في ظل عجز النظام الرسمي العربي، وتخاذل العالم العربي والإسلامي، وصمتهما، إن لم يكن، تواطؤ العالمين الشرقي والغربي، عما يحدث في قطاع غزة، من مقتلة ما برحت مستمرة، وتزداد اضطرادًا يومًا إثر يوم، وتعنت واضح لحكومة التطرف اليميني الإسرائيلي، وفرجة فاقعة للعالم قاطبة، على المجازر الكبرى وغير المسبوقة بحق الإنسانية، ومن ثم هدر إنسانية الإنسان الفلسطيني بكليتها. أمام هذا المشهد الدامي والصمت المطبق، وبالتساوق مع حالة انكشاف كل ادعاءات ما يسمى محور (الممانعة والمقاومة) وعُريه أمام ما يجري، لأهلنا في قطاع غزة، هل بقي من يوم تالٍ لغزة؟ وهل مازال من أمل في يوم تالٍ، فيه بعض الإنصاف والعقلانية، لهؤلاء الناس المحاصرين، والمقتولين والمدمرين يومياً في فلسطين؟
وإذا كان الفيلسوف الفرنسي (روجيه جارودي) قد قال يومًا إن (أميركا طليعة الانحطاط) بينما عنون الباحث الألماني (كارلها ينتس دشنر) كتابه المهم باسم (المولوخ إله الشر _ تاريخ الولايات المتحدة الأميركية) فقد جاء كل ذلك ليؤكد أن سياسات الولايات المتحدة الأميركية هي أبعد ما تكون عن الإنسانية، أو إنصاف حقوق الإنسان في العالم، بل هي تقف مع مصالحها ومع استراتيجيتها المنشودة (الفوضى الخلاقة)، ومع الصهيونية ودول الاستبداد والدكتاتوريات في العالم، دون أن تعطي أي أهمية موضوعية لحقوق البشر ودون الانتباه للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو حتى القانون الدولي الإنساني.
واليوم وضمن مفاعيل الواقع المتحرك في غزة، فهناك من يرى أن الاشتباك المتنوع الحاصل في الإقليم، وهو الذي يتصاعد وينزاح بكل الاتجاهات، وبصورة واسعة وأكثر خطورة، وخاصة بعد تاريخ 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023 أي بعد عملية “طوفان الأقصى” قطاع غزة بات يعيد الأمور إلى متحركات أخرى، وخاصة بالنسبة للأميركان، وكذلك الحال مع إيران/ الملالي، ويبدو أنه أصبح يشكل تلك الفرصة التاريخية التي انتظرتها إيران وأميركا للدخول القوي من أجل إعادة صياغة المعادلات الإقليمية من موقع الشريك الأكثر فاعلية وتأثيرًا وليس من موقع المتأثر أو المنتظر.
فإيران مثلًا تحاول أن يكون مدخلها إلى تأمين هذا الدور ومن ثم توسيع نفوذها كما يراها راسمي السياسة في طهران، ومن يمتلك محركات القرار، عبر العمل على توظيف هذا الاستثمار الذي يأتي عبر فرصة تاريخية قد لا تتكرر، من خلال أدواتها وأذرعها أو تلك القوى التابعة لها، أو كما تسميها وسائل إعلام إيرانية ب(الرديفة).
وهناك من يرى اليوم من النخب الإيرانية أن (ما قامت به الفصائل الرديفة لا يصب في مصلحة إيران) بل يصب (في توريطها بمزيد من الأزمات والمشكلات خدمة لمصالحها الخاصة التي لا تصب في مصلحة طهران) وهؤلاء يرون أيضًا (أن من أولى نتائجها أنها أسهمت في إنهاء ما تبقى من خيوط تواصل وحوار غير مباشر بوساطة عُمانية بين طهران وواشنطن، والتي كانت بمنزلة الخط الساخن أو الهاتف الأحمر بين الطرفين).
إن إطلالة آنية على ما يجري في قطاع غزة من قصف ودمار إسرائيلي يطول كل البنية التحتية الغزاوية، وكل العنصر البشري الفلسطيني بلا استثناء، يشير وبوضوح إلى أن حرب العدوان الإسرائيلي على غزة، وعلى الضفة أيضًا، لم يعد لها من يوم تالٍ أو محددات ما لرسم ملامح الواقع الفلسطيني، عبر ما كانت تقوله أميركا ومعها كثير من دول أوروبا، بل لعل السياسة الإسرائيلية التي ما زالت تصر (وبصمت دولي) على اقتلاع الديمغرافيا الفلسطينية وتهجيرها إلى صحراء سيناء، أو إلى الأردن أو حتى إلى جزيرة ما، في بحر ما، تريد إيصال الفلسطينيين إليه، تلك الدولة المارقة والفاشيستية التي تسمى إسرائيل. والمشكلة أن كل ما يقال غربيًا من الإدارة الأميركية، أو من بعض دول أوروبا عن أهمية وجود يوم تالٍ وحالة ما بعد غزة، عبر ترتيبات على الأرض، ومفاوضات طويلة الأمد قد تُفضي إلى ما قيل إنه حل الدولتين، وهو ليس جديًا وليس ذو حظوة لدى الإسرائيليين، وهنا ليس المقصود حكومة التطرف فقط، التي تريد إلقاء قنبلة نووية على أهل غزة، وتخليص الإسرائيليين من همهم ومشكلاتهم، بل لعل معظم تشكيلات السياسة ومكونات (العسكريتاريا) والحرب الإسرائيلية لا تود ولا تريد وهي غير مقتنعة بالأصل بفكرة حل الدولتين، وهم لا يرونها قابلة للتنفيذ ولا قابلة للحياة في ظل لا جدية بالطبع من قبل الدول الخمس الكبرى ذات العضوية الدائمة في الأمم المتحدة، وضمن مفاعيل واقع حرب غزة الذي بيَّن للقاصي والداني انحياز الغرب وليس أميركا فقط إلى جانب القاتل وصاحب حرب الإبادة ضد شعب أعزل لا يملك من أمره شيئًا وضمن خيارات السلطة الفلسطينية الهزيلة، التي أوصلت نفسها إليها إبان اتفاقات أوسلو التي ورغم قلة حيلتها وظلمها للشعب الفلسطيني، لم تنجز على الأرض ما يشير إلى احتمالات حل الدولتين أو إعادة قيامة دولة فلسطينية ما، تلملم الجراح وتعيد بناء مستقبلات وحيوات الفلسطينيين على أسس جديدة ومختلفة تنصف بعض الإنصاف القضية الفلسطينية.
علاوة على أن إدراك إسرائيل (وطبعاً عبر تجربة حرب غزة) هزالة الواقع الرسمي العربي العاجز والصدئ عن فعل أي شيء، سوى بعض التصريحات (الهميونية) التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وترك الشعب الغزاوي يلاقي مصيره وحده عبر إفساح المجال واسعًا أمام ارتكابات متواصلة من المجازر اليومية بحق الفلسطينيين، الذي لم يعد يملك من خيارات أمامه إلا المقاومة أو الاستشهاد.
ضمن هذه المفاعيل الدراماتيكية لا يجد الفلسطيني أمامه أي يوم تالٍ أو إيجابي، ولا يجد أي مصداقية جدية لكل التصريحات الغربية التي يسمعها كل يوم عن حلول لم تعد مقبولة إسرائيليًا ولم يعد بالإمكان إعادة إنتاجها، وفق المعطيات الملموسة على الأرض.
ولن نكون من المشجعين أو الدافعين لحالات من اليأس إذا قلنا مع بعض المنصفين إن هدف إسرائيل الحقيقي قد تحقق بالكامل (القتل والتدمير، وجعل غزة منطقة غير صالحة للحياة، وبلا مستقبل، ما سيدفع بأهلها للهجرة). حيث لا وجود في مواجهة ذلك إلا قدرة وإرادة أهل غزة على الصمود، وهم بشر بالضرورة، لهم طاقاتهم وقدراتهم، ولا يمكن أن يُطلب منهم المزيد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
إن عجز الأنظمة العربية، وتخاذل الأنظمة العربية والإسلامية وصمتهما وتواطئهما عما يحدث في قطاع غزة يهدد النظام العالمي ويسقط الأمن القومي العربي، وهو إقرار بسيادة قانون الغابة، فأين من يحدد اليوم التالي بغزة؟ ونظام ملالي طهران وأذرعته الإرهابية التي تحاول أن تحقق مكتسبات خاصة أيضاً خذلت شعبنا الفلسطيني الذي لم يعد يرى اليوم التالي لهذه المواقف ولعدم صدقية الجميع .