مع نهاية القرن التاسع عشر تقريباً، شهدت المدن العربية ظهور نخبة جديدة من البيروقراطيين والسياسيين في المجال العام وداخل السلطة، وربما سننتظر حتى فترة ما بين الحربين العالميتين في القرن العشرين، ليبرز دور هذه النخب بشكل أوضح، بوصفهم صناع الحياة السياسية والمؤسسات الاجتماعية والإنتاج الثقافي في المنطقة. عُرِف هذا العصر بـ»عصر الأفندية» وفق عنوان كتاب المؤرخة لوسي ريزوفا. فمن خلال اعتمادها «منهجية الأزبكية» وفق تعبيرها، الذي قضى منها تصفّح أطنانٍ من الورق المُتّسخ في مكتبات سوق الأزبكية للعثور عن كتابات هذه النخب، تمكنت المؤلفة من تعريفنا أكثر بحياة هذه النخب في البيت، وأسلوبها في الاستهلاك ومعتقداتها الدينية (إسلام الأفندية) وعلاقتها بالأفلام والكتب والناس والمواصلات والموسيقى. لكن يبدو أنّ حدود كتاب ريزوفا لن تتوقّف عند تعريفنا بهذا الجانب فحسب، بل أيضا فتح كتابها ومنهجها البابَ أمام دراسات أخرى في عالم استهلاك الأفندية، وما بعد عصرهم، وهذا ما نراه مثلا في أعمال المؤرخة الأمريكية آنا غول/جامعة ميرلاند الأمريكية، فغول متخصّصة في تاريخ الطعام والجندر في مصر والمغرب العربي والشرق الأوسط عموماً. وقد حاولت الاستفادة من ملاحظات ريزوفا حول حياة الأفندية، كما تبنت طقسها الأزبكي، من خلال الذهاب إلى مجلات وكتب ألّفها عدد من المهتمين بالطعام في نهاية القرن التاسع عشر، وحتى خمسينيات القرن العشرين، ما مكّنها من الكشف عن أدب كامل للأفندية عن الطعام وإعداده في مدينة القاهرة.
في دراسة لها حول العلاقة بين الأمة والامبراطورية في كتب الطبخ المصرية، لاحظت غول أنّه خلال النصف الأول من القرن العشرين، صدرت كتب جديدة عن الطبخ في مصر، وبعضها لنساء، وهذا ما لم نكن نراه في فترة ما قبل الحداثة، إذ لا نعثر إلى يومنا هذا على مخطوطة كتبتها إحدى السيدات عن الطبخ. بينما غدا الأمر طبيعيا في القرن العشرين. تعتقد غول أنّ كتاب «أصول الطهي.. النظري والعملي» لنظيرة نقولا (أبلة نظيرة) وبهية عثمان، قد يكون الكتاب الأكثر شهرة في عصر (كتب في الثلاثينيات) فقد استُشهِد به في النكات، وأُشِير إليه في المسرحيات والبرامج التلفزيونية.، إلا أنه لم يكن استثنائيا، بل كان جزءا من اتجاه أكبر في أدب الطهي العربي في مصر. كما اتّسمت هذه الكتب بعدة سمات أخرى، مثل تركيزها على نساء الطبقة الوسطى وزوجات الأفندية بوصفها أساس تشكيل الأذواق الجديدة للأمة المصرية. اعتمدت غول في تأريخها لهذا الأدب على 37 عنواناً تقريباً، عثرت عليها في مكتبات الأزبكية، أو بائعي الكتب على الأرصفة.
طبقات كتب الطبخ في مصر الحديثة
منذ نهاية القرن التاسع عشر، ازدادت أعداد الطلاب المصريين في الجامعات البريطانية، ويبدو أنهم تأثروا بالأجواء هناك، في ما يتعلق بثقافة الطعام وإدارة المنزل، خاصة أنّه في تلك الفترة كانت كتب الطعام ووصفاتها قد غدت شائعة منذ منتصف القرن الثامن عشر، وقد حاولت هذه النخب المصرية إنتاج كتب طبخ لتعليم الزوجات والأمهات المصريات أفضل السبل لتغذية الأمة الوليدة. وهنا يمكن القول إننا أمام موجتين من الكتب عن الطعام في مصر؛ الأولى تشمل الفترة بين 1892ـ 1919، حين أُسِّست ما يقارب ثلاثين مجلة نسائية، وبدا أنّ هناك بعض التداخل بين هذه المجلات وكتّاب الطبخ. وبدا أنّ هذه الكتابات موجهة بالأخص للأسر الثرية ـ ربات البيوت المستقبليات ـ اللواتي يمتلكن خادمات، لكن يتوجب عليهن الإشراف على النظافة والطعام في المنزل، لدعم فكرة مفادها أنّه لكي تزدهر مصر كدولة حديثة ومتحضرة، يجب على نسائها المتحضرات اتقان مبادئ إدارة المنزل. وعلى الرغم من أنّ هؤلاء الكتاب كانوا قد تعلموا جزءا كبيرا من هذه المبادئ من خلال احتكاكهم ببريطانيا، نراهم يؤكدون في كتبهم على ضرورة عدم تبني المبادئ الاستعمارية، أو الأوروبية بالجملة، وضرورة أن تكون الحداثة والإصلاح من داخل الأخلاق والقيم المحلية.
ويعد إبراهيم عبد الرؤوف، أحد الكتاب المصريين، مثال لهذه الرؤية. ففي كتاب له بعنوان «اللآلئ الدرية في التدبير المنزلي والقوانين الصحية» الصادر عن مطبعة الموعد، طبعة ثانية، 1922، نراه يبدأ كتابه بالدعاء الإسلامي التقليدي «بسم الله الرحمن الرحيم» مقدما الشكر لله على إرسال النبي محمد كمثال للبشرية. ثم يلقي اللوم على «زخارف الحضارة الحديثة» في «إلهاء فتياتنا عن شؤونهن المنزلية». وعند حديثه عن الطعام، نرى أقسام الأطعمة العربية والشرقية وهي تتناوب: من البسكويت والمعكرونة والحساء، إلى وصفات الكفتة والطاجن. ويبدو أنّ هاجس اعتماد لغة محلية للدعوة للحداثة ظل يشغل بال عبد الرؤوف، ما انعكس على أسلوبه في الكتابة عن الوصفات، من خلال الإكثار من ذكر أبيات الشعر العربي القديم، ما مثّل اختلافا عن كتاب الطبخ في فترة ما قبل الحداثة العربية، إذ غالبا ما حاول كتّاب تلك الفترة تدوين نصوصهم بالفصحى والعامية لتتناسب مع الشرائح كافة، بينما يبدو عبد الرؤوف مشغولاً أكثر بالكتابة لصنّاع الأمة الجديدة (الأفندية) الذين يتوجب عليهم أن يكونوا على معرفة جيدة بالأذواق العالمية، وأيضاً بكيفية الاستفادة منها لتطوير الوصفات المحلية.
جيل أبلة نظيرة
في نهاية الثلاثينيات، كانت هناك فتاة سمراء مصرية قد أنهت دراستها في معهد معلمات الفنون لدراسة فنون الطهي وشغل الإبرة في لندن. وقد تعرّفت خلال رحلتها هذه، على سيدة مصرية أخرى تدعى بهية عثمان، وعند عودتهما صودف أن أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة لتأليف كتاب عن الطهي تعتمده الوزارة. فاتفقتا على تأليف الكتاب معا، ليصدر بعنوان «أصول الطهي» في أكثر من 800 صفحة. ويمكن القول إنّه مع هذا الإصدار، كنا أمام الموجة الثانية من الكتابة عن الطبخ في مصر (1930ـ 1954) لكن ما ميزها عن سابقتها أنّها بدت موجهة إلى نساء دون خادمات، كما بدت أكثر تركيزاً على الطبخ.
ومما تتوقف عنده غول في كتابات هذه الموجة، اختفاء العناوين المنمقة والشعر الكلاسيكي للجيل السابق (كما وجدنا ذلك لدى إبراهيم عبد الرؤوف). كما تميزت هذه الكتب بمحاولتها تجاوز الوصفات المصرية الأوروبية للأعمال المطبوعة السابقة لتشمل الأطعمة من أماكن مثل الهند واليابان. واللافت أيضاً في كتاب نظيرة وبهية، محاولتهما وضع الطعام المصري في سياق عربي شرقي، يشمل الأطعمة الشامية. وهو مخيال كتابي، يبدو أنّ الهدف منه تشكيل هوية مصرية حديثة مطلعة على المعرفة الأوروبية، ومندمجة في النصف الشرقي من العالم العربي، ومتميزة عن ثقافات الطهي الافريقية الأخرى. ولذلك يمكن القول إنّ كتب الطبخ سبقت الناصريين مثلاً في خلق هوية مشرقية عربية لمصر بدلاً من الهوية الافريقية.
تاريخ ثقافي للطماطم في مصر
لن تتوقف آنا غول في قراءتها لعالم الطبخ عند حدود الخمسينيات، كما فعلت ريزوفا في كتابها عن الأفندية، وإنما حاولت تتبّع عالم الفترة في عصر ما بعد الأفندية، من خلال تتبّع تاريخ عالم الطماطم في مصر. في كتاب سيصدر لها قريبا بعنوان «باذنجان النيل: الطماطم وصناعة مصر الحديثة» تحاول غول تتبع تحول جديد في عالم المذاق المصري، من خلال انفجار عالم ثمرة الطماطم في مصر بعيد الستينيات، والتي هي بالأساس من فصيلة الباذنجانيات. فخلال الأربعينيات والخمسينيات، أصبح في إمكان المصريين الحصول على كميات أكبر من البندورة مقارنة بفترة العشرينيات والثلاثينيات، وهذا واقع تعكسه كتب الطبخ ووصفاتها. إذ لا تذكر كتب الطبخ في فترة العشرينيات صلصات كثيرة متعلقة بالطماطم، كما أنها تذكر الطماطم بوصفها خضارا موسمية لا تتوفر طوال السنة. لكن في الأربعينيات وحتى الستينيات مع ظهور مشاريع السدود، يمكن القول إنّ الطماطم أصبحت جزءاً أساسيا ويومياً من حياة المصريين، ويبدو أنّ هذا الأمر قد انعكس في جانبين؛ الأول في ما يتعلق بالمجلات والصحف، التي باتت تتحدث كثيراً عن الطماطم، كعنصر مرغوب فيه في وصفات وطبخات الطبقة الوسطى في مصر. والثانية تتعلق بكون الدولة وجدت في توفر الطماطم فرصة لفرض رؤيتها الذوقية والأيديولوجية أيضاً، من خلال تشغيل معاملها لصنع صلصلة الطماطم الجاهزة، وتوفيرها للنساء العاملات، اللواتي أصبحن جزءاً من عصر عبد الناصر، مقارنة بفترة الثلاثينيات والأربعينيات، التي بقي فيها دور النساء كما تراه النخبة متمركزاً في المنزل .
تلاحظ غول ، أنه على الرغم من تمكّن الدولة من إمداد الأسواق والمطابخ وتجهيزها بصلصة جاهزة؛ مع أنّ طهاة المنازل، والغالبية العظمى منهم من النساء، هم الذين أكملوا أعمال إطعام الأمة. علاوة على ذلك، فقد فعلوا ذلك بطرق لا تتوافق دائما مع المبادئ والتقنيات التي ظهرت في كتب الطبخ والوصفات المكتوبة المعاصرة، والتي أنتجت مؤسسات الدولة العديد منها في محاولة لتوحيد الأذواق الوطنية. إذ قام العديد من النساء بإضافة نكهات أخرى على الصلصات الجاهزة، أو خلق أنواع أخرى من الصلصات (التسبيكة مع الخضار) ما كان يعني عدم الالتزام بالمواد أو الوصفات الجاهزة. ومن خلال القيام بذلك، لم يرفضن بالضرورة سلطة الدولة أو يسعين إلى مقاومتها بالكامل. إنما وضعن أنفسهن كعناصر فاعلة ومنخرطة في تشكيل معنى الطعام المصري الشهي، وأيضاً في إنتاج طعام قائم على العاطفة والتجربة والحس، وليس فقط على طباخي الدولة ووصفاتهم.
المصدر: القدس العربي