قال مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية يوري أوشاكوف في تصريح للصحفيين إن زيارة فلاديمير بوتين إلى تركيا ستتم في شباط المقبل، وأن التحضيرات لهذه الزيارة مستمرة. تسريبات إعلامية عديدة تحدثت عن أن موعد الزيارة حدد في 12 شباط الحالي، أي يوم غد الإثنين. من أعلن عن اقتراب موعد الزيارة عاد وتراجع ليتحدث عن إرجائها إلى موعد لاحق، أو رجح الصمت وتجاهل ما قاله. هل يحضر بوتين أم لا؟ الإجابة جاءت على لسان الناطق باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، الذي نفى مزاعم تأجيل الزيارة، “لم يتم حتى الآن تحديد موعدها، كي يتم تأجيلها. الاتصالات الدبلوماسية مستمرة بين المسؤولين في البلدين لترتيب الموعد”.
تنفي أنقرة وموسكو الأنباء التي تتحدث عن فتور في العلاقات وتوكدان أن المحادثات مستمرة بشأن تحديد موعد زيارة بوتين لتركيا. نحن ننتظر ترجمة ذلك عمليا منذ آخر لقاء قمة بين الرئيسين التركي والروسي الذي تم في سوتشي في مطلع شهر أيلول المنصرم. بعد 5 أشهر على اللقاء كان هناك أكثر من موقف سياسي متفائل حول تحريك الجمود في ملفات عالقة بين البلدين يتقدمها الوساطة التركية في نزاع القرم وإعادة نقل الحبوب الأوكرانية إلى الخارج عبر البحر الأسود بوساطة تركية، وتسريع تفعيل الاقتراح الروسي الاستراتيجي بتحويل الأراضي التركية إلى خزان ترانزيت لنقل الغاز إلى أوروبا، والخروج بنتائج مرضية من المنصة الرباعية التي شكلت بهدف تسريع الحلحلة في الملف السوري.
قبل أشهر كانت المعادلة على الشكل التالي: النظام في دمشق وطهران قلقان حيال التقارب التركي الروسي الواسع في الملفات الثنائية والإقليمية واحتمال ارتداد كل ذلك على حساباتهما السورية. القلق أيضا كان في صفوف العديد من العواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن. هدف الإيقاع بين أنقرة وموسكو هو أساسي بالنسبة لجبهة سياسية عريضة مصالحها متشابهة حتى ولو لم تكن تنسق فيما بينها. الذي وصل إلى ما يريد كما يبدو اليوم هو واشنطن التي نجحت بتوتير علاقاتهما في ملفات استراتيجية حساسة عبر الانفتاح على أنقرة من جديد وتجميد الخلافات في مسائل عالقة مثل التوسعة الأطلسية وصفقة مقاتلات أف -16، ومحاولة الإصغاء إلى ما تقوله تركيا في موضوع توريط إسرائيل للجميع في حربها ضد قطاع غزة، تمهيدا للوصول إلى تفاهمات في الملف السوري كما تعد الإدارة الأميركية.
إذا ما قرر الرئيس الروسي فلادمير بوتين التراجع عن زيارته المرتقبة لتركيا فعلينا أن نتفهم ذلك ونراعي شعوره ونأخذ بعين الاعتبار الأسباب الكثيرة التي تدفعه للإقدام على خطوة بهذا الاتجاه:
– هناك أولا الكثير من المسائل الجديدة التي ستضاف إلى جدول أعمال القمة وبرنامج الزيارة بطابع ثنائي وإقليمي لم تكن موجودة في آخر لقاء تم بين الرئيسين قبل أشهر مثل انفجار الوضع في غزة وانعكاساته الإقليمية. والتصعيد القائم في حوض البحر الأحمر وارتداداته على مصالح البلدين التجارية والسياسية أمام المعابر الاستراتيجية التي تربط إفريقيا بالشرق الأوسط وحيث لأكثر من لاعب هناك مصالحه وحساباته. ومواجهة وتنافس الخطوط التجارية الهندية والعراقية والتركية العابرة للقارات والتي تشمل آسيا وإفريقيا وأوروبا وتتعارض مع أهداف المشاريع الصينية والأميركية في أكثر من مكان والتي قد تترك أنقرة وموسكو أمام امتحانات صعبة إذا لم تحسب الأمور بدقة. إلى جانب التباعد التركي الإسرائيلي وانعكاساته على التقارب الثلاثي مع روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى.
– هناك ثانيا حقيقة أن سيناريو بقاء الأمور على ما هي عليه بين تركيا وروسيا يزداد صعوبة ليس بسبب برودة العلاقات بين البلدين. بل نتيجة المتغيرات الإقليمية والدولية الكثيرة التي تعنيهما عن قرب.
– ما يقلق بوتين أيضا هو سيناريو ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وكيف سيكون شكل علاقة أنقرة وموسكو حيال الإدارة الأميركية الجديدة وهو موضوع أهم بكثير من ملفات أخرى خصوصا بعدما بدلت واشنطن في نظرتها إلى المسائل التي تعنيها مع تركيا في أكثر من مكان.
– لن تمر مسألة فتح أنقرة الطريق أمام التوسعة الأطلسية وتسهيل عضوية السويد بهذا الشكل السريع والمفاجئ. موسكو قد لا ترد مباشرة على أنقرة لكنها حتما ستتحرك في مكان آخر. عبر رسائل باتجاه بولونيا ودول البلطيق والتشدد أكثر في البحر الأسود مثلا. وهي ملفات ستكون بين أسباب التوتر وربما الانفجار في العلاقات التركية الروسية.
صحيح أن تركيا لن تعرض للخطر بمثل هذه البساطة ما بنته من علاقات مع روسيا في الأعوام الأخيرة. فهي نجحت في تشييد جسر من التقارب والانفتاح في مجال الطاقة والتجارة بعد تدهور علاقات موسكو مع الاتحاد الأوروبي في أعقاب غزو أوكرانيا، والحصول على الكثير من العروض والفرص التي لم تتردد روسيا بتقديمها مثل تخفيضات وتأجيل في مدفوعات واردات الطاقة وتحريك قوافل السياحة والمضي حتى النهاية في تنفيذ المشاريع العملاقة في مجال نقل الغاز الروسي وإنجاز بناء المفاعل النووي “أك كويو” في مدينة مرسين التركية. لكن المسألة أبعد من محاولة أردوغان إقناع نظيره الروسي بتخفيض سعر مبيعات الغاز الروسي لتركيا، أو توصيف الزيارة بأنها محاولة إحتواء التوتر وقطع الطريق على التباعد بعد هذا الكم الكبير من التطورات والمتغيرات الإقليمية، هذا إذا ما تركنا جانبا أيضا مسألة الإجابة على سؤال لماذا لم تتحقق أمنية رفع أرقام التبادل التجاري باتجاه 100 مليار دولار الهدف المعلن قبل سنوات؟
ملفات النقاش الثنائي والإقليمي كثيرة لكن اتخاذ القرارات بشأنها يتطلب الأخذ بعين الاعتبار ما يقوله ويفعله بقية الأطراف وعلاقة تركيا وروسيا بذلك. أردوغان وبوتين يعرفان أكثر من غيرهما أن دبلوماسية الشد على الأصابع ممكنة بينهما للحصول على بعض التنازلات والتسهيلات. لكن المسألة ستختلف كليا عند الذهاب وراء البحث عن خطط بديلة أو عروض مغرية في مكان آخر.
كنا نردد قبل عامين أن موسكو فرحة لتدهور العلاقات التركية الأميركية وفشل جهود أردوغان وترامب في إنهاء أسباب الخلاف وأنها تريد الاستثمار مطولا في هذه الفرصة. لكن المتغيرات الإقليمية وتفاعلاتها الميدانية والسياسية هي التي تدفع أنقرة لمراجعة الكثير من مواقفها وسياساتها مع الغرب. هناك من يرى أن العمليات العسكرية الأميركية في سوريا “تسلط الضوء على واقع الوجود العسكري الروسي المتراجع في سوريا بسبب سحب أجزاء مؤثرة من القوات ونقلها للمشاركة في الحرب الأوكرانية”.
يردد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أننا سنتابع عن قرب كيف ستتشكل المعادلات والتوازنات الإقليمية والدولية الجديدة قبل العام 2030. هناك حتما لروسيا حصتها ونصيبها في هذه التصريحات خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان يقوله فيدان نفسه قبل أيام وهو يتحدث عن العلاقات التركية الروسية وآخر تطورات الملف السوري مستبعدا العودة إلى صيغة الطاولة الرباعية في هذه الآونة.
أي نوع من الأخبار تتناقلها وسائل الإعلام التركية في هذه الأيام:
“تفاوض أنقرة الجانب الأميركي على صفقة مقاتلات أف – 16 واحتمال العودة إلى مشروع المقاتلة أف – 35”. “النظام السوري لا يزال غير قادر على الاجتماع مع تركيا لأسباب مختلفة، وحتى عندما يجتمعون معنا فإنهم يريدون الحضور بوجود طرف ثالث.. هذه ليست مشكلة بالنسبة لنا لأننا لدينا ثقة كاملة بأنفسنا، ونعرف ماذا نريد”.
“الانفتاح التركي الأميركي الأخير بعد تسريع أنقرة لعملية موافقتها على عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي وتفعيل ملف صفقة مقاتلات أف 16- الأميركية لتركيا، واكبه التفاوض من جهة أخرى مع الجانب الألماني على 40 مقاتلة من طراز “يورو فايتر” وربما المساهمة في الشراكة الأوروبية الرباعية للمشروع”.
المخيف أكثر هو الحديث الذي يردده البعض في تركيا حول سيناريو وضع الصواريخ الروسية أس – 400 في العنابر بعد التقارب التركي اليوناني بدعم غربي.
تحتاج موسكو إلى جهد أكبر وعروض أهم من التي قدمتها لأنقرة حتى الآن. هل ستفعل ذلك أم ستذهب باتجاه آخر يقلب طاولة العلاقات التركية الروسية رأسا على عقب وهو ما تريده واشنطن وتعمل من أجله منذ أشهر طويلة؟
لماذا يحضر بوتين وهو يرصد عن قرب كل تطورات المشهد الإقليمي في الملفات القريبة والبعيدة التي تعني روسيا؟ لن يكون سهلا عليه أن يتلقى كل هذه الضربات عن يمينه ويساره في ملفات ثنائية وإقليمية حساسة، ثم يتمسك بقرار الحضور إلى العاصمة التركية.
النصيحة التي وجهها جيش المستشارين لبوتين هي حتما أن يبدأ العد قبل التحرك باتجاه أنقرة على أن لا يتوقف قبل أن يرى كل تفاصيل المشهد وتفرعاته. الاستنجاد بفيروز لا مفر منه هنا:
“تعا ولا تجي واكذب عليا، الكذبة مش خطية
وعدني إنو رح تجي، وتعا ولا تجي
والأبر مسنونة والعيون مسنونة
ويا خوفي الحكي يجي”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
قراءة من وجهة نظر حذرة لطبيعة العلاقة الروسية/بوتين والتركية/اردوغان بليلة زيارة بوتين لأنقرة 12-02 فهل تنجح الزيارة بتبديد اوهام الخلافات البينية بينهما ؟ أم المصالح فيما بينهما أقوى من الخلافات .