في وداع الدكتور يوسف سلامة وهجاء اللجوء المضاعف

د. محمد نور

في بلد لجوئه الثاني السويد، بعد سورية، ودع الفلسطيني يوسف سلامة الحياة قبل أيام، تاركًا إرثه العلمي الإنساني في عائلته وطلابه، مع ما لا يُحصى من الضحكات، والسخرية الحاضرة في كل موقف عاشه مع القريبين والأبعدين. نكاد لا نصدق أن كل ذلك المزاج المرح الساخر نتج عن آلامه التي عاشها طفلًا، مع مرض في عينيه أفقده البصر، ومحنة اللجوء والفقر، ومتاعب التحصيل العلمي من الابتدائي، إلى الجامعي، والدراسات العليا، إذ كيف لكل ذلك الألم أن يستحيل ضحكًا؟ ومن أين لمن كابد كل تلك المشقات القدرة على تلوين أفق داكن أمام عينيه بكل تلك الألوان التي يعجز معظم المبصرين عن تصورها؟
هنا، في “ضفة ثالثة”، نستضيف مجموعة من طلاب يوسف سلامة، هم أساتذة في الفلسفة الآن، لكي يتذكروا روح أستاذهم، مستحضرين ما أمكنهم عمق ضحكته التي لا تُنسى، حتى وهم في صدمة ألمهم بفقدانه.


أحمد يوسف:
أكلت كل الكعك أثناء البهدلة
كنت أكره التأخر في المواعيد. ولهذا، كنت أصل إلى مواعيدي قبل الوقت. ثمة في التأخر في المواعيد شيء من قلة الاحترام. وكنت أيامها مدرسًا في الشام، وطالبًا في الوقت نفسه، أكمل دراستي العليا. وكان لدي في ذلك اليوم موعد مع الدكتور يوسف سلامة في بيته بعدما قبل الإشراف على رسالتي في الماجستير. كان الموعد في المساء فلم أشأ الذهاب إلى البيت بعد العمل، بل ذهبت إلى “مكتبة الأسد” أبحث عن مراجع لبحثي.
رأيتها من بعيد جالسة على طاولة في آخر قاعة في المكتبة. تظاهرت بأنها لم ترني، مع ذلك قررت الذهاب إليها لألقي عليها التحية. كان زعلنا قد كثر في تلك الأيام دونما أسباب وجيهة. ردت التحية ببرود، وعندما هممت بالذهاب سألتني: “وين رايح؟”.
قلت: “رايح أدور على مراجع للبحث”. قالت: “أصلًا أنا ما دخلني، فيك تروح وين ما بدك”. عندما قربت ساعة مغادرتي، اقتربت منها لأقترح عليها أن نأخذ فنجان قهوة معًا في كافيتريا المكتبة، إلا أنها رفضت. لم تقل شكرًا، بل قالت: “ما جاي عبالي”. ذهبت لوحدي. وعندما هممت بالمغادرة رأيتها قادمة دونما عزيمة هذه المرة وكأنها غيرت رأيها.
قلت: “يلعني شو مشتقلك”. قالت: “أي، يلعنك”. لم أفهم ردات فعلها، ولكنني تعودت منذ زمن بعيد على ردات فعل غير مفهومة وعلى كل ما فيها من تضاد. نظرت إلى ساعتي. تنهدت هي دونما كلام تنهيدة تجمع ما بين الملل والضجر وعدم الرضى مع شعور بالخذلان والإدانة… قلت: “عندي اليوم موعد مهم، خايف أتأخر وحابب كتير نحكي ونوتوت سوا”. قالت: “أي طبعًا مواعيدك أهم”.
كنت قد أخبرتها أن الموعد يخص رسالة الماجستير. فهمت أن المسألة في جزء منها غيرة. قررت في النهاية الذهاب بعد طول حوار عبثي خانتني فيه فطنتي أكثر من مرة. أبدو ساذجًا جدًا عندما أدافع عن نفسي في تبريرات وشروحات ضد تهمة غير معلنة. أنا لا أعرف ما الخطأ الذي ارتكبته، كل ما كنت أعرفه أنه ثمة خطأ ما وهو بالضرورة خطأي أنا.
عندما وصلت متأخرًا إلى موعدي، وجدت الدكتور يوسف يمشي في الغرفة غضبًا ذهابًا وإيابًا. وكانت على الطاولة ركوة قهوة يبدو أنه حضرها للقاء، وبردت، وإبريق شاي ساخن، وبعض الكعك، وكثير من الكتب. سألني: “شو يا أحمد، قديش الساعة؟”.
قلت: “ستة وشوي دكتور”. قال: “ستة وشوي وإلا سبعة إلا شوي؟”. لم أجبه. قال: “نحن موعدنا عالستة مش هيك؟”. لم أشأ أن أكذب، ولا أن أخترع التبريرات، فقد استنزفت طاقتي في مكتبة الأسد، فأخبرته بالحقيقة دونما دخول في التفاصيل. اضطر لحبس ضحكته، عن شفقة لا عن شماتة. جلس بعد طول وقوف. مد يده إلى صحن الكعك فلم يجد كعكًا. سألني: “شو، وين الكعكات؟”. “أكلتهن”، أجبته. فانفجر ضحكًا على طالب جاء متأخرًا عن موعده، وأكل كل الكعك أثناء البهدلة.

رشيد الحاج صالح:
سمك بهجت سليمان

في نهايات 2001 وبدايات 2002 وأثناء تمرير توريث بشار الأسد للسلطة فتح النظام السوري حوارا واسعا مع مثقفين وأكاديميين سوريين لتهدئة الخواطر وتأميلهم بأن الإصلاح والانفتاح السياسي قادمان. هناك من تفاءل وهناك من شكك. في هذا السياق طُلب من يوسف سلامة، مع مجموعة من المثقفين السوريين، حضور اجتماع “حواري” مع اللواء الدكتور بهجت سليمان في فندق الشام.
عندما التقيته قبل يوم من الاجتماع تناقشنا في الأمر، وقال إنه سيذهب، لكنه يخشى من غباء هذا اللواء، فهو مهووس بالتاريخ، ولديه نظرية بأن المنتصرين في التاريخ هم الأكثر غدرًا ودهاء ودموية. ثم أطلق ضحكته المعروفة بملء شدقيه، وقال: أخشى أنه دعانا لينفذ بنا مذبحة شبيهة بمذبحة القلعة التي نفذها محمد علي بالمماليك، هذا واحد “طاقق عقلو”.
أثناء الاجتماع المذكور، وعندما سأل النادل يوسف سلامة عن الوجبة التي يرغب فيها، طلب نوعًا غالي الثمن من السمك، فاستغرب بهجت سليمان الطلب، وسأل يوسف سلامة بخبث:
ــ هل تعرف هذا النوع من السمك؟
ــ سلامة: نعم.
ــ ولكن كم هو راتبك حتى تعرف وتأكل هذا النوع من الأسماك؟
ــ سلامة: 100 ألف ليرة سورية.
ــ كيف ذلك؟ راتبك حوالي 25 ألف ليرة سورية.
ــ سلامة: أقبض 25 ألف، ولكن راتبي الحقيقي 100 ألف.
ــ طيب، أين تذهب الـ 75 ألفًا، إذًا؟
ــ سلامة: تركبون بها سيارات مرسيدس أنتم (يقصد الضباط) وأولادكم.
طبعًا، فسر لنا سلامة جرأته بأن الوضع في سورية، في ذلك الحين، كان يميل إلى التهدئة لتمرير توريث السلطة لبشار الأسد؛ “في ظروف أخرى ما كنت لأخاطر بهذا الجواب”.
ذهب ذلك الجواب مثلًا بيننا نحن المحيطين به. وأصبح السؤال عن حقيقة أي شيء مدار تندر دائم. أثناء ذلك، دعانا أحدهم إلى وليمة عامرة، وكان معروفًا بتقتيره، فطلب مني يوسف سلامة أن أحدق في الشخص وأتأكد أنه هو بالفعل الشخص الحقيقي. غير أنه أردف ضاحكًا من الأفضل ألا تسأل عن حقيقته، وإلا قد نفقد الوليمة.

