يمكن للأزمات أن تجلب الوضوح. في الأزمة المالية التي شهدها العالم في 2008-2009، ظهر نادي “العشرون الكبار” الذي تكوّن من الاقتصادات الكبرى، ليعكس الكيفية التي امتدت بها القوة الاقتصادية أبعد من “السبعة الكبار” في العالم الغني. ومن بين الأمور التي جعلتها جائحة “كوفيد 19” واضحة، كان غياب القيادة العالمية. هذه المرة، لم تفعل “مجموعة العشرين” الكثير أبعد من التعهدات الخطابية “القيام بكل ما يلزم” ودعم تعليق سداد الديون للدول الفقيرة. وبدت الولايات المتحدة، التي قادت في السابق حملات عالمية لهزيمة فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز والإيبولا، مُستهلكة ومستوعبة في جدالاتها الداخلية. وأكد مجلس الأمن الدولي اختلاله الوظيفي.
ينقسم الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن بين الدول الغربية الثلاث وروسيا والصين؛ ويشك البعض بأن لدى الثنائي الاستبدادي اتفاق رسمي. وتمارس روسيا حقها في النقض (الفيتو) في كثير من الأحيان، والبعض منها للوقوف إلى جانب الصين. وبدلاً من المسارعة إلى العمل بشأن “كوفيد- 19″، حشد المجلس للمناقشة الأولى للأزمة في نيسان (أبريل) فقط. وكانت فرنسا وروسيا حريصتين على عقد لقاء لقادة الدول الخمس الكبرى في الذكرى السنوية للأمم المتحدة، لكنهما وجدتا ترتيب ذلك صعباً.
ضرب الوباء عندما كانت المنافسة بين أميركا والصين -القوة المهيمنة والقوة الصاعدة في العالم- شديدة مسبقاً؛ حيث امتدت من التجارة والتكنولوجيا إلى التمويل والهيمنة الإقليمية في آسيا. وفي أميركا، ثمة تصور من الحزبين للصين كمنافس يسرق الملكية الفكرية، ويستفيد من انفتاح أميركا ويعكف على تقويض تقدمها. ومن جانبها، تزداد الصين جسارة في الدفع ضد الولايات المتحدة (أو أي دولة تقاومها).
تثبت أزمة “كوفيد- 19” أنها تَعرض دراسة حالة كاشفة لهذا التنافس؛ حيث تلوم أميركا الصين على التسبب في الوباء وتطرح الصين نفسها على أنها الدولة الأكثر قدرة على التعامل معها. ويشكل أي تراجع لأميركا عن القيادة العالمية فرصة للصين لكسب أرضية. وفي حين أوقفت أميركا تمويل منظمة الصحة العالمية، تعهدت الصين بتقديم ملياري دولار لمكافحة هذا الوباء.
يصور الرئيس شي جين بينغ الصين على أنها بطل التعددية ويتحدث عن القيام “بدور نشط في قيادة إصلاح نظام الحكم العالمي”. وكانت الصين عاكفة على بناء قنوات نفوذ خارج المؤسسات التي صممتها الولايات المتحدة، فقامت بتأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، متجاوزة منطقة البنك الدولي. وأعلت من شأن دول الـ”بريكس” (التي جمعتها مع البرازيل وروسيا والهند وجنوب إفريقيا) ومنظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة من ثمانية أعضاء تضم روسيا ودول آسيا الوسطى بالإضافة إلى الهند وباكستان. ثم طرحت مبادرة “الحزام والطريق” التي يقودها الرئيس شي، وهي حملة شاملة للبنية التحتية والتطوير.
كما تعمل الصين بشكل منهجي على زيادة نفوذها في المؤسسات القائمة، وليس أقلها الأمم المتحدة. وقد زادت دعمها المالي حتى بينما تصبح أميركا أكثر شُحاً، لتصبح ثاني أكبر مساهم في كل من الميزانيات العامة وميزانيات حفظ السلام. وأصبحت أكثر حزماً وتأكيداً للذات. ويقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين في الأمم المتحدة: “قبل عشر سنوات، كانت الصين حذرة للغاية، تتظاهر بأنها مجرد دولة ناشئة. والآن يمكنني إخباركم بأنهم يتصرفون بلا قيود على الإطلاق، إنهم يريدون أن يديروا النظام”.
كانت الصين عاكفة بصبر على دفع ممثليها ليشقوا طريقهم عبر المراتب. ويرأس صينيون الآن أربعا من 15 وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، بما في ذلك منظمة الأغذية والزراعة في روما، والاتحاد الدولي للاتصالات في جنيف. وفي المقابل، يقود الأميركيون وكالة واحدة فقط. ويكد المسؤولون الصينيون لشق طريقهم من خلال إدخال إحالات مواتية في الوثائق إلى مبادرة الحزام والطريق، وزج لغة صديقة لتفسير الصين لحقوق الإنسان، والتأكيد على السيادة الوطنية والتنمية (“الاحترام المتبادل والتعاون المربح للجانبين”). ووراء الكواليس، تقوم الصين بليّ الأذرع لتجنب الانتقاد بسبب القمع الذي تمارسه في شينجيانغ أو التبت.
وقد تراكمت انتصارات الصين الصغيرة، في كثير من الأحيان في وثائق غامضة ومنتديات غير ملحوظة، وإنما بطريقة تثير الدهشة في بعض الأحيان. في مجلس الأمن المكون من 15 عضواً، على سبيل المثال، يستطيع الغرب وأصدقاؤه الاعتماد عادة على الأصوات التسعة المطلوبة لتمرير ما يريدونه في المسائل الإجرائية. ولكن، في آذار (مارس) 2018، تم رفض اقتراح مدعوم من الولايات المتحدة لمفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان بتقديم إحاطة أمام جلسة رسمية حول الانتهاكات في سورية، وبعد ضغط صيني، غيرت ساحل العاج موقفها في اللحظة الأخيرة.
قد لا يكون هدف الصين هو الحلول محل أميركا كقوة عظمى تتحمل أعباء في جميع أنحاء العالم. والأكثر ترجيحاً أن الصين تريد ببساطة طريقاً غير مثقل نحو مزيد من التطوير. وقد خلص تقرير صدر في العام الماضي عن مركز الأمن الأميركي الجديد (CNAS)، وهو مركز أبحاث، بعنوان “جمهورية الأمم المتحدة الشعبية”، إلى أن الصين كانت عاكفة على “جعل العالم آمنا للأوتوقراطية”. ولفترة طويلة، لم تولِ أميركا ذلك الكثير من الاهتمام، لكنها تتراجع الآن. في كانون الثاني (يناير)، عينت وزارة الخارجية دبلوماسيًا رفيع المستوى، مارك لامبرت، لمواجهة “التأثير الخبيث” للصين وغيرها في الأمم المتحدة. وقد نجحت هذه الجهود في آذار (مارس) في إحباط مسعى الصين للحصول على أعلى منصب في وكالة خامسة من وكالات الأمم المتحدة، المنظمة العالمية للملكية الفكرية في جنيف.
تعكس هذه التحركات على الأقل اعتراف الإدارة الأميركية بأهمية المؤسسات متعددة الأطراف. ومثلما لم يعد ترامب يصف حلف شمال الأطلسي بأنه “عفا عليه الزمن”، كما فعل قبل وصوله إلى السلطة، فإنه قد يجد المزيد من الفائدة في الأمم المتحدة. ولن يكون أول رئيس أميركي يصل إلى الاعتقاد بأن المحافل الدولية، بقدر ما تكون مزعجة، فإنها أفضل من ترك الحبل على الغارب للجميع، وبأنها يمكن أن تخفّف بعض العبء عن كاهل قوة عظمى. لكن نهجه التعاملاتي تسبب في إزعاج الحلفاء، وأضعف ثقتهم في القيادة الأميركية.
بحثاً عن طريق وسطى
نتيجة لذلك، كانت “القوى المتوسطة” تبحث عن طرق أخرى للدفاع عن النظام الليبرالي. وحدد كتاب أبيض قدمته وزارة الخارجية النرويجية العام الماضي إلى برلمانها منع تآكل القانون الدولي والأنظمة متعددة الأطراف باعتباره “مصلحة أساسية في السياسة الخارجية”. وفي نيويورك، أطلقت فرنسا وألمانيا “التحالف من أجل تعددية الأطراف”، بهدف تشكيل تحالفات متنوعة لأخذ زمام المبادرة في قضايا تتراوح من الأخبار المزيفة والاستخدام المسؤول للفضاء السيبراني، إلى المساواة بين الجنسين وتعزيز المؤسسات الدولية.
لقد ازدهرت تحالفات الدول ذات التفكير المماثل. بعد أن تخلى ترامب عن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية للتجارة الحرة، مضت أستراليا واليابان وتسع دول أخرى قدُماً بالاتفاقية من تلقاء نفسها. وأبرم الاتحاد الأوروبي واليابان اتفاقية تجارية تغطي ثلث الناتج المحلي الإجمالي في العالم. وفيما يتعلق بالدفاع، جمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون 13 دولة أخرى في “مبادرة التدخل الأوروبية” وهو يزداد حرصاً باطراد على “الاستقلال الذاتي الاستراتيجي” لأوروبا. كما أن الدول الآسيوية القلقة من الصعود الصيني الحازم، وغير المتأكدة من التزام أميركا، تقوم بتعمق العلاقات بينها.
