لعله صراع المصالح المستمر بين المشروعين الفارسي والصهيوني في المنطقة، الذي لا يصل ولن يصل إلى مرحلة العداء الحقيقي والجدي بينهما. حيث تعتقد إسرائيل أن استمرار وجود القيادات الأمنية للحرس الثوري الإيراني وتوابعه في سوريا، يؤثر سلبًا على وجود وتمظهر المشروع الإسرائيلي، ويفعل فعله أحيانًا في كسب بعض النقاط لصالح المشروع الإيراني، على حساب إسرائيل، كما يسهل تدفق السلاح الحديث إلى لبنان وميليشيا حزب الله اللبناني، وهي الميليشيا الإيرانية التابعة لولاية الفقيه بامتياز. ومن ثم فإن كل ما يحصل بينهما في المنطقة وفي الجغرافية السورية خاصة، هو مجرد (مناكفات) وتسجيل أرباح بالنقاط، ولا يمكن (ولن) أن ترتقي إلى مرحلة الحرب الضروس، أو المباشرة بين الطرفين الإيراني والإسرائيلي، بل ستبقى ضمن خطوط ومساحات هذه اللعبة المضبوطة أميركيًا وغربيًا، مع استمرار فرجة نظام بشار الأسد (الممانع) المنشغل بصراعاته الداخلية ضمن أطر نظامه الأمني وعصابته المنفلتة من كل عقال.
إن مقتل ثلاثة عشر شخصاً مؤخرًا من بينهم مستشارون من مرتبات ما يسمى بالحرس الثوري الإيراني، عبر الغارة الجوية الإسرائيلية على العاصمة دمشق، فتح الأبواب على مصراعيها، لتساؤلات عدة، إذ إن مقتل المسؤول الأول في استخبارات “فيلق القدس” في الأراضي السورية المدعو (صادق أوميد زادة) مع نائبه وآخرين من الحرس الثوري المكلفين بالوضع السوري وعلاقته بحزب الله، يترك أسئلة واستفسارات كثيرة، فقد جاء الحادث والاستهداف بعد أقل من شهر على مقتل مسؤول الصواريخ (رضي موسوي)، في الحرس نفسه، بعد استهداف المنزل الذي يسكنه في ريف دمشق حي «السيدة زينب» بالقرب من دمشق.
وهو ما يعيدنا إلى الوقوف مع ديناميات السياسات الأمنية الإسرائيلية تجاه إيران في مجمل الجغرافية السورية. إذ يقال بأن إسرائيل تعمل حالياً على معادلات جديدة منها معادلة تطلق عليها تسمية “عقيدة الأخطبوط” وهو يؤشر إلى أن إسرائيل باتت تستهدف إيران مباشرة لا كما كان سابقًا عبر أذرعها وأدواتها في المنطقة المحيطة.
لعل ما خاضته إسرائيل سابقًا كان صراعاً بالخفاء أو ما يطلق عليه “حرب الظل”، حيث قام كل منهما بمهاجمة الآخر في غير مكان، عبر الجو والبر والبحر كذلك، وفي كثير من الحالات بالوكالة من خلال أدواتها في المنطقة.
إبان حرب تموز/يوليو 2006 التي دارت رحاها على أرض لبنان، تم إصدار دراسة ذات أهمية للباحث في الشؤون اللبنانية والسورية في معهد إسرائيلي مهم يدعى (داني بركوفيتش) تحت عنوان “هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟” والمعهد الذي صدرت عنه يتبع لجامعة “تل أبيب” كانت تريد الدراسة أن تجيب عن سؤال محوري وهو (كيف يمكن إضعاف “حزب الله”؟) حيث شبهته بالكائن الأسطوري “هيدرا”، وهو بالطبع ذاك الحيوان الذي ورد ذكره في الميثولوجيا الإغريقية، وهو أقرب إلى الأفعى. تقول الأسطورة تلك بأنه (عندما واجه المحارب الأسطوري هرقل تلك الأفعى الخرافية كانت مشكلته مع ذلك المسخ المتوحش ذي الرؤوس التسعة، أنه كلما قطع رأساً من رؤوسه نما مكانه رأسان، وكلما تضاعفت الرؤوس تضاعفت قوة الشر، من هنا تأتي خطورته وصعوبة القضاء عليه.)
من جهته فإن (بركوفيتش) عبر نظريته المشار إليها يعتقد أنه مثلما يستحيل التخلص من رؤوس الأفعى، فإنه لا يمكن اقتلاعه أو إنهاؤه كليًا، وهو يرى أن (هناك استراتيجيات عدة لو اتبعتها إسرائيل “وضمناً الولايات المتحدة” يمكن عندها إضعافه). أما توصيات الدراسة فكانت في ضرورة إنهاك الحزب أو إضعافه وإزاحته عن الحلبة في الإقليم، وهي تشدد على أهمية الاستعجال في إنجاز ذلك لأن الوقت لا يلعب لمصلحة إسرائيل.
يقول بعض قارئي السياسة الإسرائيلية إن نظرية الـ “هيدرا” تتساوق مع معظم ما أشار إليه رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي السابق (نفتالي بينيت) عندما تحدث إلى مجلة “ذا إيكونوميست” الانكليزية في شهر حزيران/ يونيو 2022، عندما قال إن “تل أبيب باتت تعتمد معادلة جديدة في المنطقة، إذ تطبق (عقيدة الأخطبوط) مستهدفة إيران بصورة مباشرة، لا أذرعها”. وأشار (بينيت) إلى ما قال عنه (“حرب الظل” التي تخوضها إسرائيل ضد إيران منذ نحو أربعة عقود)، ثم قال “نحن نطبق عقيدة الأخطبوط. لم نعد نلعب مع المخالب، أي مع وكلاء إيران. لقد أنشأنا معادلة جديدة من خلال استهداف المنبع”.
بالفعل فقد راحت إسرائيل وبدعم أميركي واضح المعالم، تستهدف الرؤوس الأمنية الإيرانية وقيادات مهمة في لعبة الصراع القائمة في المنطقة، بين المشروعين الخطرين على العرب والمسلمين كافة، وهما المشروع الصهيوني، والمشروع الإيراني.
وقد تمكنت خلال السنوات الأخيرة من تصفية أهم الرؤوس الأمنية الإيرانية، وأيضًا اللبنانية التابعة لولاية الفقيه، وهي كما يبدو تتابع هذه الاستهدافات حيث تنخر المخابرات الإسرائيلية في جسم النظام الأمني السوري وأدواته، وتفتك فتكًا به عبر الوصول إلى شخصيات ذات أهمية، وتؤثر في تقهقر المشروع الفارسي الإيراني في المنطقة، حيث تسجل إسرائيل أرباحها في سياسة النقاط، وليس بالضربة القاضية، مما يؤثر على الخصم ويجعل محور (المقاومة والممانعة) وادعاءاته أداة طيعة، وأدواته آيلة للسقوط، وغير قادرة على المواجهة، بينما تعجز كل آلة الأمن و(العسكريتاريا) الإيرانية وتوابعها، من ميليشيات طائفية كانت قد جُهزت من أجل إنفاذ مصالح إيران واستطالاتها وتوجهات مصالحها النفعية البراغماتية على حساب الآخرين، وصمت ساحات الآخرين، وكثيرًا من الأحيان عبر الوكلاء فتكون الخسارات الكبرى فيما لو حصلت، في أجسام الوكيل، كما أن توجه الإسرائيلي مؤخرًا ينتج كثيرا من الاستهدافات مع إيران بشكل مباشر، دون أن يكون على أراضيها في معظم الأحيان.
أما لماذا مازالت إيران تسكت بل وتعجز عن ملاقاة الإسرائيلي والاقتناص منه بشكل مباشر ومتابعة استراتيجياتها في (الصمت الاستراتيجي) المُدَّعى، فإن ذلك يعود للأمور والمحددات التالية:
ليس هناك عداء حقيقي وجدي بين المشروعين الصهيوني والإيراني، ولم ترتق كل الصراعات المصلحية بينهما إلى مرتبة العداء أو القطيعة، التي لا عودة عنها، حيث تتوافق السياسات الإيرانية في المنطقة بشكل واضح على ذلك، وتشتغل واقعيًا على مبدأ أن ليس من تنافس يُفضي للعداء، بل لعله الصراع التنافسي الذي يستفيد منه الطرفان، على حساب أهل المنطقة من النظام العربي الرسمي، الذي مازال منشغلًا بمناكفاته مع الآخرين، وكذلك خلافاته البينية دون الإعداد الحقيقي لبناء مشروع يواجه به أعداءه من إيرانيين وإسرائيليين.
تعمل إيران عبر سياساتها المتتابعة والمبنية على أهمية إنجاز المشروع الفارسي، بحيث يتم من خلاله تشييد البناء المنهار أصلًا، لتتم الهيمنة على دول الجوار العربية والإسلامية، وبالتالي فإن إيران لن تسمح لأدواتها بأن تخرب ما بنته عبر عشرات السنين، وتجاوزت فيه وعبره كثيرا من العقبات، حتى باتت تهيمن على أربع عواصم عربية، في ظل صمت ومراقبة أميركية، دون الاعتراض الجدي على ذلك. من هنا كان التمسك بما أنجزته يجعلها تشرب كؤوس السم واحدة تلو الأخرى من أجل المحافظة على المشروع المستقبلي بالغ الأهمية، وهو بناء الإمبراطورية الفارسية في المنطقة.
كما أن شعار وفكرة (وحدة الساحات) كانت وما تزال مجرد صياغات شكلانية غايتها الاستمرار في صياغة وإنجاز مصالحها دون السماح بتقويض هذه المصالح مهما كانت الأثمان باهظة في الجسد الإيراني، أو في الموالين الأكثر سهولة في استثمارهم والتفريط بهم، كحال نظام بشار الأسد، أو الحوثيين، أو حتى الحشد الشعبي، أو الأداة الألعوبة الأهم حزب الله اللبناني.
ولعل استمرار سكوت إيران عن قتل قادة لها في سوريا وتقدير الإدارات الأميركية المتتابعة لها في ذلك، سيعيد وصل ما انقطع بين الطرفين، إذ إن المصالح هي التي ستجعل من الأميركي والإيراني، ومعهم الإسرائيلي في علاقات مستقبلية تُراكم ما سبق وأنجز، وتبين الحقائق بشكل أوضح، وتزيد من تعرية الإيرانيين (الممانعين) أمام الذي ما يزال يعتقد أنه بالإمكان الاعتماد على إيران/ الملالي في تحرير فلسطين أو الجولان، أو إيقاف الحرب الهمجية ضد الغزاويين الذين مازالوا يلاقون الموت على أيدي الإسرائيليين، وسط فرجة أميركية وعالمية وعربية رسمية، وكذلك من دول منظمة التعاون الإسلامي المنشغلة بمصالحها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
هل هناك عداء حقيقي وجدي بين المشروعين الصهيوني وملالي طهران؟ وهل سترتقي الصراعات المصلحية بينهما إلى مرتبة العداء أو القطيعة التي لا عودة عنها ؟ الكيان الصهيوني وملالي طهران كيانان يكنّان العداء للأمة العربية ويتنافسان على السيطرة عليها بالنفوذ والإغتصاب وبإدارة المايسترو الأمريكي ، لذلك صراعهما هو صراع حدود نفوذ فقط .
كل الافكار المطروحة في المقالة وكل ماتحدثت عنه أستاذ أحمد حقيقة تستحق أخذها بعين الإعتبار من قبل الحكام العرب الغافلون عما يحدث، أولا الأفعى الإيرانية التي تمددت بكل جسدها على أربعة دول عربية خلال عشرة سنوات وهي مستمرة في استرجاع هيمنة الدولة الفارسية على المنطقة…وكذلك أذرع الاخطبوط الإسرائيلي التي يحاول أن يقضي على قادة الحرس الثوري الإيراني وساحته سوريا مدمرا بطريقه ماتبقى من البنى التحتية السورية .وهكذا تستمر المناكافات ولا أحد يعلم مايجري تحت الطاولة.