كان هناك رفض وإدانة للحرب الدائرة في غزّة ودعوات إلى وقفها من جانب روسيا والصين والدول التي باتت مصطفّة معهما في المعسكر القطبي “الجديد”، فبدت كأنها تعتبر رفضها للحرب كافياً لإعفائها من أي مسؤولية، حتى عندما توظّف موقفها في الصراع بين الأقطاب وفي إغراق المعسكر الأميركي – الغربي في ورطته الإسرائيلية. لكن الملاحظ أن قلق هذه الدول إزاء المجاعة الزاحفة في قطاع غزّة كان متواضعاً، شكلاً ومضموناً، إنْ لم يكن معدوماً، ربما لتجنّب أي تبعات من أي نوع قد تترتّب عليها، أو انسجاماً منها مع سياق سياساتها المعروفة عموماً بأدنى اهتمام بالأوضاع الإنسانية لشعوبها والشعوب الأخرى.
في المقابل، كان هناك تأييد غربي مطلق للحرب، استناداً إلى “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب”، وما لبث هذا التأييد أن تحوّل لفترة طويلة من الصمت و”الإحراج المكتوم” حيال المجازر والدمار وسياسة العقاب الجماعي التي وُصمت أخيراً باسمها الحقيقي، أي الإبادة الجماعية، ومع ذلك واصلت “دول القانون والديموقراطية” الصمت ولم تشأ الاعتراف بهذه التسمية، ولا بـ”جرائم حرب” أو “جرائم ضد الإنسانية”، رغم دفق الشهادات التي توثّق هذه الانتهاكات الجسيمة بالصوت والصورة. تعايش جميع المسؤولين الأميركيين والغربيين بالتزام صارم مع تحريم التلفّظ بعبارة “وقف إطلاق النار”، إلى أن بدأت الإشارات تصدر عن واشنطن – لكن بعد فوات الأوان – بأن كَيل التوحّش الإسرائيلي قد طفح: أعداد الضحايا والمفقودين والمصابين تجاوز المئة ألف، هندسة متعمّدة للتجويع والتعطيش وللحرمان من أي رعاية طبّية كغاية محدّدة للحصار الشامل، ودمار لكل معالم الحياة ومقوّماتها…
معلومات الأجهزة الاستخبارية وتحليلاتها، برقيات السفارات وتقارير منظمات الأمم المتحدة، كانت كافية ووافية لتصويب البوصلة وبلورة أي توجّهات أكثر واقعية، غير أن الغرائز الاستعمارية أعمت العقول وغلّبت سياسة الإنكار. وعندما بدأ شيءٌ من البصيرة يُستعاد كانت الكارثة الشاملة قد وقعت ولم يعد في إمكان الغرب أن يكبح جماح الوحش الذي صنعه ورعاه حتى أصبح يمنع علناً وصول الإغاثة الإنسانية ويقتل الساعين إلى الحصول عليها، بل يعود ثانيةً إلى المستشفيات ليُخرجها عن الخدمة متقصّداً التسبب بموت المرضى، كما يمارس الإعدامات الميدانية وأبشع أنواع التعذيب لمن يعتقلهم… وهذا بعضٌ من فظائع وجد الغرب نفسه شريكاً فيها بعدما غضّ النظر وأجاز الكارثة التي رآها مبرمجة وتنفّذ أمام أنظاره.
وحتى عندما راحت الإدارة الأميركية تكثر من الضجيج حول المجاعة وتستَهْوِل جرائم القتل بعدما شكّكت في أرقامها، إلا أنها لم تتخلّ عن دعم “أهداف الحرب”، وكأن جميع هؤلاء الضحايا كانوا مجرد “أضرار جانبية”. كذلك عندما راحت تُنزل الإغاثة جواً واعترفت بعدم كفايتها، فإنها لم تتراجع عن تجميد تمويلها لـ”الأونروا” ولم تدعُ إلى معاودة الاعتماد عليها واحترام حصانتها الدبلوماسية.
بين معسكري الغرب والشرق، وبين الأقطاب المتعددة والقطب الدولي الواحد، أطيحت أخيراً فرصة لوقف إطلاق النار. أي، واحدة بواحدة، “فيتو” مقابل “فيتو”… قالت روسيا والصين “لا” لمشروع قرار أميركي، بعد ثلاث “لاءات” أميركية لمشاريع بينها اثنان للإمارات والجزائر، والأخيرة انضمّت إلى “الفيتو” الروسي – الصيني في مناكفة غير مكلفة وغير مجدية. في المرّات السابقة ادّعت واشنطن أن قراراً في مجلس الأمن قد يسيء إلى مساعٍ تفاوضية لهدنة موقّتة، وهذه المرّة اعتبرت موسكو وبكين أن النص الأميركي مضلِّل وفيه إعادة ترويج لأهداف الحرب. “حماس” أيّدت هذا التفسير ورحّبت به. إسرائيل التي ترفض أي تدخّل لمجلس الأمن كانت ممتنّة لـ”الفيتو” المزدوج. وعدا أن هذه المبارزة الدولية نضحت بالكثير من العبث والعدمية على أرفع مستوى دبلوماسي، فإنه يصعب تحديد مَن الفائز فيها وما الذي يكسبه. أما الخاسر فهم أهل غزّة في كل الأحوال.
المبارزة الأخرى تدور حالياً بين الصديقين اللدودَين والحليفَين المتناحرَين، جو بايدن وبنيامين نتنياهو. الأول لم يتخيّل نفسه مقامراً يرهن إعادة انتخابه لولاية ثانية بتأييد أعمى لسياسي لا يؤمن شرّه، والآخر لم يعد يرى “زعامته التاريخية” لإسرائيل إلا مقرونة بصورةٍ لقادة “طوفان الأقصى” قتلى أو معتقلين، ومن أجل هاتين الزعامة والصورة يريد اجتياز الخطوة الأخيرة إلى رفح. ولا خلاف بين الحليفين على هذه الخطوة إلا في الأسلوب، إذ تقول واشنطن إن لديها بدائل من هجوم برّي قد يؤدّي إلى مذابح كبرى للمدنيين، ويعتبر نتنياهو أن الحليف الأميركي سكت عن المذابح التي مرّت ويتظاهر الآن بأنه يستفظع المزيد منها. لكن واشنطن تجزم بأنها تريد تفاهماً مع الإسرائيليين “لمشاركتهم سبل القضاء على حماس من دون عملية برّية في رفح”، أما نتنياهو فيتهم ديموقراطيي الكونغرس بأنهم يسعون إلى إطاحته بحرمانه من “نصر في رفح” بات على بعد مذبحة يراها مضمونة النتائج، فيما الديموقراطيون هؤلاء يتهمونه بالعمل على إفشال بايدن في الانتخابات الرئاسية وترجيح حظوظ منافسه دونالد ترامب…
خلال المحادثات هذا الأسبوع بين الإدارة الأميركية ووفد إسرائيلي يُفترض أن يتقرر مصير رفح، واستناداً إلى معلومات تعمّدت واشنطن تسريبها، فإن خطتها البديلة ترجئ أي هجوم لبضعة شهور، على أن يُصار خلالها إلى إعادة تأهيل مناطق شمال قطاع غزّة ووسطه لتسهيل عودة النازحين من الجنوب، وفي مرحلة ثانية لإخراج السكان من رفح إلى مناطق إيواء موقتة، وبعد ذلك يمكن أن يقوم الأميركيون والإسرائيليون بعمليات مشتركة ضد المعقل الأخير لـ”حماس”، بالتزامن مع عمليات أميركية – مصرية مشتركة لتدمير الأنفاق المفترضة وتأمين محور فيلادلفيا الحدودي. ولا تبدو هذه الخطة مناسبة للجانب الإسرائيلي، سواء لأنها تفترض عدم التقتيل والتدمير العشوائيين، أم لأنها ستُستبق بالدفع نحو استقرار الوضع الإنساني في غزّة. ولذلك أكد نتنياهو للوزير أنطوني بلينكن أن إسرائيل ستسيطر على رفح بدعم أميركي أو من دونه، أما الوزير فحذره من أن الهجوم سيجعل إسرائيل في عزلة دولية.
إذا توصّل الطرفان الحليفان إلى توافق على الخطة، التي لم يُعلَن كل تفاصيلها، فإنها تتطلب قبل كل شيء وقفاً لإطلاق النار وحلاً نهائياً لملف الرهائن والأسرى، لكن هذين الهدفين تعسّرا مجدداً في مجلس الأمن ومفاوضات الدوحة. وغداة الفيتو المزدوج الذي أطاح مشروع القرار الأميركي، قصد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش معبر رفح ليطلق نداءً يائساً آخر من أجل “وقف إطلاق نار إنساني”، فيما كان وكيله للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث يحذّر من أن “المجاعة أصبحت وشيكة في غزّة، وبمجرد إعلانها يكون الأوان قد فات”…
المصدر: النهار العربي