نتابع، منذ خمسة أشهر، وفي كل لحظة، فصول المأساة الفلسطينية، مع كل مشاعر القهر والألم والشعور بالظلم والخذلان، خصوصاً مع وصول أكثر من مليوني فلسطيني إلى حافّة الإعدام، في معاناةٍ غير مسبوقة، مع قطع الماء والكهرباء والدواء والوقود، وفقدان أماكن الإيواء، مع تدمير البيوت وتخريب الطرقات والبنى التحتية، وأكثر من مائة ألف ضحية، بين قتلى وجرحى ومُصابين ومعتقلين، ومفقودين تحت ركام البيوت والمنشآت المدمّرة، إنه حكمٌ بالإعدام مع سابق التصميم من إسرائيل لكل أهل غزّة، ولغزّة المدينة ببنيانها ومدارسها، ومشافيها ودور العبادة فيها، ولكل أثر تاريخي.
ويفاقم من تلك المشاعر المحبطة أن تلك القضية صارت فُرجة للعالم، مجرّد خبر تتغيّر أرقام الضحايا فيه على شاشات التلفاز، ومسارح الدبلوماسية الدولية، بدون أن يستطيع العالم أن يفعل شيئاً، من الناحية العملية.
هذه المشاعر، وتلك المشاهد، ذاتها، شهدها السوريون وما زالوا، أيضاً، منذ أن تجرّأوا على التمرّد على السجن الكبير، أو منذ أن حاولوا الخروج من “جمهورية” الصمت، والأجهزة الأمنية والرعب، أي منذ انطلاق لسانهم، بطلبهم المشروع والعادل الحرية والكرامة والمواطنة، فإذا بالنظام يقابل “سلميّتهم” بآلته العسكرية، ويستجرّهم إلى ساحة معركةٍ لا توازن فيها، ويفتح البلاد على صراع مسلحٍ لكل طرفٍ فيه داعمون ومؤيدون، في حين لا يقف مع الفلسطينيين في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل عليهم أية قوى داعمة، ويدفع المدنيون في الساحتين، الفلسطينية والسورية، الثمن الكبير لهذه الحرب الدامية.
في الحالين، نحن إزاء حرب إبادة، ولا يمكن توصيفها بغير ذلك، فقد شرّد النظام أكثر من عشرة ملايين من السوريين، باتوا موزّعين في أصقاع الدنيا، كأننا إزاء ولادة تغريبة جديدة على قياس تغريبة الفلسطينيين، مع فارق أن سورية باتت ملعباً، أو مسرحاً، لعدّة دول، ولعدّة جيوش، ومليشيات متوزّعة الولاءات، فقد باتت سورية مستباحة، تماماً مثلما تستبيح إسرائيل أرض الفلسطينيين، من النهر إلى البحر.
لم يختلف شيء، فنحن إزاء نكبة فلسطينية جديدة، وحرب إبادة أخرى، في قطاع غزّة، وكنّا وما زلنا في سورية إزاء نكبة، وإزاء حرب إبادة، بمعنى الكلمة في الحالين، أيضاً، مع ملايين اللاجئين، والمحاصرين، ومئات ألوف القتلى والجرحى والمفقودين، والمعتقلين، والقتلى تحت التعذيب، وفي الحروب الجانبية، أو في تقاطع نيران، المليشيات المتقاتلة.
لم تشبع إسرائيل من القتل والتشريد والتجويع للفلسطينيين، بغرض إخضاع الفلسطينيين، وقتل كل معنى للحياة الإنسانية عندهم، وكذلك يتحمّل النظام السوري، وشركاؤه (روسيا بوتين وإيران خامنئي) مسؤولية ما حدث من قتل وتشريد وتبديد لمقوّمات الحياة للسوريين. الفارق المؤلم أن إسرائيل لا تفعل ذلك بشعبها (اليهود الإسرائيليين)، فهي تفعلُه بالفلسطينيين الذين صادرت أرضهم وحقوقهم ووطنهم وحرمتهم هويّتهم، أي إن الحرب في فلسطين بين محتل ومقاومين، في حين أن الحرب في سورية بين نظام وشعبه الذي يتوق إلى الحرية، وكانت ثورته من أجل أن ينالها الجميع من دون تمييز.
في الحالين، تضيّع إسرائيل القضية الفلسطينية، وتتلاعب بحقوق الفلسطينيين، بادّعاء أنها تدافع عن نفسها، وعن شعبها (اليهود الإسرائيليين)، كونها تعتبر نفسها دولة قومية لليهود، وأن لأمن هؤلاء أولوية قصوى، فهم “شعب الله المختار”، لذا هي تعتبر أن حقّ الدفاع عن النفس حصريٌّ لها، باعتبار الآخرين مجرّد كائنات فائضة، ليس لهم وجوه، ولا أصوات، ولا أرواح، فهم مكتومون تجرّؤوا على القول، أو مغيّبون حاولوا الحضور، بمعنى أن إسرائيل تحاول، في حرب الإبادة تلك، قتل الفلسطيني جسداً وروحاً، وقتل المكان والزمان والمعنى، وهذا ما تفعله في محاولتها إفناء غزّة، وتجريف معالمها، مع قتل أجساد الغزّيين، بالقتل المباشر، أو القتل بالجوع والبرد والعطش.
حصل هذا في المأساة السورية، المقيمة معنا، منذ 13 عاماً، أيضاً، في مسيرة مُفجعة، ومهولة، وفظيعة، ومرعبة، بكل المقاييس، إذ تقريباً تم محو نصف الشعب السوري، بالمعنيين، المباشر والمجازي، وجرى تطويب البلد للنظام، أو لمن يدور في حلقته، فنشأت طبقة أثرياء الحرب وشركاء الأسرة الحاكمة، وطفت أسماء صغيرة على السطح، وتحوّلت إلى حيتان كبيرة، ابتلعت اقتصاد البلد وثرواته، وبدّدت أحلام من تبقّوا من السوريين في فرص النمو والأمان والبقاء.
في الحاليْن، ثمّة حرف أو تلاعب بالسرديات، فإسرائيل تدّعي أنها ضحية، وأن الفلسطينيين إرهابيون، وهذا ما فعله النظام الذي يعتبر أنه الشرعية، وصاحب السيادة على البلد، وأن من تجرّؤوا عليه ليسوا مواطنين، وإنما مجرّد إرهابيين، أو أتباع مؤامرةٍ ترتّبها قوى خارجية. وفي الحالين، يجري تضييع قضية الحرية والكرامة والمواطنة والسيادة وحق تقرير المصير، في دهاليز المسارح الدبلوماسية، والمفاوضات التي لا تنتهي، فمفاوضات الفلسطينيين مستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود، ومفاوضات السوريين مضى عليها أكثر من عقد، ومع ذلك، لا تقارب تلك المفاوضات الأسس، إذ تظلّ تناقش الجوانب الشكلية، جوانب التهدئة المؤقتة، كما تصرّ إسرائيل، وجوانب خفض الصراع كما يصرّ النظام، إذ لا شرعية في الحالين لحقّ تقرير المصير ولا لحقوق الإنسان.
في الخضوع لمنطقي إسرائيل والنظام ورسالتيهما، وتمرير النكبتين الفلسطينية والسورية بدون عقاب، وبدون إنصاف للفلسطينيين وللسوريين، رسالة مؤلمة إلى العالم، أن السيادة للظلم والقهر، وليس للشعوب التي تريد العيش بحرّية وكرامة وسلام، كأننا نعود إلى عصر الظلمات مجدّداً مع فارق أن هذا العصر برعايةٍ غربيةٍ ما فتئت ترفع شعار حقوق الإنسان من دون أن تعمل على تطبيقها في حقّ السوريين أو الفلسطينيين.
المصدر: العربي الجديد