في الحديث القلق عن “اليوم التالي”، السيناريوهات المحتملة تدور كلها حول سؤال محوري: هل تتحول حرب المشاغلة والمساندة المحدودة التي اطلقها حزب الله بالتزامن مع حرب غزة الى حرب مفتوحة ترى اسرائيل فيها فرصة لابعاد قوات الحزب عن حدودها الشمالية؟ ام يستجيب الحزب، ومن خلفه ايران، للتهديدات الإسرائيلية، والنصائح الغربية، ويعيد انتشار قواته واسلحته طوعاً الى مسافة “آمنة” وفق المنظار الإسرائيلي؟
وما بين هذين السيناريوهين الرئيسيين، احتمالان آخران اقل ترجيحاً، وان كانا غير مستبعدين نظرياً: الأول هو العودة الى “استاتيكو” ما قبل ٧ تشرين في جنوب لبنان اي الى قواعد الاشتباك التي رست عليها الامور ميدانياً بعد حرب تموز ٢٠٠٦؛ والثاني هو تحول حرب المشاغلة والمساندة الى حرب استنزاف طويلة، سواء توقفت حرب غزة ام لم تتوقف.
إستعادة “استاتيكو” ما قبل ٧ تشرين، بالتزامن مع انتهاء حرب غزة، هو السيناريو المفضل لدى حزب الله وايران لانه يحقق لهما كل ما اراده من حرب المشاغلة، لكن هذا السيناريو لا يمكن ان تقبل به اسرائيل. اذا ما تحقق، هذا السيناريو يعزز مكانة الحزب ويجدد موقعه كمقرر اول في الشؤون الداخلية وكمحاور أول للقوى الخارجية، كما يعزز مكانة ايران في لبنان.
السيناريو الثاني، اي استمرار الأعمال الحربية صعوداً ونزولاً تحت سقف معين وتحولها الى حرب استنزاف ممتدة، يبقي لبنان معلقاً في وضعية الاهتراء والانهيار والتدهور والفراغ المؤسسي وتحلل الدولة، وذلك بانتظار متغير ما في المعادلة الداخلية او الخارجية لا نعرف موعد قدومه. لكن هذا السيناريو اذا طال يمكن ان يرتد سلباً على حزب الله، اي ان يصيبه ما اصاب منظمة التحرير الفلسطينية بين ١٩٧٧ و١٩٨٢ من انهاك، وذلك رغم اختلاف الوضعية الشعبية بين التجربتين. هذا السيناريو يبقى احتماله ضعيفًا في الظروف الراهنة نظراً الى امكانية تحوله في اي وقت الى حرب مفتوحة تسعى القوى الدولية بكل جهدها الى منع وقوعها.
بالعودة إلى سيناريو الحرب المفتوحة، التي تحدثنا عنها بداية، فهي تطرح تحديات “ميثاقية” وكيانية لا يمكن التكهن سلفاً بنتائجها، الا ربما بنتيجة واحدة شبه مؤكدة هي الخراب البشري والعمراني العميم الذي سيلحق بلبنان من جرائها والذي سيتراكم فوق الخراب السياسي والمؤسساتي والاقتصادي والمالي والعزلة الدولية والعربية التي يتخبط فيها منذ سنوات. ولنا في جريمة الإبادة والأرض المحروقة المتمادية في غزة منذ شهور نموذج عما يمكن ان تذهب اليه اسرائيل في ظل المعادلة الراهنة من السكوت والتغاضي الدوليين.
اما النتائج العسكرية والامنية لسيناريو الحرب المفتوحة فلا يمكن توقعها بسهولة او الحكم عليها بدقة، وذلك لاعتبارين:
اولاً – في الحروب غير المتوازية، اي تلك التي تجري بين جيش نظامي كالجيش الاسرائيلي وقوى غير نظامية كحزب الله، يصعب ايجاد معيار واحد وبسيط لتحديد الجهة الرابحة والجهة الخاسرة بالمطلق. ولنا في حرب ٢٠٠٦ دليل على ذلك.
ثانياً – يصعب كذلك تقدير ما آلت اليه منذ آخر حرب مفتوحة في ٢٠٠٦ قدرات وطاقات وتكتيكات الفريقين والدروس المستخلصة من التجارب السابقة ومنها حرب غزة الاخيرة وحرب المشاغلة الراهنة، وخطط واهداف العدوان المحتمل خصوصا ما يتعلق بالغزو البري وفي ظل الحديث عن مشاريع مناطق عازلة مفرغة من السكان، والخطط المضادة لدى حزب الله وطبيعتها واهدافها الارضية خصوصاً ما يتعلق منها بشمال اسرائيل، وغيرها من العوامل والمتغيرات.
في السياسة، ومهما كانت النتائج العسكرية لسيناريو الحرب المفتوحة، سيكون حزب الله في اليوم التالي لانتهاء الحرب امام خيار صعب بين التمسك بالسلطة ولو فوق الانقاض، على طريقة النظام في سوريا، او تقديم تنازلات فعلية باتجاه تطبيع الوضع في لبنان وصولا الى عودته دولة طبيعية وتحول حزب الله الى كائن سياسي طبيعي”.
الخيار الثاني، اي القبول بالتنازل عن احتكار السلطة والهيمنة على القرار الاستراتيجي، على صعوبة تسويقه لدى سائر اللبنانيين نظراً للتجارب المريرة السابقة في هذا المجال، هذا الخيار يعزز احتمالات تطبيع الأوضاع وفرص احياء اتفاق الطائف او اي صيغة شبيهة بالصيغة الدستورية الميثاقية الحالية للبنان.
اما الخيار الاول، اي خيار التمسك بالسلطة والاصرار على التفرد بالقرارات الاستراتيجية وارغام سائر اللبنانيين بالسير بها واستمرار الانتقاص من حقوقهم الدستورية، وخصوصاً بعد كل هذا الخراب، فيفتح الباب امام مروحة من الاحتمالات الراديكالية و”الكيانية” تتسم جميعها بتنامي وانفجار مشاعر الاحباط والرغبة بالانفصال عن هذا الواقع لدى شرائح واسعة سياسية وطائفية وسياسية، تصل الى حد المطالبة ب”الطلاق الودي” والتقسيم جهاراً، او بالفدرالية واللامركزية الموسعة تلطيفاً. وهي مشاعر ودعوات لم تعد تقتصر على الاوساط المسيحية كما كان سائداً.
السيناريو الرابع، اي اعادة انتشار قوات حزب الله وسلاحه، بتطبيق ما للقرار ١٧٠١، جزئياً او كلياً، هو السيناريو المفضل للوسطاء الغربيين، يعفي اسرائيل من خوض تجربة الحرب مجدداً مع لبنان، ويمكن ان يمشي به حزب الله، خصوصاً إذا توقفت حرب غزة، وبالأخصّ اذا ساهمت ايران في اخراج تلك التسوية، الأمر الذي يزيد من رصيدها الدولي ودورها كقوة اقليمية، وكصانعة للسلام والتسويات.
ان تجنب الحرب المدمرة وتطبيق القرار ١٧٠١، ولو جزئياً، فيه مصلحة اكيدة للبنان ككيان وكدولة وكمجتمع وكأقتصاد، لكنه يحمل في طياته محاذير تحققه في اطار صفقة تتضمن اطلاق يد حزب الله مجدداً في لبنان، او أن يتصرّف حزب الله على هذا الاساس، أي دون اي تغيير في ولاءاته الخارجية وفي مقاربته الفوقية للعلاقة مع سائر اللبنانيين.
إذا حاولنا استخلاص العبر من هذه السيناريوهات ونتائجها المحتملة، تبقى الأولوية القصوى للبنان واللبنانيين في هذه المرحلة منع توسع الحرب وتحولها إلى حرب مفتوحة، لا بل وقفها إذا لاحت اي نافذة لذلك، وبمعزل عن تطورات حرب غزة، التي لا يعرف اللبنانيون ولا يملكون موعد انتهائها. هذه الأولوية لا تقلل من قيمة اي تعاطف او دعم سياسي يمكن ان يقدمه اللبنانيون لقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.
الأولوية الثانية هي الحرص على ادراج اي ترتيبات امنية تتعلق بإعادة الانتشار او الانسحاب في إطار التنفيذ المتكامل والمتوازي للقرار ١٧٠١ وتعزيز دور وقدرات الجيش اللبناني مدعوماً من قوات اليونيفيل، التي يجب ان تبقى الشريك الضامن لأي ترتيبات نيابة عن الشرعية الدولية.
بالتزامن مع السعي إلى منع توسع الحرب، ومحاولة وقفها في اي وقت إذا امكن، التصدي لمحاولة ادراج هذا المسعى في إطار صفقة تبادل تتعلق بتكوين السلطة في لبنان، بدءًا من انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، او غيرها من الأمور الداخلية الخاصة بلبنان. مثل هذا التوجه، اي الربط بين وقف الحرب وترتيبات الأمن في الجنوب من ناحية واستحقاقات لبنان الداخلية من ناحية أخرى، قد يبعد كأس الحرب والدمار لفترة لكنه يبقي لبنان في خانة المراوحة والتخبط والانهيار لسنوات عدة إضافية.
المصدر: المدن
طوفان الأقصى و7 أوكتوبر كشف خدعة حلف المقاولة والمماتعة لذلك حرب المشاغلة والمساندة المحدودة التي اطلقها حزب الله ضمن الـ “الصبر الإستراتيجي” بالتزامن مع حرب غزة لا يمكن أن تتحول الى حرب مفتوحة، ضمن الـ “التصعيد المنضبط” لذلك السيناريوهات الأربعة ستحقق مصلحة الكيان الصهيوني بتطبيق القرار 1701 بدون حرب وفق السيناريو الرابع.