تغطّي حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرّة ضدّ الفلسطينيين في غزة على كل النقاشات السياسية في المنطقة العربية. ليس فقط لأن مقدار القتل والتجويع والتعذيب وشراسة التدمير وتعمّد إنزال أشدّ أذية ممكنة بالبشر والعمران والبيئة وسرقة البيوت والممتلكات وتدمير المدارس والجامعات والمستشفيات وكامل البنية التحتية تتخطّى في بربريّتها كلّ ما شهدناه في الحروب الكثيرة في العالم في العقود الأخيرة في فترة زمنية قصيرة وفي رقعة جغرافية صغيرة ومحاصرة تماماً، بل أيضاً لأن تداعيات هذه الحرب في فلسطين والمنطقة وعلى منظومة العلاقات الدولية ستكون بلا شكّ عميقة الأثر.
وإذا كان رصد هذه التداعيات ما زال مبكراً الآن (ولَو أن بعض معالمها بدأ بالظهور) إلا أنه في الحالة اللبنانية تكشّف عن مجموعة أمور طوت مرحلة واستهلّت أخرى مفتوحة على احتمالات عديدة، لا يُستثنى منها الاحتمال الحربي الواسع النطاق.
جبهة الجنوب والمعاناة اللبنانية
فتح حزب الله جبهة الجنوب اللبناني، دعماً لحركة حماس، في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، مستخدماً أسلحة متوسّطة ومستهدفاً مواقع عسكرية إسرائيلية وكاميرات تجسّس وأسوار مراقبة في منطقة مزارع شبعا المحتلة ومحيطها بدايةً، ثم في مواضع مختلفة على امتداد الحدود الجنوبية. كما سمح لمقاتلين فلسطينيين بالتسلّل والاشتباك مع الإسرائيليين خلف هذه الحدود.
بدا الأمر تخفيفاً للضغط عن جبهة غزة، كما قال أمين عام الحزب السيد نصر الله. وبدا أيضاً قتالاً محكوماً بمعادلة دقيقة وصعبة. إبقاء التوتّر والاشتباك الناري قائماً وفق مستوى منخفض أو متوسّط الحدّة، لا يوصِل إلى تصعيد خطير ومواجهة كبرى من جهة، ولا يتوقّف إلى أن تنتهي الحرب في غزّة من جهة ثانية.
أدّى ذلك على مدى أسابيع إلى تحوّل أنحاء جنوبية إلى مناطق عمليات عسكرية، ظلّت وتيرتها قريبة إلى ما أراده حزب الله، ومن خلفه إيران، وأمكن وقتها القول إن إسرائيل أيضاً لم تكن مستعدّة لأكثر مما جرى، ولَو أن فاعلية طيرانها الحربي والجيل الجديد من طائراتها المسيّرة آذت الحزب وأوقعت في صفوفه خسائر جسيمة، كما آذت بالطبع البلدات الجنوبية المستهدفة، واضطُرّت الحزب إلى تعديل بعض تكتيكاته وإدخال أسلحة أكثر دقة إلى المعركة.
على أن الأحوال لم تبق على هذا النحو. فقد قرّرت إسرائيل تبديل «قواعد الاشتباك» والضغط عبر توسيع اعتداءاتها النارية على جنوب لبنان والضرب في عمقه (وتخطّيه مرّة نحو بعلبك بعد أن تخطّته نحو ضاحية بيروت الجنوبية لاغتيال أحد مسؤولي حماس)، وقتلت صحافيين ومدنيّين عمداً. بهذا فُرِضت على حزب الله وتيرة اشتباكات يومية أعلى ممّا كان يريد واستخداماً أثقل للأسلحة.
وتهجّر أكثر من مئة ألف جنوبي من بيوتهم، مقابل تهجير عشرات الآلاف من مستعمرات وبلدات ومدن الشمال الإسرائيلي. وتبع هذا التصعيد نقل مسؤولين غربيين رسائل تهديد من تل أبيب مفادها أن وقف إطلاق نار سريع في الجبهة مع لبنان وانكفاء مقاتلي حزب الله إلى شمالي الليطاني، بمعزل عما يجري في حرب غزة، صارا شرطَي منع انفلات الأمور وذهاب إسرائيل إلى حرب كبيرة في الجنوب اللبناني.
هكذا انتقلنا منذ مطلع العام 2024 إلى مرحلة مفتوحة على احتمالات الصدام الواسع أو الوصول إلى هدنة تُطلق مفاوضات برعاية أميركية. وصار بوسعنا استخلاص أربعة استنتاجات رئيسية ممّا جرى حتى الآن.
الاستنتاج الأول، أن حزب الله وإيران ما زالا يحاولان تجنّب حرب شاملة، ويريدان إبقاء الأمور ضمن حدود التوتّر المنخفض والمتواصل إلى أن تنتهي «العمليات» في غزة. وهذا يؤكّد أن أسلحة الحزب الثقيلة معدّة للدفاع عنه وعن طهران حصراً، واستخدامها بالتالي لن يحصل إن لم يتهدّد أحدهما بشكل مباشر (أو يتهدّد ما يسمح بربط واحدهما بالآخر، كما جرى خلال الحرب السورية).
الثاني، أن الحزب الذي يعاني من خسائر في الأرواح والتجهيزات ويحاول استيعابها وإنزال خسائر مضادة بالإسرائيليين، يجهد للتكيّف الدوري مع المتغيّرات الميدانية التي تفرضها إسرائيل من دون مجازفتين. مجازفة الردّ العنيف الذي قد يُفضي تصعيداً أكبر لا يريده، ومجازفة الردود الضعيفة التي تُنهي مقولة الردع التي ينادي بها، وتعرّضه للمزيد من الضربات. والتكيّف هذا بالغ الصعوبة على المدى الأبعد إذ أنه استنزاف لموارده البشرية، يترافق مع قصف إسرائيلي أسبوعي لطرقات إمداده العسكري الإيراني عبر الأراضي السورية.
الاستنتاج الثالث، أن إسرائيل إذ وسّعت من جغرافيا قصفها، فصلت مسار جبهتها الشمالية عن حربها على غزة، وصارت تطالب بشكل واضح بخلوّ كامل منطقة جنوب الليطاني من قوات حزب الله وأسلحته إن بالاتفاق أو بشنّ حرب تدميرية بمعزل عن غزة ومصير الحرب عليها.
أما الاستنتاج الرابع، فهو سعي الأمريكيين والفرنسيين وغيرهم من الوسطاء إلى تجنّب سيناريو المواجهة الشاملة، وإعلانهم في الوقت نفسه احتمالات فشلهم في مساعيهم إن لم يقبل حزب الله بوقف النار، لأسباب ترتبط بوجود نزعات داخل حكومة نتنياهو تعتبر أن الفرصة متاحة الآن لضرب لبنان وإضعاف الحزب وإطالة أمد الحرب عامةً، بما يُبقي نتنياهو واليمين المتطرّف في السلطة ويخلق وقائع تفاوضية لاحقة تملك فيها تل أبيب أفضليات على جميع الجبهات. والأمريكيون والفرنسيون بهذا المعنى، المنحازون إلى إسرائيل تماماً في غزة، والأقل انحيازاً لها في لبنان، يفضّلون فصل «الساحتين» لإبقاء هامش ديبلوماسية لهم في سنة انتخابية معقّدة أميركياً وفي بلدٍ ما زال الفرنسيّون رغم عثراتهم يعدّونه قريباً إليهم ومرتكزاً لحضورهم الثقافي والديبلوماسي في المنطقة.
خصوم حزب الله وعجزهم
تُبيّن لنا هذه الاستنتاجات خطورة الوضع اليوم وغياب لبنان «الرسمي» عن الصورة بأكملها، وفداحة انتفاء كل حوار وطني ومبادرات داخلية، واكتفاء التكتّلات السياسية بتكرار نفس الشعارات، وانتظار ما سيأتي من الخارج من دون جهد للتأثير فيه أو حتى في شروط استقباله.
فلا خطاب حكومياً واضحاً يُشير إلى ضرورة تطبيق القرار الأممي 1701 على نحو يوقف إطلاق النار ويدعم انتشار الجيش اللبناني على الحدود الدولية ويفرض إنهاء التعدّيات الإسرائيلية على السيادة اللبنانية من خلال تحليق طيرانها الحربي والمسيّر بلا توقّف فوق الجنوب ومناطق أخرى منذ سنوات سبقت الأوضاع الحالية.
ولا خطاب القوى السياسية الكبرى، بما فيها خصوم حزب الله «السياديين»، يعطف على ما ورد مطالبات لأصحاب الوساطات الغربية والعربية بتسليح الجيش اللبناني على نحو جدّي وعدم الاكتفاء بالحكي عن نشره، وتوسيع صلاحيات قوّات حفظ السلام لمراقبة الحدود والانتهاكات الإسرائيلية لها، والسعي لإعادة البحث في تفعيل حوار داخلي حول رزمة قضايا، تبدأ بالرئاسيات وتصل إلى ملكيّة قرار الحرب والسلم وسُبل التعامل مع المستجدات في لحظات كاللحظة الحالية.
ما يُسمع من الحكومة ومن الأطراف السياسية المتعارضة عوض ذلك هو مزيجٌ من ترداد نظريّات تآمر بائدة، وتبسيط لفهم العلاقات الإقليمية والدولية المستجدّة، وبالطبع مزايدات لا تؤثّر في أي حال على أي مسار أو أي قرار أو أي وساطة.
وحتى لو عدّ البعض أن لا قدرة لهم أصلاً في التأثير على شيء في ظلّ استفراد حزب الله بالقرارات الاستراتيجية بناءً على سلاحه وحلفه الإيراني، وحتى لو قالوا أيضاً إن لا حلّ داخلياً ممكناً إن لم يضع الخارج ثقله لفرض ذلك، أو أقلّه تسهيله، يبقى أنهم قوى سياسية وواجبهم الفعل السياسي ومحاولته والإصرار عليه وتوليد الأفكار والمقترحات وتسويقها ومنحها مقوّمات الإقناع.
وهذا بالطبع لا يُعفي حزب الله من مسؤوليّته (بالتشارك مع حلفائه وخصومه) في وصول لبنان إلى حالة التهتّك التي يعيشها بعد تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية. لكنها مسؤولية صار يُكتفى بالإشارة اليومية إليها للتبرّؤ من كل عمل والتمنّع عن القيام بجهود تتخطّى الكلام العام والشعارات الصائبة أو الخائبة، المفصولة في الحالتين عن الواقع وتطوّراته.
في أي حال، ما بات ملحّاً الآن هو تبديل المقاربة الرسمية اللبنانية والعمل على جميع المستويات لتفادي كارثة ليس وقوعها مستحيلاً في ظلّ حكومة فاشية التوجّهات في إسرائيل، وفي ظلّ حسابات غير دقيقة عند حزب الله حول إمكانية قبول نتنياهو بالربط بين وقف إطلاق النار في جنوب لبنان ووقف الحرب على غزة، وفي ظلّ رهانات إقليمية خاطئة حول قدرة واشنطن الدائمة (إن أرادت) على ردع تل أبيب…
*كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي