ليس من الضروري أن تكون من أنصار «حزب التحرير» الإسلامي حتى تؤيد الاحتجاجات العنيدة التي تنظمها نساء معتقليه لدى «هيئة تحرير الشام» منذ تسعة أشهر. فمن جهة تخلو هذه التظاهرات والاعتصامات من أي شعار حزبي، ومن جهة ثانية تدعو النسوة إلى الإفراج عن جميع السجناء «السياسيين» في إدلب، وإن كان أزواجهن وإخوتهن في مركز المطالبة بالتأكيد. لكنهن يحرّضن كل نساء المعتقلين على الانضمام إليهن في نشاطاتهن التي تدعو إلى حل «جهاز الأمن العام» في «الهيئة» ومحاسبة قادته وقائدها، أبي محمد الجولاني، الذي لا يتورعن عن وصفه بالعمالة والخيانة وتسليم المناطق للنظام وفتح المعابر معه. ويتوعدنه بسوء المنقلب وهنّ يحرقن صوره ويطأنها بأقدامهن، في مشهد علني متكرر يصعب على الرجال فعله دون أن تطالهم العصا الغليظة للأمنيين.
بدأت القصة في أيار 2023 عندما أطلقت «الهيئة» حملة أسفرت عن اعتقال العشرات من أعضاء «حزب التحرير» الذين كانوا يرفعون أصواتهم بالدعوة إلى فتح الجبهات ضد النظام، مما رأت فيه سلطة إدلب مجرد مزاودة تفتح الباب أمام فوضى عسكرية غير محسوبة العواقب، خاصة وأن الحزب نفسه لا يحمل السلاح تبعاً لمبادئه الثابتة.
يقبع هؤلاء في سجون أمنية عدة، ويتعرضون للتعذيب القاسي المعتاد في مراكز الاحتجاز هذه كما بات معروفاً. ومنذ اعتقالهم يدفع الحزب أعضاءه الآخرين، والأهالي عبر الروابط الاجتماعية، إلى الخروج في تظاهرات قلما أسفرت عن الوجوه ولجأت، غالباً، إلى التستر بالظلام أو التصوير من الخلف في حالة الرجال. فيما تُركت للنساء، المنقبات، فرصة إظهار الشجاعة بهتافات حماسية عالية السقف، متدثرات بالتقاليد التي تمنع التعرض لهن في مجتمع يزداد ذكورية.
والحال أن خطاب المتظاهرات لا يخرج عن هذا السياق رغم جرأتهن الاجتماعية والسياسية. إذ يقلن إن ما أخرجهن من بيوتهن هو تلكؤ الرجال وجبنهم عن القيام بواجبهم في مقاومة هذا الظلم. ويستغربن سكوت «الأحرار»، الذين سبق أن تحدوا نظام بشار الأسد العاتي، مما دفع «الحرائر» إلى القيام بواجب التحريض الذي يناشد الشرفاء والغيارى، ولا يتحرّج من استعادة نداء «وامعتصماه».
ربما يرجع عدم تمدد هذه التظاهرات، أو حصولها على مناصرة ذات بال، إلى هذين السببين؛ الأول هو النظر إليها كنشاط فئوي حزبي يخص أصحابه، والثاني أنها لا تحمل محتوى نسوياً يغري الناشطات في هذا المجال، ومنظماته، بالمغامرة في تأييد تظاهرات المنقبات. لكن «حزب التحرير» نفسه، وهو حزب لا يوصف بالبراغماتية عادة، تجاوز النقطة الأولى باقتصار الشعارات على ما هو عام ويمكن التوافق عليه بين خصوم «الهيئة» بعد أن أصبح، رغم قلة أعداده نسبياً، القوة المنظمة الوحيدة المعارضة لها في مناطق سيطرتها.
أما النقطة الثانية فتحتاج إلى تفصيل. إذ تعاني المنظمات النسوية، أو النسائية، في إدلب وعموم المناطق المحررة، من حملات من التشكيك والرفض والإدانة تضيّق من حركتها وتدفعها إلى تغيير أدبياتها وتجبرها على التفكير طويلاً قبل إقامة أحد نشاطاتها في بيئة كارهة ربما بادر أحد أفرادها، أو مجموعاتها، بأفعال من الإيذاء. ومن هنا رغبت هذه المنظمات في الحصول على ترخيص رسمي من «حكومة الإنقاذ السورية»، واجهة «هيئة تحرير الشام» المدنية، ليكون غطاء «قانونياً» يضمن لها حداً أدنى من الحصانة من اعتداءات متكررة تعرضت لها مقراتها على يد بعض المتشددين ممن يأخذون على «الهيئة» منح هذه التراخيص وحماية ما يرونه انحرافاً. وفي هذا الوضع الحرج تصعب مطالبة المنظمات العاملة في إدلب بمؤازرة نشاط ذي ملمح سياسي طالما أن وجودها على كف أحد عفاريت قيادة «الهيئة».
غير أن هذا لا ينطبق على ناشطات أو ناشطين من دعاة تمكين المرأة أصبحوا خارج البلاد ولا يخضعون لهذا الابتزاز. وربما أمكنهم، بقليل من الانفتاح، رؤية ما قد يناصرونه في هذه التحركات مع بيان اختلافهم عنها في الوقت نفسه. وربما أدى هذا التفاعل إلى اتفاقات أوثق أو إلى بعض التغيير فيها. وعلى كل حال فإن المحاولة لن تضر في حالة الجمود والإحباط التي يعانيها الناشطون والناشطات. خاصة وأن نزوعنا القيراطي الحذر منعنا من كثير من التجريب، وربما حوّل ما بين أيدينا من نضالات حية إلى آيديولوجيات صلبة.
في الشهر الأخير تلقت قضية هذه المتظاهرات دعماً من حيث لا تحتسب، بعد بروز قضية «العمالة» الكبيرة التي أدت إلى اعتقال عدد من كوادرها العسكريين من الصف الثاني، ثم ظهور آثار التنكيل الذي تعرضوا له على أجسادهم إثر الإفراج عنهم. مما حمل قيادة التنظيم على الاعتراف بوجود التعذيب في سجونها، ودفع كثيرين، من أصحاب الأصوات المسموعة، إلى المطالبة بإطلاق سراح «سجناء الرأي»، وخضوع المتهمين بقضايا تمس الأمن بالفعل لمحاكمات عادلة وظروف احتجاز لا تنتهك كراماتهم وحقوقهم الآدمية الأساسية.
ويبدو أن هذا أحد الاستحقاقات الجدية أمام «الهيئة» في مرحلتها الحرجة الحالية. إذ يشك كثيرون في تهمة العمالة التي طالت عدداً مريباً من كوادرها، ويستغربون قرار خروجهم المفاجئ وإعادة الاعتبار لهم، بأدلة غامضة في الحالتين، تحتفظ بها لجان معيّنة من قيادة «الهيئة» لا قضاة معلَنون عليهم بيان مستندات أحكامهم بشفافية وتمكن مجادلتهم فيها ضمن إطار «القانون».
وفي هذا السياق لم يكن دون دلالة تداول مقطع مرئي خاطبت فيه إحدى المتظاهرات البارزات عناصر الشرطة المتغافلين أمامها مؤخراً بالقول: «نحن مشكلتنا مي معكم… مشكلتنا مع جهاز الأمن… لا تكونوا عون مع الجولاني علينا… نحن نساء، ما سألتوا حالكم شو جرّ هي النساء عالساحات؟».
المصدر: موقع تلفزيون سوريا