في مثل هذه المشاريع “مقلصة الأطراف” أو “متعددة الأطراف”، ليست الحكومات الوطنية هي الجهات الفاعلة الوحيدة. ثمة الدول الإقليمية والمنظمات غير الحكومية وقادة الأعمال يقفون على خشبة المسرح أيضًا. وفي الاستجابة لمرض “كوفيد- 19″، تأخذ “مؤسسة بيل وميليندا غيتس”؛ عملاقة العمل الخيري، دورًا أكثر بروزاً من العديد من الحكومات. وكانت العديد من الولايات الأميركية منخرطة منذ انسحاب ترامب من اتفاقية باريس. وقد استضاف حاكم كاليفورنيا، جيري براون، قمة العمل المناخي العالمي في العام 2018. وتتراكم الإجراءات على المستويات دون الوطنية، والتي يمكن أن ترقى مجتمعة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ويقترح أحد التقديرات أنها يمكن أن تقلل من انبعاثات غازات الدفيئات الأميركية بحلول العام 2030 بنسبة تصل إلى 37 في المائة عن مستويات العام 2005.
أما ما إذا كانت هذه التحركات المتفرقة في المستوى المتوسط يمكن أن ترقى إلى أكثر من مجموع أجزائها، فغير واضح بعد. ويقترح مايكل فوليلوف من معهد لوي، وهو مركز أبحاث أسترالي، أن البلدان ذات التفكير المتماثل يجب أن تشكل “تحالفاً للمسؤولين”. وبما أن بعض القوى المتوسطة، مثل تايوان وكوريا الجنوبية، ميزت نفسها بطريقة استجابتها للوباء، فإنه يقترح أيضًا تشكيل “تحالفات للأكفياء”. ويمكن أن أن يؤدي المزيد من خرَق القوى الكبرى في تعامُلها مع “كوفيد- 19” إلى جعل تكوين مجموعة من القوى المتوسطة أكثر إلحاحًا. ولكن، لا ينبغي الاعتماد على كون هذه اللحظة لحظة للقوى المتوسطة، كما يقول كوري شيك من معهد “أميركان إنتربرايز”، وهو مركز أبحاث آخر. من دون قوة مهيمنة لوضع جدول للأعمال، وفرض الزخم وتوفير جزء كبير من التمويل، سيكون من الصعب جدًا للتعاون بين دول أقل “الوصول إلى السرعة اللازمة للإفلات”. وقد يؤدي، في أحسن الأحوال، إلى إبطاء -وليس إيقاف- تآكل النظام الليبرالي.
إذا كانت القوى المتوسطة نشطة، فكذلك حال القوى الأصغر. وبالاندماج معًا، حتى الكيانات الصغيرة يمكن أن يكون لها تأثير. وبموجب ميثاقها، فإن الأمم المتحدة “تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها”، ولذلك، فإن لكل دولة من الدول الـ193 في الجمعية العامة صوتا واحدا. وتُحسب الهند (1.4 مليار شخص) تماماً مثل توفالو (12.000 مواطن).
تقوم مجموعة الـ77، التي تشكلت في العام 1964 وأصبحت تضم الآن 134 عضواً، بدفع مصالح البلدان النامية. وهي أقل تجانساً مما كانت عليه، ولكن يمكن أن يكون لها تأثير (على سبيل المثال، اختيار الأمين العام) وجلب الانتباه (اختيار فلسطين لتكون رئيسها العام الماضي). وقد ساعد “تحالف الدول الجزرية الصغيرة” على وضع قضية تغير المناخ على الخريطة. وركز سامانثا باور، سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة خلال فترة ولاية باراك أوباما الثانية، على زيارة نظرائها من كل دولة عضو في مقرات بعثاتهم في نيويورك: استطاعت التواصل مع الجميع باستثناء بعثة كوريا الشمالية.
بوجود ست سفارات فقط لها حول العالم، فإن البصمة الدبلوماسية لدولة سانت فنسنت وجزر غرينادين الكاريبية (عدد سكانها: 111,000) ضئيلة، لكنها تعرض مثالاً جيداً على نفوذ الدول الصغيرة. وتقع إحدى سفاراتها في تايبيه: وهي من بين عدد قليل من الدول التي تعترف رسميًا بتايوان. وقد توسعت بعثتها في نيويورك؛ حيث تشغَل سانت فنسنت حالياً أحد المقاعد العشرة غير الدائمة في مجلس الأمن المؤلفة من 15 عضواً. وتقول إنغا روندا كينغ، سفيرة سانت فنسنت “إن المبدأ الأساسي الذي تدعو إليه جميع الدول الصغيرة هو الالتزام بالقانون الدولي”. وتضيف أنها “حازمة للغاية” بشأن المساواة في السيادة وعدم التدخل السياسي والعسكري. ويمنحها مقعد مجلس الأمن فرصة للضغط من أجل دفع مواطن الاهتمام الأساسية (خاصةً أمن المناخ والعلاقات مع إفريقيا)، ويساعدها كونها دولة صغيرة على التحرك ببراعة. وتود السيدة كينغ أن ترى مثل هذه المرونة في استجابة المجلس لـ”كوفيد- 19″، لافتة الانتباه إلى إفريقيا باعتبارها الحدود التالية المحتملة للوباء.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: Who runs the world?: As America gets tired, China gets busy
المصدر: الغد الأردنية