غزّة التي أيقظت العالم

ولاء سعيد السامرائي

من كان يتصوّر أن دولة الاحتلال العنصرية ستقف يوما في قفص الاتهام، وتُساءَل أمام محاكم القانون الدولي وأعين العالم عن جرائم الإبادة الجماعية التي تقترفها منذ أكثر من ثلاثة أشهر في غزّة ومدن فلسطين المحتلة. إنه حدث تاريخي أن تقوم جمهورية جنوب أفريقيا التي تحررت بعد نضال شاق من نظام الفصل العنصري بفضل التضامن العالمي مع قضيتها ومع قائد حركتها نيلسون منديلا، حدث تاريخي ليس فقط للفلسطينيين والعرب، بل لشعوب العالم التي خضعت تدريجيا للدعاية الصهيونية ولوبياتها التي تمدّدت في العقدين الأخيرين بشكل متسارع لإنهاء القضية الفلسطينية، خصوصا في أميركا وأوروبا.

لقد أيقظت غزّة العالم. منذ مائة يوم والعالم يشهد مواقف استثنائية وشجاعة تدين دولة الاحتلال على جرائمها التي لم ير العالم مثيلاً لها حتى في الحرب العالمية الثانية، ولا في معسكرات الاعتقال النازي، ملايين الفيديوهات تبادلها الشباب ليفضحوا ما يحصل، ولتكون المرّة الأولى التي تنقل فيها جرائم الحرب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية بشكلٍ مباشر على الملأ في العالم عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، رغم محاصرة أكثر من وسيلة منها للمحتوى المتعلق بالحرب على غزّة، كثير من الشرائح والأشخاص، وفي مختلف المجتمعات وأماكن العمل غادروا موقف المتفرّج والمتردّد والخائف، واتخذوا مواقف الأحرار والشجعان والالتزام الأخلاقي الذي حاربته الأوساط الصهيونية ومجاميع اللوبيات في أميركا والغرب في العقدين الأخيرين، عبر تسيّد العولمة وفرض قيم تسليع كل شيء، من ضمنه البشر، بحجّة أن كل شيء في الحياة أمر هشّ، فلم لا يكون الوجود وقيمة الإنسان بدوره هشّا، وكذلك دينه وبلده وحدوده.

أول من اتخذ موقفا داعما للشعب الفلسطيني هو رئيس حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلانشون الذي وصل إلى المرتبة الثانية في ترشّحه للرئاسة بنسبة 20% من أصوات الشعب الفرنسي ويعتزم خوض الانتخابات المقبلة، رفض ميلانشون هذه الأيديولوجيا، ورفض في اليوم التالي للحرب على غزّة الخضوع لتجييش أبواق الإعلام الصهيوني الفرنسيين ضد الفلسطينيين، ليقف وحدَه مع حزبه المؤثّر بنوابه الـ 75 في الجمعية الوطنية إلى جانب الشعب الفلسطيني وإلى صفّ المقاومة التي يشيطنها اللوبي الصهيوني وأتباعه هنا، ويشيطن معها كل من يدافع عن الفلسطينيين.

هذه مرة نادرةٌ يقف سياسي وحزب هذه الوقفة الأخلاقية والسياسية مع العدالة والحقّ الفلسطيني. رغم التهديدات العديدة بالموت التي تلقاها (جرى الحكم على شخصين هما صهيونيان على الأغلب)، يرفض ميلانشون الانصياع لضغوط صهاينة واتّباع دولة الاحتلال مندّدا بموقف الرئيس ماكرون وحزبه وكثيرين من نواب الجمعية الوطنية من اليمين المتطرّف، كذلك وقف ولعدّة مرّات نوابٌ من حزب فرنسا الأبية، رافضين الابتزاز بسلاح معاداة السامية المُشرع بسهولةٍ ليهزّوا الجمعية الوطنية بإدانة الكيان الصهيوني وجيشه المسمّى الجيش “الأكثر أخلاقية” كذبا وزورا، مطالبين الحكومة بموقف إنساني يتّخذه الرئيس ماكرون لوقف إطلاق النار فوراً، وفرض عقوباتٍ على حكومة نتنياهو، والعودة إلى سياسة فرنسية خارجية متّزنة ومتوازنة، لا تدعم الحرب والجرائم التي تقترفها حكومة يمينٍ متطرّف وحكومة فاشية تسلح المستعمرين لقتل الفلسطينيين.

