إحياء ذكرى يوم الأرض في (30 آذار) من كل عام، يستعيد في الذاكرة الوطنية الفلسطينية، تلك الانتفاضة الشعبية المُنظمة التي قام بها أبناء الأرض الأصليين في المثلث والجليل والنقب قبل ثمانية وأربعين عاماً، لمواجهة السياسات الصهيونية القائمة على مصادرة أراضيهم وتهجيرهم منها لاستكمال مشاريع الاستيطان والتهويد، وسقوط ستة شهداء وعشرات الجرحى برصاص الجنود الصهاينة في ذاك اليوم المجيد. بيدَ أن في دلالات وتجليات إحياء يوم الأرض، استحضاراً مكثفاً لسياق تاريخي طويل من محطات دفاع الشعب الفلسطيني عن أرضه، منذ أن شرَعت القوى الغربية الراعية للمشروع الصهيوني وعلى رأسها بريطانيا، في فتح أبواب الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين، وإقامة أول مستوطنة يهودية على أرض فلسطين وهي ريشون ليتسيون عام 1882، وتتالي عمليات الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، وبصورة أكثر دأباً وتسارعاً في الربع الأول من القرن العشرين، لاسيما في المرحلة التي أعقبت إصدار وعد بلفور عام 1917. ضمن هذا السياق الكفاحي الممتد على مر الأجيال، شهدت فلسطين منذ العام 1922 هبات وانتفاضات وثورات متواصلة، كثورة البراق عام 1929، والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 التي فجرّها استشهاد الشيخ عز الدين القسام ورفاقه، ودفاع أبناء المدن والقرى الفلسطينية عن أراضيهم، من هجمات المستوطنين والعصابات الصهيونية، خلال الفترة الأخيرة من الانتداب البريطاني، وخلال الحرب غير المتكافئة لصالح التشكيلات العسكرية الصهيونية عام 1948.
في كل تلك المحطات المشهودة قبل النكبة، كانت الأرض الفلسطينية هي جوهر الصراع وعنوانه وأساس كل القضايا والمشكلات الناجمة عنه، وما كان لدولة الكيان الصهيوني أن تنشأ كأمرٍ واقع بمنطق التآمر والاستقواء بأمريكا والغرب، لولا اعتمادها على منهجية الطرد الجماعي للفلسطينيين واغتصاب أراضيهم وممتلكاتهم، وتبني سياسات وقوانين غير مشروعة لتغطية عمليات النهب والاستيلاء الممنهج التي قامت بها عصابات آراغون وبالماخ وشتيرن وهاغاناة، والتي تشكل نواة وبنية هذا الكيان العدواني والاستيطاني والعنصري الهجين. بعد زمن النكبة وتحولاته الكبرى، بقيَّ الصراع على أرض فلسطين مستمراً ومتصاعداً، واتخذ داخل فلسطين معركة الدفاع عن البقاء والوجود، والتمسك بالهوية العربية الفلسطينية. إذ جاء يوم الأرض في (30 آذار من عام 1976) تعبيراً شجاعاً وعارماً عن تحدي الجماهير العربية في أراضي ال48، لكل سياسات المصادرة والابتلاع والتهويد والأسرلة، التي عانوا من ويلاتها وضروبها المأساوية، وتحولوا بسببها إلى مهجّرين داخل وطنهم. أما في مجتمعات اللجوء الفلسطيني، فقد شكّل يوم الأرض باعثاً ومحفزاً ثورياً كبيراً في تصليب الأفكار والبرامج الكفاحية للحركة الوطنية الفلسطينية في زمن نهوضها في تلك الحقبة.
بالعودة إلى كل المشاريع والمبادرات السياسية التي تم طرحها لحل القضية الفلسطينية، والتي انتهت بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، كان جلياً مدى خطورة تلك المشاريع والحلول التسووية على وحدة الأرض الفلسطينية، ليس فقط ضمن حدود فلسطين التاريخية ما بين النهر والبحر، بل وحتى ضمن حدود الكيان الفلسطيني المعترف به دولياً ما قبل الرابع من حزيران 1967. ليس هناك من دليل أوضح على استمرار وتصاعد الاستراتيجية الصهيونية في قضم وتهويد ما تبقى من الأرض الفلسطينية، من تضاعف الاستيطان والمستوطنين في مناطق الضفة الغربية والقدس في العقود الثلاثة التي تلت اتفاق أوسلو. ما يؤكد إن الصراع على الأرض الفلسطينية، بات أكثر ضراوةً وخطورةً تحت غطاء ” السلام والمفاوضات” مما كان عليه في المحطات التي سبقت تنازل القيادة الفلسطينية في أوسلو عن 78% من أرض فلسطين التاريخية، بحيث لم يؤدِ هذا التنازل الكبير وغير المسبوق، من تخفيف شهية المؤسسات الصهيونية بمختلف حكوماتها المتعاقبة، من ابتلاع الأرض الفلسطينية، بالمستوطنات السرطانية والجدار العنصري العازل، والطرق الالتفافية، وحرق أملاك ومحاصيل الفلسطينيين، وغيرها من إجراءات انتقامية وعقابية تتم بالتواطؤ بين الجيش وقطعان المستوطنين، لدفع الفلسطينيين إلى الهروب وترك أراضيهم وأرزاقهم.
تزامنت ذكرى إحياء يوم الأرض هذا العام، مع العدوان الصهيوني الوحشي على قطاع غزة، مع انكشاف المزاعم المفضوحة لحكومة الاحتلال “بأن حربها المتواصلة منذ ستة شهور ويزيد على قطاع غزة، تستهدف إنهاء حماس وتدمير الأنفاق والبنية التحتية للمقاومة “. إذ تُبين المستويات الفظيعة لحجم الإجرام والمجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق المدنيين الأبرياء في مختلف مدن ومخيمات وقرى القطاع، وتدمير آلته العسكرية لأحياء بأكملها، واستهدافه المشافي والمدارس والجامعات والجوامع والبنى التحتية والخدمية، وتقويض كل مقومات الحياة بلا هوادة، بأن ما يحدث فعلياً في غزة هو جريمة إبادة جماعية متواصلة، كما وصفتها العديد من المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها محكمة العدل الدولية، يتم ارتكابها عن عمد وتقصد من قبل القيادات الصهيونية السياسية والعسكرية والأمنية. في ضوء ذلك لا ينفك قادة الاحتلال في إقران ما يقوم به جيشهم في غزة، بتصريحاتهم العلنية عن الهدف الحقيقي الذي يسعون إليه من وراء ذلك، وهو تصحيح الخطأ التاريخي في عدم تحقيق رؤية بن غوريون التي طرحها عام 1955، والتي قامت وقتذاك على فكرة تهجير سكان غزة من خلال إنشاء ممرين: واحد للتهجير إلى مصر، والثاني للأردن. ورغم المذابح التي وقعت في غزة عام 1956 بموافقة فرنسية بريطانية، لتمرير رؤية بن غوريون، إلا أن الخلافات الدولية وعدم التوافق الإسرائيلي عليه، من العوامل التي أدت إلى فشل ذلك المخطط. اليوم رغم وجود خلافات وانقسامات بين الحكومة الإسرائيلية والمعارضة، على العديد من الملفات الداخلية، غير أنهم متوافقون جميعاً على تفريغ وتهجير أهل غزة، وإحياء مشروعهم القديم الجديد، بإعادة السيطرة على غزة، وإعادة احتلال واستيطان القسم الشمالي منها، وكل ذلك بذريعة ردودهم على عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي. في حين أن الصراع على الأرض هو محرق وهدف كافة المشاريع والإجراءات الصهيونية الغاشمة، التي تستهدف غزة اليوم، وبخطوات تزامنية مع مخططات الاحتلال في الضفة الغربية والقدس.
لم يدّخر الفلسطينيون دماً أو جهداً في دفاعهم المستميت عن أرضهم، ولا يمكن لكل حمولات اللغة ومجازاتها، أن تعبر عن حجم الأثمان والتضحيات الكبرى، التي يدفعها أهلنا في غزة، دفاعاً عن أرضهم المروية بأنهار من الدماء والدموع. إنها معركة وجود بكليّتها، ولذلك فإن مهام إفشال المخططات الصهيونية التي تستهدف أرض وأهل غزة، هي مسؤولية وأولوية وطنية على عاتق الفصائل الفلسطينية، التي عليها الإسراع قبل فوات الأوان في توحيد قرارها الوطني، على قاعدة تعزيز صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، والحفاظ على مبدأ المقاومة كحق مشروع للشعب الفلسطيني، لا يجوز التخلي عنه، وإنما كيفية تنظيمه واستخدام وسائله بتوافق وطني موحد، ومواجهة مشاريع التهجير والاستيطان، ببرنامج وطني لإعادة إعمار غزة، وتوفير مقومات الحياة والصمود لأهلها الأحرار، ولا مبالغة في القول: إن مصير الأرض الفلسطينية، يتوقف اليوم على مآلات الحرب الظالمة والغاشمة على غزة، وعلى خروج الشعب الفلسطيني منها أكثر قوةً وثباتاً فوق أرضه.
المصدر: موقع مصير