شهيرة شرف:
الوداع الأخير… آذار/ مارس 2024


منتصف آب/ أغسطس 2013، وقبل أن أناقش رسالة الدكتوراة بأسبوعين تقريبًا. لن أنسى الدكتور يوسف سلامة وهو يتنقَّل معي من مكتب عميد كلية الآداب، إلى مكتب الوكيل العلمي، إلى رئاسة الجامعة، ليقنعهم أن الموافقة على أبحاثي التي نشرتها في مجلات أردنية قد وصلت إلينا عبر الإيميل، وأنه غير ممكن أن أذهب إلى الأردن، كما طلبوا، لأحضر الموافقة باليد. فلم يكن الطريق حينها آمنًا بسبب الاشتباكات التي كانت في درعا بعيد انطلاق الثورة السورية. ولأن التنقل في دمشق أصبح شبه مستحيل في الآونة الأخيرة، بسبب كثرة الحواجز الأمنية، مشينا من كلية الآداب إلى البرامكة. كان يحدثني طوال الطريق عن دمشق قبل الانفجار العمراني الذي غير هوية المدينة، فيشير بيده قائلًا: “هذا الطريق كان كله شجر”. كان يحفظ شوارع دمشق عن ظهر قلب، وكنت أخجل من بصري أمام بصيرته، عندما كان يدلني على بناء ما في أحد الشوارع الدمشقية، وأعترف له بأني لا أعرفه، مع أنه كان قد مضى على سكني في دمشق حوالي ربع قرن. كنت أُذْهَل وأخجل، في الوقت نفسه، كلما قرأت له نصًا، عندما يطلب مني مثلًا “قبل صفحتين ارجعي اقرأي لي هذي الفكرة”، وكان يضحك ضحكة الواثق عندما أجيبه أن الفكرة لم ترد بعد. فالقراءة الجهرية، تفقد التركيز لمن اعتاد على القراءة الصامتة.
ودَّعتُه في دمشق، في نهاية عام 2013، وقفنا أمام البيت في البرامكة مع بعض الأصدقاء، كان الوداع قاسيًا، لأنه وزوجته وكلنا كنا مدركين أنهما لا يودعاننا، بل يودعان سورية. نظر من حوله ومشى بخطى ثقيلة، كمن لا يريد أن يغادر دمشق التي أحبها. ثم قال لي “منشوفكن قريبًا، وأكيد رح نلتقي”. في تموز/ يوليو 2018، زرته في مالمو في السويد، قضيت وقتًا ممتعًا برفقة العائلة. أجملها الرحلة التي قطعناها بالعبارة من “هيلسنبورغ” السويدية إلى “هيلسنبور” الدنماركية. ذهابًا وإيابًا لمرات عدة ونحن ننتقل بين السويد والدنمارك وهو يقول ضاحكًا: “صرنا بالدنمارك، حاليًا صرنا بالسويد…”. كان يطلق ضحكته التي تحمل في طياتها فرحًا بالحرية، ولكنها تشي بحزن دفين على واقعنا العربي. كنت على موعد معه لزيارة ثانية في لاهاي، نهاية شهر مارس/ آذار 2024.

محمد نور النمر:
تألم… كي تتعلم!

عندما ترافق يوسف سلامة لفترة طويلة، ستكتشف أنك لن تخرج من هذه الرفقة بحكاية، أو حكايتين، أو حتى عشر. فالحياة معه، بكل تفاصيلها ومواقفها، حكاية طويلة ومستمرة تستحق دائمًا أن تُروى. ولأن يوسف سلامة كان كل الحكاية فكم هو صعب أن أكتبها الآن من النهاية؟
عشرون عامًا مرّت منذ 2004، حين بدأت العلاقة مع “المعلم” تتطور منذ كنت تلميذًا أمام الأستاذ، ثم الصديق، ثم الأب. عشرون عامًا والعطش فيها إلى لقائه لم ينقطع. لقد كان اللقاء معه في كل مرة كما كان اللقاء معه أول مرة، إذ لا شيء سيحميك من تأثيره الساحر، وحضوره الباهي، وذكائه المتقد.
أذكر في البدايات أنني قلت له: أحب تواضعك! ردّ قائلًا: أنا لا أتواضع يا محمد… أنا على سجيتي هكذا. مع الوقت وكلما التقينا… كنت أفهم جوابه أكثر، فهو حقًا هكذا، جميل في المعشر، ظريف في الصحبة، صادق في النصح، وجاد في الفلسفة، يؤمن أن ماهية الإنسان في حريته، ولذلك فكما هو حر فأنت أمامه حر مثله.
كان حاضر البداهة دائمًا من دون تكلف، أو تصنع، وكانت ذائقة النكتة إحدى أهم تجليات حضور هذه البداهة حتى في أيامه الأخيرة. ورغم ما عاناه من ألمٍ لم يحتمله جسده فقد احتمله عقله الجبار. كنت رفيقه في الأيام الأخيرة في مشفى مالمو في السويد. وحين كانت وطأة الألم تزداد عليه ليلًا، كان يطلب مني أن أساعده في التحرك، علّ الألم يخف بعدما فقدت المسكنات جدواها. ومع كل وضعية أقترحها يخف الألم لبضع دقائق، ثم يعود شديدًا مرة أخرى، حتى استنفدنا كل الوضعيات الممكنة، فقلت له مازحًا: لم يبق من سبيل لتخفيف الألم إلا أن أغني لك. فأجاب: لا تفعل، إن غنيت ستقتلني. قلت: ألأن صوتي نشاز؟ قال: بل لجماله… والجميل قتّال.
استطاع سلامة أن يطوّع الألم ويتفوق عليه دائمًا، وعندما كان مشرفًا على كتابي عن المواطنة، ومع كل توجيه منه بالتعديل، وإعادة الكتابة، وزيادة البحث… كان يختم ملاحظاته قائلًا: تألم كي تتعلم. فأجيب: وبزيادة العلم سيزداد الألم.

