، أي بالضبط وقت إعلان الرئاسة الأميركية التي تلي الانتخابات المقبلة.

والمعروف أن الرجل لا يلجأ إلى ضروب السحر للتوصل إلى مثل هذه النتائج، وإنما يعتمد على مصفوفات من الخوارزميات التي تقوده للقطع بما سيحدث.

في هذا الإطار، تكلم ويتكلم عديد من عقلاء أميركا، بأن أفضل طريق لتجنب السيناريوهات الأبوكاليبسية، هو تواري ترمب وبايدن عن ساحة العمل السياسي دفعة واحدة، مع وعد ملزم من الرئيس القادم، باستصدار عفو لكل منهما، ليمضيا في حال سبيلهما، مع نصيحة ملزمة ومشروطة، بأن أي مناكفات سياسية، أو تأجيج لمشاعر الجماهير الغاضبة عقب التصويت في نوفمبر المقبل، أمر سيضعهما من جديد في موضع المساءلة القانونية.

هل يمكن لهذا السيناريو أن يخفف من وطأة النزاع الأميركي الداخلي، أم أن الفتق اتسع على الراتق من جراء خلافات عرقية ومجتمعية أكبر وأخطر من مجرد منافسة، ولو برسم الثأر بين رجلين أو حزبين؟

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى