“مكافحة الفساد”… شماعة النظام السوري لسحب أموال مسؤوليه

ريان محمد

تدور في الغرف المغلقة داخل العاصمة السورية دمشق هذه الأيام، الكثير من الروايات حول مصير رئيس الوزراء السابق في حكومة النظام عماد خميس، وإن كانت معظم هذه الروايات تؤكّد أنه موقوف على ذمة التحقيق بقضايا فساد ارتكبها خلال سنوات ترؤسه الحكومة، قبل تنحيته من قبل رئيس النظام بشار الأسد في 11 يونيو/حزيران الماضي، وتعيين حسين عرنوس خلفاً له.

وبحسب مصدر مطلع مقرب من دوائر أمنية في النظام لـ”العربي الجديد”، فإنّ “التحقيق مع خميس يتم عبر أحد الضباط المرتبطين بالقصر الجمهوري، وبتكليف مباشر من رئيس النظام بشار الأسد، في حين تتم متابعة التحقيق من قبل زوجته أسماء الأخرس الأسد مباشرة”. ولفت المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، إلى أنّ “أسماء عدة مسؤولين كبار في النظام من بينهم وزراء ومديري إدارات، ذكرت في التحقيقات على خلفية تورطهم بقضايا فساد كبرى تزيد قيمتها عن مئات ملايين الدولارات”. لكنه استدرك بأنّ “كل تلك الاتهامات لا تعني معاقبة جميع من يثبت تورطهم بتلك القضايا، فالنظام لديه معايير أخرى فوق القانون، أهمها الولاء الأعمى ورضا الدولة العميقة على الشخص، وهذا يفتح احتمالات عدة أهمها اختيار كبش فداء، غالباً ما يكون الشخصية الأضعف بين من تدور حولهم الاتهامات لتحميله كامل المسؤولية ويتم التخلص منه في ما بعد”.

وأوضح المصدر أنّ ذلك يتم من خلال “مسلسل معروف، بإخضاع الشخص المختار للإقامة الجبرية أو زجه في السجن، وسرعان ما يتم إعلان انتحاره أو موته جراء مرض عضال أو جلطة، وبالتالي تتحمل تلك الشخصية أخطاء وفساد مرحلة ما، ويكون موتها وأد لما تحمله من حقائق وأسرار من جهة، ومن جهة أخرى، تكون عبرة لغيرها من مسؤولي النظام إن كان أحدهم يفكر بالشذوذ عن الطريق”.

ويعود الفساد في النظام السوري إلى بداية استيلائه على السلطة عام 1963، إذ فتح “حزب البعث العربي الاشتراكي” بابه للجميع للتسلق على المناصب وجني المكتسبات مقابل الولاء الأعمى، وجراء عدم توفر الكوادر اللازمة لحكم البلاد حينها، وهو الأمر الذي تكرس مع تفرد حافظ الأسد بالسلطة لاحقاً، وزيادة سطوة الدولة الأمنية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بحسب حديث أحد القيادين البعثيين المعاصرين لتلك الفترة.

وقال القيادي الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، في حديث مع “العربي الجديد”: “كان حافظ الأسد يسمح بهامش من الفساد، يختلف من شخص لآخر، وبالطبع بشرط الولاء الأعمى، وكانت الأجهزة الأمنية توثق ملفات الفساد لتكون جاهزة عند الطلب، وهذا مقترن بمعايير الدائرة الضيقة والأسد بشكل مباشر، كأن يخرج مسؤول ما عن الطاعة أو أن يتجاوز الحدود المرسومة له، وهذا الوضع أيضاً محكوم بمدى القرب من الدولة العميقة لبنية النظام”. وبرر المسؤول السماح بهامش من الفساد بالقول إن “الأسد كان يعلم أن الرواتب في سورية لا تؤمن احتياجات المواطن الرئيسية، كأن يكون لدى الموظف أو المسؤول منزل أو سيارة مثلاً، فيعتبر ذلك كتعويض، خصوصاً أنه لن يضر بسلطته”.

ولفت إلى أنّ “ملف مكافحة الفساد طُرح كعنوان براق مع بدء تحضير الأسد الأب في نهاية تسعينيات القرن الماضي بشار الأسد لتسلم زمام السلطة، وهو العنوان ذاته الذي يطرحه النظام خلال الاستعصاءات والأزمات التي يعيشها، وقد يكون رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي أبرز الشخصيات التي تمت التضحية بها، تحت عنوان مكافحة الفساد عام 2000. إذ تمّ حينها إعفاؤه من رئاسة الوزراء عقب تربعه على كرسيها لنحو 13 عاماً، وطرد من حزب البعث ووضع تحت الإقامة الجبرية، لينتحر بثلاث رصاصات في الرأس بحسب ما تم تداوله حينها، ويدفن من دون أي مراسم عزاء”.

وأشار المتحدث نفسه إلى أنّ النظام “قدّم بعدها بشار الأسد على أنه مخلص السوريين من الفساد المستشري، بما يدعم قبوله رئيس سورية القادم بغض النظر عن مسؤولية والده عن هذا الفساد”. وتابع: “عقب موت الأسد الأب وتسلم الابن، يبدو أن خللاً كبيراً أصاب منظومة الحكم، فأصبح هناك العديد من مراكز القوى ومنظومات الفساد التي كسرت قوانين الفساد السابقة، وراحت تستشري وتخلق محدثي النعمة وواجهات المتنفذين في النظام. حتى أنّ الفساد لم يكن مادياً فقط، بل طاول مختلف جوانب الحكم والحزب، وأصبحت تصل شخصيات إلى مراكز حساسة، لا تحظى بالكفاءة ولا الإمكانيات ولا حتى الولاء الحقيقي”. وأضاف: “الدولة العميقة في النظام تشبه العقرب، لسعتها مميته، ومن السهل جداً أن تضحي بأزلامها مهما كبر شأنهم إن كان الظرف يحتاج ذلك. وما زال السوريون يذكرون وزير الداخلية غازي كنعان الذي انتحر في مكتبه عام 2005 بحسب رواية النظام، ورئيس شعبة الأمن السياسي اللواء رستم غزالة الذي سحقت عظامه في مكتب رئيس شعبة المخابرات العسكرية رفيق شحادة عام 2015، حيث نقل على إثر ذلك إلى المستشفى ليتم الإعلان عن وفاته جراء إصابته بمرض عضال”.

وفي نهايات العام الماضي، عاد الأسد للحديث عن مكافحة الفساد بشكل مكثف، حتى أنه قال في إحدى مقابلاته التلفزيونية التي بثت نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إنّ “الأولوية الآن لمكافحة الفساد بسبب الظروف الاقتصادية الحالية”، مضيفاً “لا يمكن أن نتحدث عن تطور الدولة من دون أن تكون هناك مكافحة فساد”.

ويبدو أنّ فقدان النظام للموارد وتسارع التدهور الاقتصادي، دفعه للتخلص من بعض الفاسدين الذين أطلق يدهم بنفسه، بهدف الاستحواذ على أموالهم، أو الأصح ما تبقى من أموالهم في الداخل. وكان عماد خميس رئيس الوزراء السابق، والمتهم بقضايا فساد اليوم، تحدث في شهر أغسطس/آب من العام الماضي، عن استعادة خزينة الدولة مليارات الليرات على خلفية محاسبة إداريين ورجال أعمال.

وفي نهاية العام الماضي، قال رئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية، محمد برق، إنّ قيمة المبالغ التي اختُلست من المال العام تجاوزت 5.8 مليارات ليرة (الدولار يساوي 1250 ليرة وفق السعر الرسمي، ويتراوح بين 2400 و2500 ليرة وفق سعر السوق السوداء)، وأنّ المبالغ المستردة وصلت إلى 1.5 مليار ليرة. في حين أشار أخيراً لصحيفة “الوطن” المقربة من النظام، إلى أنّ المبالغ المكتشفة والمطلوب استردادها لمصلحة الخزينة العامة للدولة من الجهات العامة، في القطاعين الاقتصادي والإداري، خلال العام الماضي 2019، تجاوزت 13.15 مليار ليرة سورية، إضافة إلى 425.37 ألف يورو و455.17 ألف دولار. ونوه إلى أنّ هناك 5.4 مليارات ليرة من تلك المبالغ سببها الفساد، لافتاً إلى أنّ عدد الجهات العامة التي خضعت لرقابة القطاع الاقتصادي في الإدارات والفروع بلغت 1209، منها 250 جهة عامة ذات طابع اقتصادي من شركات ومؤسسات، والباقي عبارة عن جهات فرعية مرتبطة بتلك المؤسسات والشركات.

وبدأ النظام في النصف الثاني من العام الماضي يشعر بتزايد الضغوط عليه ولا سيما الاقتصادية منها، فجاء تسريب الحجز الاحتياطي على أموال وزير التربية السابق هزوان الوز في يوليو/تموز 2019، إلى جانب 87 شخصاً من داخل النظام أو المرتبطين به مع زوجاتهم، بتهم فساد عدة تصل قيمتها إلى مئات مليارات الليرات، والتي سلط الإعلام الرسمي الضوء عليها بشكل لافت على غير عادته، فتسليط الضوء على مثل هذه القضايا كان محظوراً على الإعلام في مراحل سابقة من عمر النظام.

وأخذت جملة “مكافحة الفساد” تتردد على ألسنة كل أركان النظام، وطاولت الإجراءات عدداً من رجال الأعمال المتنفذين في النظام ومن ضمن الدائرة الضيقة داخله، ولا سيما رامي مخلوف ابن محمد مخلوف خال بشار الأسد، وأحد أبرز المتهمين بالفساد طوال عقود مضت. وأثارت الإجراءات المتخذة بحق مخلوف وما لحقها من حرب إعلامية بينه وبين النظام، جدلاً واسعاً بين مختلف شرائح المجتمع، خصوصاً أنّ مخلوف يعتبر واجهة اقتصادية للأسد، وأبرز المتنفذين في سورية، وأكبر رجل أعمال متحكم بجزء كبير من الاقتصاد السوري، لدرجة أن محاصرته والبدء بتصفية شركاته أثّر بشكل كبير على سعر صرف الليرة السورية.

وذهب بعض المراقبين إلى اعتبار أنّ ما حصل مع مخلوف لا يتعدى كونه مسرحية جديدة لما يسمى مكافحة الفساد التي تقودها أسماء الأسد، وقد يكون من بين أهدافها أولاً استبدال الواجهات الاقتصادية القديمة بأسماء جديدة مقربة منها، كابن خالتها مهند الدباغ الذي تسلم رئاسة مجلس إدارة شركة “التكامل”، لتجني مليارات الليرات شهرياً من جيوب السوريين عبر ما يعرف بالبطاقة الذكية الخاصة بتوزيع المخصصات التموينية والوقود، إضافة إلى تعزيز احتمال أن تكون الوجه الأبرز لتحل مكان زوجها في رئاسة الجمهورية إن قضى الحل السياسي بعدم ترشح الأسد مجدداً لمنصب الرئاسة.

وكان لرئيس الوزراء السوري الأسبق والمنشق عن النظام رياض حجاب، والذي أصبح أحد أبرز قيادات المعارضة السورية فيما بعد، رأيه الذي قدمه كشهادة عن استشراء الفساد في بنية النظام، على خلفية تصاعد مواجهة مخلوف – الأسد. وأشار حجاب عبر حسابه الشخصي بموقع تويتر في مايو/أيار الماضي، إلى أنّ بشار الأسد “أصل الفساد” في سورية، مضيفاً أنّ مظاهر الفساد تنامت إثر تبني سياسات رفع الدعم الحكومي و”تحرير الاقتصاد” عام 2005، ما أدى إلى إفقار السوريين وظهور طبقة حول بشار الأسد، مثلت واجهة لمصالحه الخاصة عبر شركات وقطاعات عدة يملك الأخير الحصة الأكبر منها.

وتابع قائلاً: “أحاط بشار الأسد ذمته المالية بقدر كبير من السرية، إذ كلف رامي مخلوف ووالده محمد بمهمة إدارة أمواله وخصص لهم الجزء الأكبر من عقود النفط التي كانت تذهب لحساباته الشخصية، ولحساب زوجته أسماء الأخرس التي كانت تتكسب من أموال الدولة وتدعم شخصيات فاسدة”. ولفت إلى أنّ “رامي مخلوف هو مجرد واجهة لمجموعة أخرى من المتأثرين بالإجراءات الأخيرة، أبرزهم والده محمد مخلوف وشقيقه حافظ، وقائد الحرس الجمهوري الأسبق اللواء عدنان مخلوف، وعدد من رجالات القصر الذين استحوذوا على الأجهزة الأمنية والعسكرية وعلى مفاصل الاقتصاد السوري لفترة طويلة”.

واستطرد حجاب: “بالإضافة إلى الخلاف القائم بين أسماء الأخرس ورامي مخلوف، هناك صراع آخر في الكواليس بين أسماء وماهر الأسد وزوجته منال جدعان. كما يدور في الخفاء صراع بين رجال الأعمال المحسوبين على آل الأسد، وآل مخلوف، وآل شاليش، ما يفسر إجراءات الاعتقال والحجر ومنع السفر”.

يشار إلى أنّ النظام يلاحق حالياً العديد من الشخصيات بتهم الفساد والعمالة، أبرزهم اللواء معن الحسين، قائد سلاح الإشارة في وزارة الدفاع التابعة للنظام، الذي تمّ إدراجه ضمن قائمة المتنفذين المقربين من مخلوف، بعد اتهامه بتسريب معلومات مهمة للأخير خلال الشهرين الماضيين، في حين تفيد مصادر من أوساط اقتصادية بأنّ النظام يبتز العديد من التجار عبر ملفات فساد وتهرب ضريبي لتحصيل مبالغ مالية كبيرة منهم، مقابل عدم ملاحقتهم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى