دخل التحرّك السياسي الإقليمي والدولي لإيجاد مخرج للمواجهة الدامية بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبقية حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة حالة استعصاء، على خلفية الرفض الإسرائيلي للمعروض بشأن تبادل الأسرى والمعتقلين في إطار صفقة هدن طويلة تقود إلى وقف إطلاق النار، والدخول في خطة لتنفيذ حلّ الدولتين.
لا تكمن معضلة الإدارة الأميركية في عدم نجاحها في تليين موقف نتنياهو ودفعه إلى قبول تصوّرها المعلن عن حلّ الدولتين، بل في تصوّرها لمستقبل الإقليم وتوازناته الجيوسياسية والجيوستراتيجية، فالاستراتيجية الأميركية قائمة على الاحتفاظ بهيمنتها وسيطرتها على البحار والمحيطات، الممرّات البحرية بشكل خاص، وعلى التحكّم بالتفاعلات الإقليمية والدولية، لذا عملت على دمج إسرائيل في الإقليم ومنحها دوراً قيادياً مقرّراً، على خلفية دورها في خدمة المصالح الأميركية، عبر عمليات تطبيع عربية معها بذريعة مواجهة التوسّع الإيراني واختراقه المجتمعات والدول العربية، عبر أذرعه المذهبية، وما عمله النظام الإيراني لتحقيق هيمنة وسيطرة شاملة في الإقليم. وقد وجدت الولايات المتحدة في ترهل الأنظمة العربية وتآكل قدراتها على صيانة استقلالها وحماية مجتمعاتها من التغلغل الإيراني فرصة لترويج التطبيع تحت شعار تشكيل جبهة موحّدة لمقاومة إيران، تم التطبيع مع عدة دول عربية في فترة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، الإمارات والبحرين تحت هذه الذريعة، والمغرب والسودان لاعتبارات خاصة بكل منهما، وحاولت الإدارة الحالية استكمال العملية بضم السعودية إليه، لما لذلك من تأثير قوي على موقف بقية الدول العربية والإسلامية، لكن بتجاهل تام للقضية الفلسطينية ولتطلعات الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، حيث همّشت خلال مفاوضات التطبيع مع السعودية مطالب الفلسطينيين. ولكن عملية التطبيع لم تتقدّم بسلاسة، خصوصاً على المسار السعودي، لاعتباراتٍ تتعلق بطلبات المملكة الخاصة: اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة تلتزم فيها الولايات المتحدة بالدفاع عن السعودية، بيعها أسلحة متطوّرة، وبرنامج نووي مدني، بما في ذلك دورة تخصيب كاملة. أخذت الإدارة وقتا كي تقنع إسرائيل بالمطالب السعودية خاصة بالبرنامج النووي ودورة التخصيب، ما عنى القفز على القضية الفلسطينية؛ فقد قلّل القادة السعوديون في المفاوضات مع المسؤولين الأميركيين بشأن التطبيع مع إسرائيل من أهمية المطالب المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وأصرّوا فقط على “التقدّم” نحو حلّ النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وهو أمر غير مضمون العواقب، بعد تجربة المفاوضات الطويلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي استمرّت عقودا من دون أن تقود إلى حلٍّ يحقّق مطالب الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحكم ذاته، قبل أن تخلط عملية طوفان الأقصى الأوراق، وتضع الجميع أمام ساعة الحقيقة بإعادة القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال الإقليمي والدولي بقوة.
جاءت لاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: لا للسلطة الوطنية الفلسطينية، لا لإقامة دولة فلسطينية، لا لخطّة اليوم التالي، مع إصراره على السيطرة الأمنية على كامل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن، وعلى اجتياح رفح وتحقيق “النصر المطلق”، جاءت لتحوّل المشهد السياسي إلى مأزق خانق، واضعا الإدارة الأميركية في موقف حرج، فالإدارة التي تحاول منع توسّع الحرب وتحوّلها إلى حرب إقليمية بحاجة إلى هدنة طويلة علّها توقف المناوشات مع أذرع إيران في سورية والعراق والبحر الأحمر، وتوقّف المناوشات بين حزب الله وإسرائيل على الحدود اللبنانية، وتنفس الاحتقان الشعبي في العالمين العربي والإسلامي، وتحتوي ردود الأفعال المتصاعدة في الكتلة الناخبة التقدمية والشبابية في الحزب الديمقراطي المستاءة من موقف الإدارة الداعم للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وتغذية حملة الإبادة الجماعية بالسلاح والمال والسياسة. وفي الوقت نفسه، لا تريد الضغط على الحكومة الإسرائيلية للقبول بصفقة تبادل الأسرى، والدخول في هدنة طويلة تنفيذا لتصوّرها عن اليوم التالي الذي ينتهي بحلّ الدولتين، بحيث تظهر كمن يتدخّل في قرارٍ يتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي، كي لا تستفزّ مؤيدي إسرائيل في الولايات المتحدة، وهي على أبواب حملة انتخابية رئاسية صعبة. وقد زاد موقفها دقّة وجود إجماع إسرائيلي على رفض حلّ الدولتين، أبدى الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، وزعيم المعارضة يئير لبيد، وزعيم حزب أزرق أبيض الوزير في مجلس الحرب بني غانتس، انزعاجهم من دعوتها إلى حلّ الدولتين، وطالبوها بالتوقّف عن الدعوة علنا، فالدعوة غير مقبولة بعد هجوم حركة حماس على غلاف غزّة في 7 أكتوبر/تشرين الأول وقتلها المئات، وأخذها رهائن مدنيين وعسكريين، فالرأي العام الإسرائيلي ليس في وارد تفهم دعوة كهذه أو قبولها بعد هجوم “حماس”، وهو مع مواصلة الحرب حتى القضاء على “حماس”، كي لا يتكرّر الهجوم على غلاف غزّة، وفق ما كتبه معلقون ومحلّلون إسرائيليون.
لقد وجد الرئيس الأميركي نفسه على مفترق طرق، حيث الضغط على إسرائيل وإجبارها على قبول صفقة تبادل الأسرى وتبعاتها ستضعه في مواجهة اللوبي اليهودي، وتأثيره الكبير في الانتخابات، وتغاضيه عن الوحشية الإسرائيلية وجرائمها ضد المدنيين في قطاع غزّة سيُفقده أصوات العرب والمسلمين والتقدّميين في الحزب الديمقراطي، فلجأ إلى إدارة الأزمة عبر تكتيك سياسي من مستويين، أول قائم على مواصلة دعم إسرائيل بالأموال والأسلحة، وآخرها مساعدات عسكرية بعشرات ملايين الدولارات، تشمل آلاف القنابل والذخائر المتطوّرة والدقيقة لضرب الأنفاق، وتزويد إسرائيل بآلياتٍ عملاقة لتسوية الأرض لإنشاء منطقة عازلة مهجورة وغير قابلة للعبور على طول الحدود مع قطاع غزّة، في تناقض صارخ مع إعلانها رفض تقليص مساحة القطاع، ورفضها دعوات إلى وقف إطلاق النار، على الرغم من مطالبة نصف الدول بذلك. قالت المندوبة الأميركية في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفيلد إنها ستستخدم حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار جزائري يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية. ومستوى ثان بالدعوة إلى قيام دولة فلسطينية بعد توقّف الحرب، دولة منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزّة، على أن يتم تحديد حدودها عبر مفاوضات مباشرة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وسرّبت إلى الصحف الأميركية أنباء عن تكليف وزارة الخارجية فريق عمل لدراسة إمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية في الفترة القريبة الآتية. وهذا على أمل استرضاء الطرفين ومؤيديهما لاحتواء التفاعلات السلبية الماثلة، وتبريد المشهد قبل الدخول في أجواء الحملة الانتخابية.
لم ينجح تكتيك الإدارة في اختراق الرفض الإسرائيلي لقبول الصفقة والدخول في هدنة طويلة، تمهيدا للدخول في حلّ الدولتين مقابل تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في حاجة لمواصلة الحرب، كي لا يفقد تأييد حلفائه في الوزارة، وينهار الائتلاف الحاكم، ويذهب إلى انتخابات مبكّرة نتيجتها في غير صالحه، وقادة الجيش بحاجة لمواصلة الحرب والخروج بصورة منتصر لردّ الاعتبار إليهم بعد الهزيمة القاسية والمذلّة التي ألحقتها بهم حماس في هجومها على غلاف غزة، فلجأ كل منهم إلى التصعيد في قطاع غزّة والضفة الغربية، ووسع حدود ضرباته في لبنان، ونفّذ هجماتٍ على خطّي أنابيب غاز رئيسيين في إيران، تسببت في تعطيل تدفّق الغاز إلى محافظاتٍ إيرانية يقطنها الملايين، في محاولة لاستدراج ردود أفعال كبيرة، ودفع الحرب نحو حربٍ إقليمية تضطر الولايات المتحدة إلى الانخراط فيها أو خلط الأوراق، والدفع نحو خياراتٍ محدّدةٍ تريدها على أقل تقدير، فالحكومة الإسرائيلية مصرّة على موقفها لأن تصورها للحل يختلف جذريا عن هذه الخطة، فهي مع دولة يهودية خالصة، ما يعني تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزّة، وتمتلك أوراقا قوية في مواجهة الضغط الأميركي: اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة وعلاقتها العميقة مع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)؛ خصوصاً أنها لم تشعر بجدّية هذا الضغط، حيث لم تنقطع المساعدات المالية والعسكرية والسياسية الأميركية، من جهة، ومراهنتها، من جهة ثانية، على حاجة الولايات المتحدة لها وصعوبة الإضرار بدورها الوظيفي وبقدرتها على القيام بهذا الدور في الإقليم خدمة للمصالح الغربية. حاولت الإدارة الأميركية التغطية على فشلها في جلب إسرائيل إلى طاولة التفاوض بشأن صفقة الرهائن وعملية اليوم التالي، بتسريب أنباء عن خلافات بايدن مع نتنياهو وعن الأوصاف التي أطلقها الأول على الثاني، “أحمق” “سيئ”، وبتكرار الدعوة لحماية المدنيين وإدخال المساعدات إلى غزّة. وهذا بالإضافة إلى عدم وجود قوى ضاغطة على الإدارة الأميركية للوفاء بوعودها الفلسطينية، فدول عربية كثيرة ترى “حماس” أخطر عليها من إسرائيل، وهذا يدفعها إلى التفريط بالحقّ الفلسطيني مقابل التخلص من “حماس”، ومعظمها بحاجة للولايات المتحدة حامية ومعينة ومصدّراً للأسلحة والتقنيات. حتى مليشيات محور المقاومة، الذي حرّكته إيران لزيادة الضغوط على القوى الإقليمية والدولية وإسرائيل لإنهاء العدوان على غزّة وحماية سلطة “حماس”، لم تنخرط في المواجهة بقوة وشمولية، حرصا منها على “البقاء”، وتفضيلها المكاسب المحدودة على الخسائر الحاسمة، وفق تحليل لمنتدى الخليج الدولي.
واقع الحال أن الإدارة الأميركية في مأزق كبير، على خلفية خسارتها صورتها مدافعة عن حقوق الإنسان، خصوصاً لدى دول الجنوب العالمي وشعوب العالمين العربي والإسلامي، ولدى قطاعات واسعة من الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية؛ ولعبتها بالوعد بدولة فلسطينية لكسب الوقت والمماطلة سنوات لن تجدي نفعا في تحسين صورتها، بعد أن وضعت نفسها في موقع المؤيد وشريكة في حرب إبادة جماعية ضد شعبٍ يعاني من الاحتلال والقهر منذ عقود.
المصدر: العربي الجديد
هل فعلاً أمريكا وبايدن محرج لمواقف نتNياهو من الحرب المتوحشة القذرة على غزة؟ إنها بروباغندا للدعاية الآنتخابية ، لوإنه محرج لأوقف الدعم العسكري ، ولما رفع الفيتو ضد قرار وقف إطلاق النار بمجلس الأمن .