“ميونخ للأمن”: الغرب أوكراني.. وغزة للعرب

د. سمير صالحة*

على الرغم من الكثير من المتغيّرات السياسية والعسكرية والاقتصادية لم يتبدّل الحوار تحت سقف “مؤتمر ميونخ للأمن” الذي انعقدت دورته الجديدة قبل أيام. خلافات الغرب لن تنتهي بل تتفاقم وتتزايد. والنظرة إلى الشرق هي عينها. فهل يبدّل الشرق من نظرته إلى الغرب ويذهب وراء صنع منصّته الأمنيّة لنفسه؟

طغت هواجس الأمن في أوروبا على أعمال النسخة الـ60 لمؤتمر “ميونخ للأمن” الذي أنهى أعماله قبل أيام. برز ملفّ الحرب في غزة. لكنّ الحرب في أوكرانيا ما زالت تشكّل الخطر الأكبر على أمن الغرب بشقّيه الأميركي والأوروبي.

نحن في الشرق نتخوّف من ارتدادات الحرب في قطاع غزة واحتمال انتقالها إلى جبهات أوسع، تماماً كما هو الغرب قلق من تمدّد رقعة الحرب في القرم وتمدّدها نحو دول أوروبية مجاورة.

غزة تقتحم ميونخ

صوت غزة في ميونخ مهمّ طبعاً، فالقيادات الغربية كلّها موجودة هناك وعليها أن تصغي لما يقوله أصحاب القضيّة. صوت قيادات الشرق في جغرافيّتهم بات أكثر أهمّية وضرورة، فهم في قلب الحدث ومركزه.

حان وقت الذهاب إلى ميونخ الغربية بشكل مغاير وبحلّة جديدة فيها الكثير من الشرق أوسطيّة أيضاً. حوار الندّ للندّ لا بدّ منه بعد الآن، فالغرب يتمسّك بلعب دور الطرف الوازن في ملفّات تعنينا بالدرجة الأولى وتسبَّب هو بإشعال الكثير منها، بينما الشرق الذي يملك الكثير من المؤهّلات والقدرات التي تجعله قويّاً يلجأ إلى ميونخ الألمانية طلباً للعون والنجدة.

حان الوقت لتبدِّل عواصم المنطقة طريقة تعاملها مع الغرب أيضاً. دعوتها إلى ميونخ مهمّة حتماً، لكن أن تكفّ عن حمل همومها ومشاكلها وتقرع أبواب المدينة بحثاً عن حلول لأزماتها، وهي قادرة على الوصول إلى ما تريده عبر بناء منصّة أمنيّة وسياسية واقتصادية، بات ضرورة حتمية بدل الاستنجاد بالغرب.

الحواجز التي يضعها البعض من الداخل الإسرائيلي والإيراني لا بدّ من تجاوزها وإزاحتها من الطريق، وهذا هو الخيار الوحيد الممكن للذهاب إلى ميونخ لطرح الحلول بدلاً من الاستعانة بالأفكار.

لا عودة لزمن هتلر

أضعفت ألمانيا جيشها بعد الحرب العالمية الثانية ورفعت نسبة دعمها لحلف شمال الأطلسي لطمأنة الجيران في أوروبا إلى أنّها لن تكرّر ما فعله هتلر في أواخر الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات. لكنّها كانت تحتاج إلى خطوة استراتيجية أكبر لطمأنة واشنطن، وهي تأسيس مؤتمر ميونخ للأمن ليكون القلب النابض لأميركا في أوروبا في مواجهة الخطر الروسي من جهة، والجسر الرابط بين الشرق والغرب خلف منصّة أميركية من جهة أخرى.

وُلد “ميونخ للأمن” إبّان الحرب الباردة عام 1964 بقرار الشريك والحليف الأميركي لألمانيا ولحماية مواقع وقلاع الأطلسي في أوروبا. قرّرت واشنطن لاحقاً توسيع المنصّة لتعلن أنّ الشرق هو بين أولويّات الغرب وتريده بين الحضور وأن لا يبتعد كثيراً.

ميونخ

تلتزم أوروبا باتفاقية التنسيق الاستراتيجي مع أميركا في عام 2004 وتتعهّد بعدم المشاغبة. يدبّ الخلاف وتتباين المواقف ويحدث التباعد بعد قرار التمدّد الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي الذي يوسّع الشراكة لتشمل 25 دولة مرّة واحدة. تغضب أميركا على الرغم من معرفتها أنّ ورقة الأطلسي بيدها وكلمتها هي التي ستكون مسموعة في النهاية. فما الذي فعلناه نحن في الشرق؟ ولماذا نلزم أنفسنا بقرارات أميركا وأوروبا التي تخطّط وترسم وتدعونا إلى التقيّد والتنفيذ؟ ولماذا لا يكون “ميونخ” للأمن الإقليمي هو من يتكفّل بأمننا في الشرق الأوسط؟

هل استيقظت ضمائر الغرب

أيقظت جرائم إسرائيل في قطاع غزة ضمائر الشعوب في الغرب أيضاً، لكنّها لم توقظ بعد العديد من القيادات السياسية ومراكز صنع القرار هناك من سباتهم. مؤتمر ميونخ كان فرصة ووسيلة لفعل ذلك، لكنّه رمى الكرة خارج الملعب كما فعل قبل عامين في ملفّ الحرب في القرم عندما سدّد نحو العارضة في الثواني الأخيرة للمباراة وتركها تطول حتى اليوم.

نحن في الشرق نتخوّف من اتّساع رقعة الحرب في المنطقة بعد انفجار الوضع في غزة ومخاطر انتقال الحرب إلى جبهات جديدة. وهم في الغرب يخافون اتّساع رقعة الحرب في أوكرانيا وتهديدات انتقالها إلى دول مجاورة تقحم الأطلسي في الصراع وتتسبّب بحرب عالمية ثالثة قد يكون البعض يخطّط لتقريب موعدها. إذاً نحن متساوون معهم في القلق فلماذا لا يكون من حقّنا صناعة المستقبل، خصوصاً بالشقّ الإقليمي الذي يعنينا؟

العقبات: إيرانية – إسرائيلية

يساعدنا الغرب على الخروج من ورطة إسرائيل في غزة والملفّ الفلسطيني، ونساعده على الخروج من المصيدة الروسيّة في القرم وارتداداتها الكارثية. هذه هي المعادلة التي لا يريد بعض القيادات الغربية قبولها أو الأخذ بها لأنّه يعتبر نفسه المخوّل والقادر على التأثير في الساحتين وصناعة المشهد الذي يريده هناك. تتراجع أميركا في منطقتنا. أوروبا غير موجودة تقريباً. إسرائيل هي أهمّ مَن يمثّل الغرب ومصالحه في الشرق الأوسط اليوم. إيران تحت ذريعة مواجهة السياسات الإسرائيلية تحرّك أدواتها في المنطقة لإبقائها دائمة السخونة. إذاً العقبة أمام التفاهمات والتنسيق الإقليمي إسرائيلية وإيرانية بقدر ما هي أميركية وأوروبية.

تحذّر توصيات مؤتمر ميونخ من تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، وتعبّر عن الخوف من “اندلاع حريق إقليمي هائل”، مع أنّ القرم هو المشتعل وحالة الاستنفار التامّ بين روسيا والغرب في ذروتها والأطلسي يضع اللمسات الأخيرة على دخوله المباشر للحرب ضدّ الكرملين.

يريد الغرب إقناعنا بأهمّية مناقشة السلام في الشرق الأوسط بينما الجميع يتابع وحشيّة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. يحرّك سفنه لحماية “حقّ” إسرائيل بالاستفادة تجاريّاً من مياه البحر الأحمر، لكنّه لا يتراجع عن تقديم كلّ أنواع الدعم العسكري واللوجستي والسياسي لها لمواصلة حربها ضدّ سكان القطاع، وتجاهل تحذيرات دول الخليج من مواصلة لعب أوراق أدوات إيران في اليمن.

شكري: تقصير دولي لحماية السلام

يقول الممثّل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنيّة للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إنّ “إسرائيل لا يمكنها هزيمة حماس بالقتال”. لكنّ اللافت هو إعلانه أنّه “إذا أردنا أن نلعب دوراً جيوسياسياً في القضية الفلسطينية، فنحن بحاجة إلى أن نكون أكثر اتّحاداً، كما هو الحال في الملفّ الأوكراني”. لم يحدّد طبعاً من هو المعنيّ في رسالته، لكنّها كافية لتذكير دول المنطقة بأولويّاتها الأمنيّة والسياسية للتخلّص من حالة وضع اليد الغربية عليها.

ما هي المشكلة في أن “تستعير” دول الإقليم “قاعدة ميونخ”، المعمول بها منذ عقود في الغرب والتي تتحدّث عن المشاركة والتفاعل، والتفاوض المباشر ببراغماتية علنيّة أو سرّية لحلّ الصراعات للخروج من الأزمات المزمنة التي تعيشها دول المنطقة.

أليس هذا ما فعله الغرب في الأربعينيات للخروج من حالة الحرب؟ ما المشكلة أيضاً في تحويل الطاولة المستديرة التي تابعناها في ميونخ تحت عنوان “بزوغ حقبة جديدة؟ منظومة السلم والأمن الإفريقية في عالم متغيّر”، وتحدّث فيها وزير الخارجية المصري سامح شكري عن التحدّيات الراهنة التي تواجه القارّة الإفريقية في مجال السلم والأمن، وقال خلالها إنّ “التحدّيات القائمة تكشف بوضوح أوجه القصور في الأطر الدولية لتحقيق السلم والتنمية المستدامين… وتتيح المائدة المستديرة فرصة مؤاتية لحوار بنّاء حول كيفية تطوير وتعزيز فعّالية الجهود الدولية والإفريقية لدعم السلم والأمن الدوليَّين في مواجهة الأزمات المتداخلة”، وتحويل كلّ ذلك إلى طاولة حوار إقليمي شرق أوسطي تبحث فرص التنسيق والتعاون؟

أوقظت جرائم إسرائيل في قطاع غزة ضمائر الشعوب والأمم والمنظّمات الإقليمية والدولية، لكنّها لم توقظ بعد العديد من القيادات السياسية ومراكز صنع القرار في الغرب.

كان “مؤتمر ميونخ” فرصة ووسيلة لفعل ذلك، لكنّه رمى الكرة خارج الملعب باتّجاه المدرّجات، تماماً كما فعل قبل عامين في ملفّ الحرب في القرم وتجاهل احتمال اندلاعها في اليوم التالي لمغادرة الحضور، عندما سدّد باتّجاه العارضة في الثواني الأخيرة وترك المباراة تطول حتى اليوم. المشهد يكرّر نفسه على خطّ القرم – غزة، والغرب لا يريد حسم الملفّين على الرغم من مخاطر انفجارهما الإقليمي والدولي، فلماذا كلّ هذه اللقاءات والمشاورات إذا كنّا لا نريد الوصول إلى نتيجة؟

تعلن وزيرة خارجية بلجيكا “حجة لحبيب” أنّ المناقشات والمباحثات تكثّفت بين قادة الدول ووزراء الخارجية والدفاع في ميونخ للبحث عن مخرج للوضع المعقّد في الشرق الأوسط. “مخاطر إضفاء الطابع الإقليمي على الصراع موجودة، وهي هائلة”. العديد من الدول تشعر بالقلق، وليس فقط دول المنطقة، بل العالم أجمع، فلماذا نزعج “ميونخ” بخلافاتنا الإقليمية؟ ألم يحن الوقت لنقلها إلى ساحتنا والبحث عن سبل معالجتها هناك؟

المصدر: أساس ميديا

تعليق واحد

  1. مؤتمر ميونخ للأمن بصيغته الـ 60 إنتهى وكانت هواجس الأمن في أوروبا هي المسيطرة على المؤتمر عبالرغم من برز ملفّ الحرب في غزة. لكنّ الحرب في أوكرانيا ما زالت تشكّل الخطر الأكبر على أمن الغرب بشقّيه الأميركي والأوروبي، ضمن العهر الأممي، لماذا العرب لا يحلوا مشاكلهم بعيداً عن أوروبا ؟ ألم يشعروا بهذا الموقف المنافق منهم ؟.

زر الذهاب إلى الأعلى