أتيح لمعظم القراء الاطلاع على تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس في مراحل الدراسة المختلفة، قلة منهم واصلت الاهتمام بهذه الحقبة التاريخية والتخصص فيها بينما انصرفت الكثرة الغالبة لدراسة مختلف أنواع العلوم الأخرى. لذا بقيت صورة الأندلس في الذاكرة العربية المشتركة تاريخاً عاطفياً مبهجاً غائماً، وصورة لنموذج حضاري يتقدم ويتراجع في الذاكرة تبعاً للظروف السياسية والتاريخية التي يمر بها العرب. وقد تكرست هذه الصورة المنمذجة للأندلس في القرن العشرين بعد أن أسهم فيها كتاب وشعراء وروائيون عبر طرح رثائي موسوم بالحنين إلى مجد غابر.
ثم في خواتم القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين أسهم السلفيون عبر كتاباتهم في تكريس صورة الأندلس بوصفها فردوساً مفقوداً للمسلمين تحديداً، وباتوا يلوحون بحلم استعادته يوماً ما من خلال خطاب ديماغوجي يجافي أبسط قواعد المنطق والتاريخ، والسياسة أيضاً. وقد شكّل هذا الخطاب بمرور الأعوام مطلباً للجماعات الإرهابية التي راحت تنادي باستعادة الأندلس عبر أدبياتها (خطب أسامة بن لادن نموذجاً). وهو ما زود اليمين الغربي والإسباني تحديداً بالذريعة المناسبة لتبرير العداء للإسلام ومعاداة المسلمين وبروز ظاهرة الإسلاموفوبيا، وهذا ليس موضوعنا الآن.
لا حاجة بنا للتذكير بأننا لم ندرس تاريخ الأندلس -وكذلك الحقب التاريخية الأخرى- دراسة علمية بكل إسهاماته الحضارية الهائلة، بغناه ونقاط ضعفه، وما زالت قراءتنا إياه خطية أفقية، سردية لا تحليلية، وهذا ما يجعلنا محكومين بتكرار أخطاء الماضي بنجاح نحسد عليه كشعوب. إلا أن هذه الحقيقة ليست مبرراً لحجب حقيقة أخرى وهي الإسهامة العظيمة للعرب والمسلمين في تاريخ الإنسانية جمعاء، حقيقة ناصعة يشيد بها العالم بينما يسيء إليها بعض أبنائها.
ما دعاني إلى كتابة هذا المقال الوجيز هو الرغبة في لفت الانتباه إلى ما يشبه “الظاهرة” في السنوات الأخيرة في تناول تلك الحقبة التاريخية وسواها من الحلقات المضيئة في التاريخ العربي الإسلامي. أعني ظاهرة انتشار كتابات وحوارات ونقاشات متلفزة وعبر الفيديو ووسائل التواصل تبحث عن كل ما يسيء لهذا التاريخ ويبخس من قيمته، تارة بنبرة الجهل والتشكيك في الحلقات الإيجابية منه دونما تمحيص علمي، وأخرى بنبرة الاندحار والانسحاق حد الاستلاب أمام خطاب الآخر الاستعماري المتصهين الذي ينتقص من قامة العرب والمسلمين واسهامهم الإنساني والحضاري، مستغلاً مرحلة الضعف التي يمرون بها. يحدث هذا كله استجابةً لمشروع تذرية العالم العربي وتمزيقه ومحو هويته، عبر صراعات داخلية طائفية وعرقية أو احتلالات صهيو-امبريالية توسعية، تسهم فيها بعض القوى الإقليمية وتتخادم معها فئات نكوصية ظلامية محلية.
واللافت للنظر أن كثيراً من هذه الطروحات تأتي من أشخاص لا يملكون من التأهيل الأكاديمي والتخصص ما يسمح لهم بإطلاق الأحكام الاعتباطية المتسرعة والمتعسفة، من قبيل: “العرب عالة على الآخرين” وإن “الشرق تقليدي والغرب نقدي” أو “إن الإسلام والديمقراطية نقيضان”…، ومقولات متهالكة أخرى هي في حقيقتها ترديد لمقولات اليمين الغربي المتصهين.
سأتناول واحدة فقط من تلك المقولات: استبدال كلمة “الفتح” في المدونات العربية بـ “الاحتلال” أو “الغزو”، عبر تحليلات أبسط ما يقال عنها إنها تفتقر إلى المعلومة التاريخية الموثقة. ناهيك عن الطرح الذي يشي بجهل أخرق – حتى عندما يصدر أحياناً عن أكاديميين مزعومين- يبعث على الخجل نيابة عن الآخر، والغضب أيضاً، للسهولة التي يتم فيها انتقاد وتسفيه حقبة تاريخية امتدت أكثر من ثمانية قرون، كوجود فعلي لحضارة عربية إسلامية شاركت فيها أقوام وشعوب من أعراق وأديان أخرى. وقد شكّل هذا التفاعل الحضاري نموذجاً متفرداً لتعايش الأديان الثلاثة على مستوى التاريخ الإنساني باتت إسبانيا تزهو به في حاضرها، بعد أن بقيت لقرون طويلة تجهد في التعتيم عليه حتى نهاية حقبة الديكتاتور الجنرال فرانكو عام 1975 وحلول عهد الديمقراطية.
لن أتحدث هنا عن منجزات هذه الحضارة وما خلّفه المسلمون -عرباً وأمازيغ[2]أولاً ومن قوميات أخرى لاحقاً- من إرث إنساني متقدم في عصور الظلام الأوروبية، شمل شتى مجالات الآداب والعلوم والعمارة والفنون التي برع بها العرب والمسلمون، وما نقلوه من تراث الأمم الأخرى إلى الغرب الوسيط. وهو ما يقرّ به الغرب الأكاديمي الموضوعي ويشيد به من خلال مؤلفات كثيرة بشتى اللغات، وكتاب “شمس الله تشرق على الغرب”[3] للمستشرقة الألمانية سيغريد هونكه، أو مؤلفات المستشرقة آن ماري شميل، أو المستعرب الإسباني خوان بيرنيت في كتابه “ما تدين به أوروبا لإسلام إسبانيا” ومستشرقين ومستعربين آخرين كثر إنما هي غيض من فيض تلك الأصوات.
حضارة الأندلس أغنت تراث البشرية عبر الكثير من الشواهد والآثار العمرانية، والمؤلفات في الآداب والعلوم والفنون والفلسفة والطب والفلك والزراعة التي ما زالت حتى اليوم تحمل الأسماء العربية، وحتى على مستوى القيم الإنسانية الماثلة إلى الآن في الشخصية الإسبانية، كما أكد على ذلك عدد من الفلاسفة والمؤرخين الإسبان ومنهم المفكر أميريكو كاسترو والمستعرب أميليو غارثيا غوميث، وباحثون آخرون ممن انتهجوا أثرهما لاحقاً. وثمة آلاف من المخطوطات التي خلفها أدباء وفلاسفة وعلماء الأندلس في إسبانيا والعالم، ومن الدراسات والكتب الموضوعة عن هذه الحضارة وما بلغته من رقي وتقدم، حتى ليعيا الباحث عن ملاحقتها بالإسبانية والفرنسية والإنجليزية والألمانية ولغات لا عد لها، فضلاً عن العربية.
لذا سأكتفي بالتطرق إلى ظاهرة، هي نقيض ما يحدث لدينا في هذه الأعوام، تتعلق بدراسات المستعربين والمؤرخين الإسبان المعاصرين ممن انصبّ اهتمامهم وكرّسوا دراساتهم ونقاشاتهم، مستعينين بعلوم التاريخ والدين والأناسة، حول مدى دقة وصلاحية مصطلح “الغزو المضاد” Reconquista الذي يرد في تراثهم ومدوناتهم الإسبانية والذي تُرجم إلى العربية بمصطلح “حروب الاسترداد” التي شنّها ملوك أسبانيا والكنيسة على الحكم العربي الإسلامي في أسبانيا والتي انتهت بسقوط غرناطة، آخر معقل للمسلمين، عام 1492.
فقد تنبه مستعربون ومؤرخون أسبان منذ بداية القرن العشرين إلى أن الرواية الرسمية للسلطات الملكية والكنسية التي وصلت إليهم، تتحدث عن “غزو” و “غزو مضاد”[4]، في حين أن حالة أسبانيا آنذاك عندما دخلها المسلمون عام 711م – بخيانة من طرف دون خوليان حاكم سبتة، كما تقول الروايات التاريخية الأسبانية- لم تكن لتسمح لها بإطلاق مثل هذا التوصيف: “غزو”. ذلك أنها لم تكن دولة بل أراضٍ مقسمة تعاني الضعف والتوترات في ظل حكم القوط الغربيين الذين غزوها عام 414. وعلى الرغم من أن السكان كانوا من الكاثوليك إلا إن القوط الغربيين فرضوا عليهم عقيدة الآريوسية (طائفة دينية تعود إلى القرن الثالث نسبة إلى الكاهن آريوس، عدّتها الكنيسة الكاثوليكية مهرطقة لأنها حصرت الإلوهية المطلقة في الذات الإلهية وعدّت السيد المسيح عليه السلام نبياً فحسب). وهذه الرؤية مقاربة لطرح الإسلام، حتى إن العالم الفقيه ابن حزم الأندلسي لم يتردد في عدّها طائفة موحِّدة، لذا لم يكن هناك رد عنيف من قبل الإسبان على المسلمين القادمين.
وحسب المصادر التاريخية، لم تكن هناك مقاومة “للغازين” الجدد الذين استتبت لهم الأمور في فترة وجيزة ما بين الأعوام 711-718، لأنهم لم يرغموا المسيحيين أو اليهود الأسبان على اعتناق الإسلام، على حد قول المؤرخين، ومنهم المستشرق البريطاني مونتغمري واط في كتابه “تاريخ إسبانيا المسلمة”، وهذا الموقف نابع من كون الإسلام يعترف بأهل الكتاب من اليهود والمسيحيين ويعاملهم كأهل ذمة يكتفون بدفع الجزية مقابل حمايتهم وتأمين عيشهم وفق شرائعهم الدينية والاجتماعية الخاصة بهم.
لقد أطلق التاريخ الرسمي الإسباني في مرحلة متأخرة تسمية “الغزو المضاد” [5]على الحروب والاضطهاد والملاحقة والفظائع التي ارتكبتها محاكم التفتيش والسلطات الملكية بحق المسلمين واليهود بعد قرون من التعايش والتزاوج ما بين الإبسان والعرب والأمازيغ، ما بين المسلمين والمسيحيين واليهود الذين عاشوا في الأندلس، لتبرر عمليات التنصير القسرية في أعقاب سقوط غرناطة عام 1492، وصولاً إلى طردهم وإرغامهم على الرحيل إلى شتى المنافي إثر قرار الطرد الذي أصدره الملك فيليب الثالث عام 1609، بعد أكثر من ثمانية قرون من العيش المشترك، بذريعة الحفاظ على “نقاء الدم” المسيحي الذي تبنته الكنيسة آنذاك ودعمته السلطات الملكية.
أما أعداد المسلمين (الموريسكيين) ممن طردوا تدريجياً من شتى مناطق بلنسية وقشتالة وأراغون ومرسية وغرناطة، للفترة ما بين عام 1609 و 1613، فقد بلغ في أقل التقديرات 300 ألف شخص، تبعاً لمؤرخين معروفين ومنهم: الإسباني أنطونيو دومينغيث أورتيث والفرنسي برنار فنسنت المشهوريْن في مؤلفهما المرجعي “تاريخ المورسكيين: حياة ومأساة أقلية”.
واليوم ثمة أصوات إسبانية من باحثين ومؤرخين، تدعو لاستعادة حقوق الموريسكيين الأندلسيين ممن طردوا من إسبانيا ونكّل بهم، وهي أصوات مشروعة إذا ما أخذنا في الحسبان أن أسبانيا قدّمت في سبتمبر من عام 2015، على لسان ملكها فيليب السادس وبإجماع من قبل أحزاب اليمين واليسار، اعتذاراً تاريخياً عن طرد اليهود (السفاراد)، ومنحت أحفادهم حق الحصول على الجنسية الإسبانية تعويضاً لما لحق بأسلافهم من أذى واضطهاد. بينما ما زال حتى اليوم أحفاد الأندلسيين المشتتين في دول عدة منها المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وتركيا ينتظرون إعتذاراً تاريخياً مماثلا ورداً للاعتبار والحقوق.
ما ذكرته في السطور السابقة هو موجز لطروحات ونقاشات المستعربين والمؤرخين والباحثين[6] ممن يجتهدون الآن في التنقيب والتمحيص وإظهار تراث الأندلس والاعتراف به كجزء مضيء من تاريخ إسبانيا في محاولة موضوعية لإنصافه، في الوقت الذي نجد فيه أصواتاً عربية تراوح ما بين الجهل والانسحاق أمام الآخر -لئلا أقول والتخادم معه- تُعمل أقلامها معاول لهدم الذاكرة وعواملها الفاعلة في الشخصية العربية. وهو أمر تجدر الإشارة إليه والتنبيه له. هذا مدخل أولي ويبقى للموضوع تتمة في قادم الأيام.
[1] كاتبة ومترجمة وأكاديمية عراقية باحثة في الأدب الأسباني والأمريكي اللاتيني. هذا المقال ينتمي إلى مساحة البحث الشخصي في تراث الأندلس الذي ترجمت عنه عدداً من الكتب الأسبانية إلى العربية.
[2] الأمازيغ مكون أساسي في القوات التي عبرت المضيق إلى شبه الجزيرة الإيبرية (أسبانيا والبرتغال). إلا أن مشروع الأندلس قام أولاً على استلهام الحضارة العربية الإسلامية التي انطلقت من تراث الأمويين في دمشق، وتواصل لاحقاً باتباع نموذج بغداد في فترة الخلافة العباسية. وكانت اللغة العربية أداتها والمعبر عنها بامتياز حتى إن المسيحيين الأسبان أنفسهم كانوا يتحدثون بها ويكتبون في فترات تاريخية طويلة في مناطق الحكم العربي الإسلامي لأنها كانت لغة الثقافة والعلم آنذاك.
[3] ترجم العنوان إلى العربية بـ “شمس العرب تسطع على الغرب”.
[4] المستعرب أميليو غونثالث فيرّين، في كتابه”عندما كنا عرباً” الصادر عام 2018، ينفي حدوث “الغزو” عام 711 لأنه لم يحدث على نحو مباغت بل كان عملية تدريجية تمت من خلال التقدم والتغلغل الثقافي لحضارة متقدمة أداتها هي اللغة العربية، ومن خلال الأنشطة التجارية المتبادلة لمدن السواحل المتوسطية.
[5] في عام 1922 تحدث الفيلسوف الأسباني خوسي أورتيغا أي غاسيت في كتابه ” أسبانيا اللافقرية” -أسبانيا المفككة- بشيء من التهكم عن هذا المصطلح بقوله: “أنا لا أفهم كيف يمكن إطلاق تسمية “الغزو المضاد” أو “أعادة الغزو” على شيء استمر ثمانية قرون”.
” “…yo no entiendo cómo se puede llamar reconquista a una cosa que dura ocho siglos
[6] لا يقتصر هذا الجهد على الأفراد فقط بل هناك جامعات ومؤسسات رسمية وغير رسمية في أسبانيا تقوم بهذا الدور.
Comparte esto:
المصدر: المنتدى العالمي للغة العربية
I’ve been surfing online more than 3 hours today, yet I never found
any interesting article like yours. It is pretty worth enough
for me. Personally, if all web owners and bloggers made good
content as you did, the net will be a lot more useful
than ever before.
قراءة علمية دقيقة لتصحيح بعض المقولات والمحاضرات لمصطلحات أساسية حول فتح الإندلس وليس غزو المسلمين “عرب وأمازيغ ” وما إرتكبته “محاكم الفتيش والسلطات الملكية” بحق المسلمين بأنها “الغزو المضاد”، يجب اعادة الرؤية الصحيحة لدور الخلافة الأموية بالإندلس بعد التشويهات التي تمت وتتم ، لقد تم إعادة الاعتبار لليهود (السفاراد) وتقديم إعتذاراً تاريخياً لهم ولكن ماذا عن المسلمين الأندلسيين المشتتين بدول عدة هل سيتم إعتذاراً تاريخياً ورداً للاعتبار والحقوق مماثل؟.