خلدون النبواني:
هذي كلها بلد الرئيس

من كان له الحظ في رفقة يوسف سلامة حينًا من الزمن، يدرك كم كان الرجل حاد الذكاء، حاضر البديهة، في أسلوبه التهكمي الساخر. ليس الأمر كوميديا مبتذلة هنا وإنما تهكم فلسفيّ عميق بكل ما يتضمنه الأصل السقراطي لهذا المصطلح، لكن بأسلوب أكثر حضورًا وحدة ولذعًا في التعامل مع الواقع والتهكم عليه في محاولة إخضاعه. كنتُ من بين أولئك المحظوظين الذين سعدوا بصحبة يوسف سلامة سنين طويلة في سورية وفي المنفى، تلميذًا وصديقًا. يصعب إحصاء عدد كل تلك السهام اللاذعة التي كان يطلقها يوسف سلامة على نحوٍ مباغت بمهارة القناص الذي لا يخطئ هدفه في تفاعله الذكيّ مع موقف ما، أو ردًا على سؤال معين، أو نقدًا حارقًا يمكن أن يمر دون اعتقال لو لبس قناع النكتة والتورية الساخرة. كثير من المواقف التي لا يمكن نسيانها تدهمني الآن، لكن لا يمكنني روايتها جميعها علنًا مع الأسف، مع أنها كان يمكن أن تقدِّم صورة أوضح عن مدى ذكاء وسرعة بديهة سلامة ولطف حضوره.
ثلاثة مواقف مضحكة يمكن لي سردها هنا، مع تأكيدي على أن السرد، مهما كان وفيًا وذكيًا، لن يستطيع تقديم تلك الروح اللاعبة التي كانت لسلامة وقدرته الذهنية في التصويب دون خطأ ولو بسيط في قلب الهدف، حد قلب الحاضرين من الضحك على قفاهم من رشاقة وبداهة أسلوب الرجل التهكمي الفريد.
جاء مرّة إلى زيارتي في باريس، وكنا قد اتفقنا على لقاء بعض أصدقاء الراحل والراغبين بالتعرف إليه من السوريين والعرب المقيمين في باريس. دخلنا مكتب الدكتور المُستضيف ورحب الحاضرون بحرارة بيوسف سلامة بشيء من الاحترام المشوب بالوجل الذي تفرضه كاريزما الرجل. عرض علينا مستضيفنا شرب شيء مبتدئًا بسؤال يوسف سلامة إن كان يحب شرب القهوة. في مثل هكذا أسئلة فإنك تنتظر إجابة بسيطة بعبارة مجاملة رقيقة، مثل “يا ريت”، أو “أي والله”، أو اعتذارًا لطيفًا من قبيل: “معلش يا ريت تسمحلي هالمرة”… إلخ. لكن رد سلامة على سؤال رغبته بشرب القهوة جاء سريعًا وذكيًا ومثقفًا مفاجئًا للجميع، وما كان منه إلا أن تلا مباشرة بيت شعر للفرزدق وهو يرفع سبابته: “ما قال لا قط إلا في تشهده/ لولا الشهادة كانت لاءه نعم”. كانت تلك العبارة كفيلة لوحدها بإضحاك الجميع، وتلطيف الجو، وتحويل اللقاء الرسمي إلى جلسة أحبة يعرفون بعضهم منذ قرون.
في مناسبة أخرى، كنا لا نزال مجموعة من الطالبات والطلاب الشباب قد أقمنا منتدى ثقافيًا في جرمانا، ودعونا إليه الدكتورين يوسف سلامة، وأحمد برقاوي. ولأنها كانت الدعوة الأولى لهما، ولأنهما لا يعرفان العنوان، فقد اتفقت على لقائهما، هما القادمان بسيارة الدكتور برقاوي عند “ساحة الرئيس”، أول جرمانا تقريبًا. انتظرتهما طويلًا في عين المكان، لكنهما تأخرا تقريبًا 40 دقيقة عن الموعد. وحينما وصلا أخيرًا عاتبتهما بأن الجميع في انتظارهما، وأن الأكل قد برد، فأجاب الدكتور يوسف مباشرة: “يا أخي ضعنا للقينا ساحة الرئيس. سألنا واحد وين ساحة الرئيس؟ فقال لنا هذي كلها بلد الرئيس، فتفسحنا في ربوعها الواسعة”. كان يمكن لهكذا رد أن يحيل العتب صفرًا، وتبدأ سهرتنا الثقافية قبل أن نصل إلى اجتماع الأصدقاء.
في ذكرى أخيرة، كان في جلسة جمعتنا شخص متشدد دينيًا، كثير النقد، مما أثار حفيظتنا جميعًا وقد ذكر في جملة سرديته الهدائية الآية الكريمة التي تحض على اجتناب الخمر. فقال له يوسف سلامة مداعبًا بسرعة: يا أخي تفسيرك للآية خاطئ. اجتنبوه يعني خلوه جنبكم على طول. مما وضع حدًا للداعية الذي تركنا إلى حياتنا، وعاد هو إلى زاويته وحيدًا.

فدوى العبود:
دكتور هل تعرف أفلاطون؟
في 2009، وبينما كنت أصعد الدرجات نحو بيتي الجديد، وابنتي في حضني تزقزق فرِحة، أتاني اتصال بقبولي في الدراسات العليا (علم الجمال). طرت نحو الطابق الرابع، وخلفي ركض متعهد البناء مباركًا.
بعد أشهر التقيت به، كان فيلسوفًا حتى في طريقة شرب الشاي. وفي 2010، احترت في اختيار موضوع رسالتي، فسألني عن طفولتي! لم أعرف الرابط بين طفولتي ودراستي الأكاديمية. لكنه طلب مني في جلسة قهوة أن أتحدث عمّا يشغل ذهني في الحياة.
أخبرته أن التغير الذي يلّم بالأشياء والأحداث يشعرني بحزن غير مفهوم (لم أكن قرأت هيراقليطس الفيلسوف البكّاء).
طلب مني أن أتحدث من دون تفلسف عما يؤرقني بالضبط، فتذكرت حادثة طفولية (صديقاتي يلعبن لعبة عروس وأنا أجلس فوق صخرة أراقب تساقط أوراق شجرة التفاح. وأفكر أنهن سيكبرن أو يمتن ويتلاشى كل هذا). انتهيت من حكايتي، فصمت، ثم أعلن نهاية اللقاء.
في الجلسة التالية، وبعد حوار امتد لساعتين، اخترت دراسة الشعور عند جان بول سارتر، وانتقل النهر الهراقليطي إلى مجال الشعور والحرية الداخلية والوجود والعدم. وعلى امتداد أربع سنوات، صارت جلساتنا اكتشافًا لي، بحيث يؤكد لي: أن الفلسفة أن لا تمشي في إثر الآخرين. لم يقل هذه العبارات صراحة، بل عبر الفكاهة والروح المرِحة. كان سقراطيًا بالفطرة، ولم يكن مهووسًا بالمجد الشخصي، ولا بترك الأثر خلفه.
في 2012، أخبرته أن بيتي هُدم أمامي، فهمس: لا بيت إلا اللغة.
في آخر لقاء لنا، وقبل سفره بقليل، وفي جلسة وداعيّة، أردت تبديد الصمت، فقلت: دكتور تعرف أفلاطون؟
ضحك من قلبه، وبخفة دمه المعهودة، أجاب: والله يفترض أني أعرفه؟
أخبرته وأنا أضحك بأني ساذجة، فطمأنني وروى لي طُرفًا من سذاجات القديس أنسلم، ونهفات كانط. وجنون نيتشه وأردف: “على المشتغل في الفلسفة أن يحمل ذرة عقل وقنطار جنون”.
كانت الفكاهة وسيلته لا لتفكيك الواقع، بل لتفكيك يقينيات وأوهام العقل. أدرك مؤلف السلب واليوتوبيا أن السلب لا يفترض بناءَ بديل مفارق، وأن هدم يقين لا يستلزم بناء غيره، بل يمكننا أن نكتفي بالضحك والفكاهة والروح المرحة لمواجهة قسوة العالم ولا منطقيته. ومن خلاله، تعلمت أن الجواب الممكن لسؤالنا من يكون الفيلسوف هو: من لا يعرف أنه فيلسوف.

***

الدكتور يوسف سلامة:
ــ ولد الدكتور يوسف سلامة عام 1946، في قرية أم الزينات، قضاء مدينة حيفا في فلسطين.
ــ في الرابعة من عمره أُصيب بمرض الرَمَد الربيعي، مما أفقده البصر بشكل شبه كلي، فأنهى مراحل دراساته الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس المكفوفين بطريقة بريل.
ــ في عام 1969، حصل على بكالوريوس في الفلسفة من جامعة دمشق في كلية الآداب والعلوم الإنسانية.
ــ في عام 1975، حصل على شهادة الماجستير من كلية الآداب في جامعة القاهرة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، وكانت الرسالة بعنوان “المنطق عند إدموند هوسرل”، تحت إشراف الدكتور زكريا إبراهيم.
ــ في عام 1985، حصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة المعاصرة من كلية الآداب في جامعة القاهرة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، عن رسالة بعنوان “السلب واليوتوبيا… دراسة في هيغل وماركيوز”، تحت إشراف الدكتور حسن حنفي.
ــ في عام 1987، بدأ العمل في جامعة دمشق مدرِّسًا، ثم أستاذًا في قسم الفلسفة.
ــ ظل أستاذًا للفلسفة الغربية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم الفلسفة في جامعة دمشق حتى عام 2013.
ــ عمل أستاذًا للفلسفة الغربية والإسلامية في جامعة الزاوية في ليبيا من عام 1993 حتى عام 1996.
ــ أستاذ وباحث في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، من عام 2000 إلى عام 2012.
ــ في عام 2004، من شهر مارس/ آذار، وحتى سبتمبر/ أيلول، عمل باحثًا زائرًا في جامعة واترلو في كندا.
ــ أستاذ الفلسفة والدراسات العليا والبحث العلمي في الأكاديمية العربية في الدانمارك منذ عام 2015.
ــ في عام 2007، نال وسام السعفة الأكاديمية من مرتبة فارس من الحكومة الفرنسية.
ــ نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية في عمّان، من 1998 حتى 2011.
ــ نائب رئيس الاتحاد الفلسفي العربي، طرابلس ــ لبنان.
ــ رئيس تحرير مجلة “قلمون” للأبحاث والدراسات، التي تصدر عن مركز “حرمون” للدراسات المعاصرة.
ــ عضو مجلس أمناء مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
ــ عضو في منتدى الحوار الوطني الديموقراطي ــ ربيع دمشق 2000. وكان أول من دَعَا إلى تعديل المادة الثامنة من الدستور السوري.
ــ يقيم في مملكة السويد منذ عام 2013، وحتى رحيله في 4 مارس/ آذار 2024.

كتبه المنشورة:

ــ كتاب “الإسلام والتفكير الطوباوي… هل الإسلام يوتوبيا؟” 1991، صدر عن دار كنعان، دمشق. وأصدرته هيئة الأمم المتحدة باللغة الإنكليزية.
ــ كتاب “مفهوم السلب عند هيجل”، 2001، صدر عن المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
ــ كتاب “فينومينولوجيا المنطق عند إدموند هوسرل”، 2002، صدر عن دار حوران، دمشق.
ــ كتاب “من السلب إلى اليوتوبيا”، دراسة في هيجل وماركيوز، 2006، صدر عن دار حوران للطباعة والنشر.
ــ شارك مع مجموعة من الباحثين في إصدار كتاب “العلمانية العربية”، تحرير عطية مسّوح، 2009، صدر عن دار الينابيع ـ دمشق.
ــ اشترك في تأليف عدد من الكتب مع باحثين ومؤلفين آخرين، بعضها باللغة الإنكليزية.

المصدر: العربي الجديد/ ضفة ثالثة

زر الذهاب إلى الأعلى