كيف تزعزع وكالة المخابرات المركزية استقرار العالم‏؟

جيفري د. ساكس*‏      ترجمة: علاء الدين أبو زينة

العمليات المارقة التي تنفذها “وكالة المخابرات المركزية” لم تنته، حتى بعد الجرائم التي كشفتها “لجنة تشيرش” في العام 1975.‏

*   *   *

ثمة ثلاث مشاكل أساسية تعتور “وكالة المخابرات المركزية الأميركية” (سي. آي. إيه): أهدافها؛ وأساليبها؛ وإفلاتها من المساءلة. ‏

‏أهدافها العملياتية هي ما تعرفه “الوكالة” أو رئيس الولايات المتحدة على أنه في مصلحة الولايات المتحدة في وقت معين، بغض النظر عن القانون الدولي أو القانون الأميركي. ‏

‏وأساليبها، سرية ومخادعة. ‏

‏وعدم مساءلتها تعني أن وكالة المخابرات المركزية والرئيس يديران السياسة الخارجية من دون الخضوع لأي تدقيق عام. والكونغرس مجرد ممسحة أقدام، أو عرض جانبي.‏

وكما قال مؤخرًا مايك بومبيو، مدير “وكالة المخابرات المركزية” السابق، ‏‏عن الفترة التي قضاها في الوكالة‏‏: ‏‏”كنت مدير وكالة المخابرات المركزية. وقد كذبنا، وخدعنا، وسرقنا. كانت لدينا دورات تدريبية كاملة. إنه شيء يذكرك بمجد التجربة الأميركية”.‏

تأسست “وكالة المخابرات المركزية” الأميركية في العام 1947 خلفًا لـ”مكتب الخدمات الإستراتيجية” (OSS). وكان المكتب قد أدى دورين متميزين في الحرب العالمية الثانية، هما الاستخبارات والتخريب. وقد تولت وكالة المخابرات المركزية كلا الدورين. ‏

‏من ناحية، كان على وكالة المخابرات المركزية تقديم معلومات استخباراتية إلى حكومة الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، كان على الوكالة تخريب “العدو”- أي أيًا يكن من يعرفِّه الرئيس أو “الوكالة” على أنه العدو، باستخدام مجموعة واسعة من التدابير: الاغتيالات؛ الانقلابات؛ الاضطرابات المدبرة؛ وتسليح المتمردين، وغيرها من الوسائل.‏

وكان هذا الدور الأخير هو الذي أثبت أنه مدمر للاستقرار العالمي وسيادة القانون التي تتحدث عنها الولايات المتحدة. وهو دور تواصل “وكالة المخابرات المركزية” لعبه اليوم. وفي الواقع، تشكل “الوكالة” جيشًا سريًا للولايات المتحدة، قادرًا على خلق الفوضى في أي مكان من أنحاء العالم من دون التعرض لأي مساءلة على الإطلاق.‏

‏عندما قرر الرئيس دوايت أيزنهاور أن النجم السياسي الصاعد في أفريقيا، باتريس لومومبا، رئيس الكونغو المنتخب ديمقراطيًا، هو “العدو”، تآمرت وكالة المخابرات المركزية في خطة اغتياله في العام 1961، وقوضت بالتالي الآمال الديمقراطية لأفريقيا. وكان لومومبا بالكاد آخر رئيس أفريقي أسقطته وكالة المخابرات المركزية.

‏في تاريخها الممتد على مدى 77 عامًا، خضعت وكالة المخابرات المركزية للمساءلة العامة الجادة مرة واحدة فقط، في العام 1975. وفي ذلك العام، قاد السناتور عن ولاية أيداهو، فرانك تشيرش Frank Church، تحقيقًا في مجلس الشيوخ كشف عن الأعمال الجامحة لوكالة المخابرات المركزية، من الاغتيالات، والانقلابات، وزعزعة الاستقرار، والمراقبة، والتعذيب على طريقة منغليه** و”التجارب” الطبية.‏

تم مؤخرًا تأريخ ما فضحته “لجنة تشرشل” من المخالفات الصادمة لوكالة المخابرات المركزية في كتاب رائع للصحفي الاستقصائي، جيمس ريزن، بعنوان “‏‏آخر ‏‏رجل نزيه: وكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، والمافيا، وعائلة كينيدي؟ ونضال سيناتور واحد لإنقاذ الديمقراطية.***

‏حدث ذلك الفصل الوحيد من الرقابة على “الوكالة” بسبب التقاء نادر للأحداث.‏

في العام الذي سبق تشكيل “لجنة تشرشل”، أطاحت “فضيحة ووترغيت” بريتشارد نيكسون وأضعفت البيت الأبيض. وكخليفة لنيكسون، لم يكن جيرالد فورد رئيسًا منتخبًا وعضوًا سابقًا في الكونغرس يتردد في معارضة الامتيازات الإشرافية للكونغرس. ‏

‏وكانت “فضيحة ووترغيت”، التي حققت فيها “لجنة إرفين” بمجلس الشيوخ، قد مكَّنت المجلس أيضًا وأظهرت قيمة إشرافه على مراقبة انتهاكات السلطة التنفيذية. وكان من الأمور الحاسمة أيضًا أن ويليام كولبي تولى إدارة وكالة المخابرات المركزية حديثًا في ذلك الوقت، وأراد تنظيف عمليات “الوكالة”. وكان مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، جيه. إدغار هوفر J. Edgar Hoover، مؤلف المخالفات غير القانونية المنتشرة التي كشفتها أيضًا “لجنة تشرشل”، قد توفي في العام 1972.‏

هيرش يفضح عمليات (سي. آي. إيه) ضد الحركة المناهضة للحرب ‏

‏في كانون الأول (ديسمبر) 1974، نشر الصحفي الاستقصائي ‏‏سيمور هيرش‏‏ Seymour Hersh، ‏‏الذي كان آنذاك مراسلاً صحفيًا عظيمًا له مصادر داخل “وكالة المخابرات المركزية” نفسها، ‏‏سردًا‏‏ لعمليات استخباراتية غير قانونية نفذتها الوكالة ضد الحركة الأميركية المناهضة للحرب. ‏

‏بعد ذلك، قام زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ في ذلك الوقت، مايك مانسفيلد Mike Mansfield، وهو قائد كاريزمي صاحب شخصية، بتعيين تشيرش للتحقيق في انتهاكات “وكالة المخابرات المركزية”. وكان تشيرش نفسه سيناتورًا شجاعًا، صادقًا، ذكيًا، مستقلاً وجريئًا، وهي خصائص لا تتوفر دائمًا في السياسة الأميركية.‏

كان ينبغي أن يتم إرسال عمليات “وكالة المخابرات المركزية” المارقة إلى التاريخ نتيجة للجرائم التي كشفتها “لجنة تشيرش”، أو أن تخضع الوكالة على الأقل لسيادة القانون والمساءلة العامة. لكن هذا لم يكن ليحدث. ‏

كانت وكالة المخابرات المركزية هي التي ضحكت كثيرًا -أو الأفضل من ذلك، أنها هي التي جعلت العالَم يبكي- من خلال الحفاظ على دورها البارز في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بما في ذلك التخريب الخارجي.‏

‏منذ العام 1975، قامت وكالة المخابرات المركزية بعمليات سرية لدعم الجهاديين الإسلاميين في أفغانستان، والتي أدت إلى تدمير ذلك البلد تماماً بينما ساعدت ظهور تنظيم القاعدة.

ومن المحتمل أن تكون وكالة المخابرات المركزية قد أدارت عمليات سرية في البلقان ضد صربيا، وفي القوقاز ضد روسيا، وفي آسيا الوسطى ضد الصين، وكلها استخدمت الجهاديين المدعومين من الوكالة. ‏

و‏في العام 2010، أدارت وكالة المخابرات المركزية عمليات مميتة للإطاحة ببشار الأسد في سورية، مرة أخرى بواسطة الجهاديين الإسلاميين. ‏

منذ 20 عامًا على الأقل، شاركت وكالة المخابرات المركزية بعمق في جلب الكارثة المتصاعدة في أوكرانيا، بما في ذلك الإطاحة العنيفة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في شباط (فبراير) 2014، التي أشعلت فتيل الحرب المدمرة التي تجتاح أوكرانيا الآن. ‏

‏[تورطت وكالة المخابرات المركزية في أوكرانيا منذ العام 1948 في العملية “كارتل”، التي سميت فيما بعد “أيرودايناميك”].

وما الذي نعرفه عن هذه العمليات؟ فقط تلك الأجزاء التي كان المبلغون عن المخالفات، وعدد قليل من الصحفيين الاستقصائيين الجريئين، وحفنة من الباحثين الشجعان وبعض الحكومات الأجنبية، مستعدين أو قادرين على إخبارنا بها، مع معرفة كل هؤلاء الشهود المحتملين بأنهم قد يواجهون انتقامًا شديدًا من حكومة الولايات المتحدة.‏

‏لا ضوابط ولا حدود ‏

كانت مساءلة الحكومة الأميركية للوكالة، أو أي إشراف أو ضبط ذي معنى من الكونغرس ضئيلة إلى معدومة. بل على العكس، أصبحت الحكومة مهووسة بالسرية أكثر من أي وقت مضى، وكانت تسعى إلى اتخاذ إجراءات قانونية عدوانية ضد الكشف عن المعلومات السرية، حتى عندما –أو بشكل خاص عندما- تصف تلك المعلومات الإجراءات غير القانونية التي تتخذها الحكومة نفسها.‏

‏من حين لآخر، كان مسؤول أميركي سابق يقوم بإفشاء سر، كما كان الحال عندما ‏‏كشف زبيغنيو بريجنسكي‏‏ أنه‏‏ حث ‏‏جيمي كارتر‏‏ على ‏‏ تكليف وكالة المخابرات المركزية بتدريب الجهاديين الإسلاميين لزعزعة استقرار حكومة أفغانستان، بهدف دفع الاتحاد السوفياتي إلى غزو ذلك البلد.‏

‏في حالة سورية، ‏‏علمنا من بعض القصص التي نُشرت‏‏ في ‏‏صحيفة‏‏ “‏‏نيويورك تايمز” ‏‏في‏‏ العامين 2016‏‏ و‏‏2017‏‏ عن العمليات التخريبية التي نفذتها وكالة المخابرات المركزية لزعزعة استقرار سورية والإطاحة بالرئيس الأسد، بناء على أوامر من الرئيس باراك أوباما. ‏

‏كانت هذه قصة عملية سيئة المشورة ومضللة بشكل مخيف قامت بها وكالة المخابرات المركزية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، والتي أدت إلى عقد من الفوضى، وحرب إقليمية متصاعدة، ومئات الآلاف من القتلى، وملايين النازحين، ومع ذلك لم يكن هناك اعتراف صادق واحد من البيت الأبيض أو الكونغرس بالمسؤولية عن هذه الكارثة التي قادتها وكالة المخابرات المركزية.

دور سري كبير في أوكرانيا‏

‏في حالة أوكرانيا، نعلم أن الولايات المتحدة لعبت دورًا سريًا رئيسا في الانقلاب العنيف الذي أطاح بيانوكوفيتش والذي دفع أوكرانيا إلى عقد من إراقة الدماء، ولكننا لا نعرف التفاصيل حتى يومنا هذا. ‏

‏عرضت روسيا على العالم نافذة لرؤية الانقلاب من خلال اعتراض- ثم ‏‏نشر- مكالمة هاتفية‏‏ بين ‏‏فيكتوريا نولاند‏‏، مساعدة ‏‏وزير الخارجية الأميركي آنذاك (وكيلة وزارة الخارجية الآن) والسفير الأميركي في أوكرانيا جيفري بيات (الآن مساعد وزير الخارجية)، والتي خططا فيها لحكومة ما بعد الانقلاب. ‏

‏في أعقاب الانقلاب، قامت وكالة المخابرات المركزية سرًا بتدريب “‏‏قوات العمليات الخاصة” لنظام ما بعد الانقلاب الذي ساعدت الولايات المتحدة في جلبه إلى السلطة. والتزمت الحكومة الأميركية الصمت بشأن العمليات السرية لوكالة المخابرات المركزية في أوكرانيا.‏

‏لدينا سبب وجيه للاعتقاد بأن عملاء وكالة المخابرات المركزية نفذوا عملية تدمير‏‏ خط أنابيب ‏‏”نورد ستريم”‏‏، ‏‏وفقًا لسيمور هيرش‏‏، الذي يعمل الآن صحفيًا مستقلاً. وعلى عكس ما حدث في العام 1975، عندما كان هيرش يعمل مع ‏‏صحيفة “نيويورك تايمز”‏‏ في‏‏ وقت كانت فيه الصحيفة ما تزال تحاول محاسبة الحكومة، فإن “‏‏التايمز”‏‏ لا تتكلف الآن حتى عناء النظر في رواية هيرش.‏

لا شك في أن محاسبة وكالة المخابرات المركزية علنًا هي صراع شاق وحاد. ولا يجرؤ الرؤساء والكونغرس حتى مجرد على المحاولة. ولا تحقق وسائل الإعلام الرئيسة في عمل وكالة المخابرات المركزية، مفضلة بدلاً من ذلك اقتباس “كبار المسؤولين الذين لم تُذكَر أسماؤهم” والتستر الرسمي. هل وسائل الإعلام الرئيسة كسولة، أو منعزلة، أو خائفة من عائدات الإعلانات من المجمع الصناعي العسكري، أو مهددة‏‏، أو ‏‏جاهلة، أو كل ما سبق؟ من يعرف.‏

لكن ثمة بصيصًا صغيرًا من الأمل. وراءً في العام 1975، كان يقود وكالة المخابرات المركزية مدير إصلاحي. واليوم، يقود وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز، أحد كبار الدبلوماسيين الأميركيين القدامى. ويعرف بيرنز الحقيقة بشأن أوكرانيا، بما أنه شغل منصب سفير لدى روسيا في العام 2008 وأرسل برقية إلى واشنطن حول الخطأ الجسيم المتمثل في الدفع بتوسيع “الناتو” إلى أوكرانيا. ونظرًا لمكانة بيرنز وإنجازاته الدبلوماسية، فإنه ربما يدعم المساءلة المطلوبة بشكل ملحّ.‏

‏إن مدى الفوضى المستمرة الناتجة عن عمليات وكالة المخابرات المركزية التي انحرفت عن مسارها مذهل. في أفغانستان، وهايتي، وسورية، وفنزويلا، وكوسوفو وأوكرانيا وما وراءها، ما تزال الوفيات غير الضرورية وعدم الاستقرار والدمار الذي أطلقه التخريب الذي تمارسه وكالة المخابرات المركزية مستمرًا حتى يومنا هذا. ويجب على وسائل الإعلام الرئيسة والمؤسسات الأكاديمية والكونغرس التحقيق في هذه العمليات بأفضل ما في وسعها والمطالبة بالإفراج عن الوثائق للتمكين من المساءلة الديمقراطية.‏

‏سوف يشهد العام المقبل الذكرى الخمسين لجلسات استماع “لجنة تشيرش”. وبعد مرور خمسين عامًا الآن، وبفضل السابقة والإلهام والتوجيه التي قدمتها “لجنة تشيرش” نفسها، حان الوقت لفتح الستائر بشكل عاجل، وكشف حقيقة الفوضى التي تقودها الولايات المتحدة، وبدء حقبة جديدة تصبح فيها السياسة الخارجية للولايات المتحدة شفافة وخاضعة للمساءلة، وممتثلة لسيادة القانون على الصعيدين المحلي والدولي، وموجهة نحو السلام العالمي بدلاً من تخريب أوطان الأعداء المفترضين.‏

*جيفري دي ساكس Jeffrey D. Sachs: أستاذ جامعي ومدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، حيث أدار معهد الأرض من العام 2002 حتى العام 2016. وهو أيضًا رئيس شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، ومفوض “لجنة النطاق العريض المعنية بالتنمية” التابعة للأمم المتحدة.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: How the CIA Destabilizes the World

هوامش المترجم:

‏** جوزيف رودولف منغيلِه‏‏ Josef Rudolf Mengele: طبيب ألماني استخدم معتقل “أوشفيتز” كفرصة لمواصلة دراساته الأنثروبولوجية وأبحاثه في الوراثة، باستخدام السجناء لتجاربه البشرية. قام منغليه بتغذية وإسكان السجناء الذين يجري عليهم تجاربه بشكل أفضل من السجناء الآخرين، وتم إعفاؤهم مؤقتًا من الإعدام في غرف الغاز.

أسس روضة للأطفال الذين كانوا موضوعًا لتجاربه، بالإضافة إلى أطفال معينين من معسكر الغجر. قدمت المنشأة طعامًا وظروفًا معيشية أفضل من المناطق الأخرى في المعسكر، وتضمنت ملعبًا للأطفال. عند زيارة رعاياه الصغار، قدم نفسه على أنه “العم منغليه” وقدم لهم الحلويات، بينما كان في الوقت نفسه مسؤولاً شخصياً عن وفاة عدد غير معروف من الضحايا الذين قتلهم عن طريق الحقنة المميتة، وإطلاق النار، والضرب، وتجاربه المميتة.

***James Risen. “The Last Honest Man: The C.I.A., the FBI, the Mafia, and the Kennedys? and One Senator’s Fight to “Save Democracy.

المصدر: (كومون دريمز) / الغد الأردنية

زر الذهاب إلى الأعلى