ستكون لإعادة تصدر القضية الفلسطينية في الشأن العام في فرنسا آثار كبيرة وواسعة في المجتمع الفرنسي الذي يمنع عليه، منذ عقدين، الكلام عن فلسطين والشعب الفلسطيني. ووصل الأمر إلى حد التجريم أخيراً مع الحرب على غزّة. وكان جان لوك ميلانشون السياسي الأوروبي الوحيد الذي ذهب الى محكمة لاهاي، ليتابع عن كثب الاستماع لوفد جنوب أفريقيا والتداول مع وزير عدلها، كما عقد ميلانشون أيضا مؤتمراً صحافياً لإسناد وزير العدل في حكومة جنوب أفريقيا الذي يرفع وحكومته، بشجاعة كبيرة في زمن الصهيونية المتمدّد، دعوى الإبادة الجماعية ليقدّم ملفا متينا ورصينا موثّقا بالأفلام والصور عن جرائم الاحتلال منذ مائة يوم في غزّة بثت جلساتها بالمباشر حول العالم، ليلحق بالكيان الخسارة الأهم والأكبر التي لحقت به منذ زرعها المشؤوم في أرض فلسطين. وكان لموقف وزيرة الخارجية البلجيكية التي طالبت بعقوباتٍ ضد دولة الاحتلال، وانتقدت موقف الاتحاد الأوروبي، أثرٌ كبيرٌ في تحشيد الرأي العام البلجيكي والأوروبي لدعم غزّة، وطالبت وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية بأن تقطع دول الاتحاد الأوروبي علاقاتها مع دولة الاحتلال، وبالاعتراف بدولةٍ فلسطينيةٍ لإحقاق العدالة، وجرى الأمر نفسه في البرلمان الأيرلندي الذي عبّر فيه أكثر من نائب عن إدانته الإجرام الصهيوني الذي بدأ منذ 75 عاماً، وليس في 7 أكتوبر، ضد الشعب الفلسطيني، وطالبوا بعقوباتٍ لردع الكيان الإجرامي ولوقف الحرب الظالمة.

وجاءت الدهشة التي أربكت الصهاينة من الولايات المتحدة التي شهدت تظاهرات تضامن في أكثر من 50 مدينة، منها تظاهرات الجالية اليهودية بشعار “ليس باسمنا”، وهبّ الشباب في الجامعات المرموقة، مثل ستانفورد ويال وكولومبيا وهارفارد، لينقلب الرأي العام الأميركي، وخصوصا شبابه، وفقا لاستطلاعات الرأي بشكل كبير في صالح الشعب الفلسطيني، بعد أن كان متعاطفا إلى وقت قريب مع سردية الاحتلال، ومع روايه البكائية المكرّرة للهولوكوست التي ضجر ومل منها شباب أميركا وأوروبا. لقد نزعت الحرب على غزّة وجرائم الاحتلال قناع منتجات الأكاذيب المختلفة التي تبيعها الدويلة، وتسترزق منها في تجارة رابحة وواسعة.

لأول مرّة تتجرأ صحفية أميركية ومقدّمة برامج تُدعى آني مارتن بالقول علنا ومن دون خوف من إقالة أو اتهام بمعاداة السامية كما يجري اليوم، عن اغتيالات الصحافيين: يقتُلون الصحافيين لأنهم لا يريدون منا معرفة الحقيقة، بشكل ممنهج يقتلون الناس، إنهم لا يريدون أن يتركوا أي مجتمع حضري، إنهم يدمّرون كل ما هو مشرق وجميل، لقد شاهدت مقطعا لوحدة العناية المركّزة للخدّج الذين تركوا ليموتوا بعد اقتحام الجنود الإسرائيليين للمستشفى وتدميرهم لها، تصرخ بحرقة ودموعها تحتبس في عينيها وتقول: من يفعل هذا ؟ من؟ من؟ من الذي له أدنى قدر من الإنسانية يرى أطفالا رضّعا ممددين لا حول لهم ولا قوة ويتركهم ليموتوا؟ إنهم لا يريدون أن نرى هذا؟ الحقيقة أن الشعب الفلسطيني ممنوعٌ عليه حقّ الوجود الإنساني، وحقّ الحرية”.

أن تصرّح صحافية أميركية في قناة تلفزيونية علنا بمثل هذا الكلام أمر مستحيل بوجود شرطة حرية التعبير الصهاينة في كل مدينة أميركية لمراقبة من يجرؤ على خدش سمعة الكيان العنصري، لكنها غزّة التي نزعت عن القتلة والمجرمين أقنعة الكذب، وتُظهر حقيقة الوجوه الصهيونية! أما الفيديو الذي حصد ملايين المشاهدات فكان لأم أميركية شابة يملأها الغضب تقول إنها ما كانت تعرف دولة الاحتلال ولا تاريخ فلسطين، لكنها صُدمت اليوم عندما بدأت تقرأ عن فلسطين وشعبها، وهي قد استيقظت على الحقيقة، ولن تتوقف عن الدفاع عن الشعب الفلسطيني، وتقسم بأنها ستروي لأولادها وأحفادها جيلاً بعد جيل عن جرائم إسرائيل في غزّة وفلسطين.

هكذا يسقط القناع أيضا بالنسبة لفنانين عديدين مغنين وممثلين في أميركا وبريطانيا ليلتحقوا بقائمة مهمة، تتصدّرها الممثلة الكبيرة سوزان ساراندون، المعروفة بدعمها القضية الفلسطينية، والمغني البريطاني روجرز وترز، الذي رغم تهديده في حياته وعمله صرح بأنه لن يترك دعم الشعب الفلسطيني، وعشرات آخرين في العالم، منهم المغنّي الأيرلندي، سيث وايتكينز، الذي جعل شباب العالم يصدَحون بأغنيه جميلة ومؤثرة تروي تاريخ فلسطين واغتصاب أرضها عام 1948.

لقد أيقظت غزّة العالم، وفتحت عيون الناس في العالم على حقيقة الكيان وتاريخ استعماره الإرهابي العنصري، وعلى حقّ الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته ومقاومته، كانت شرارة البداية لوعيِ أدّى إلى تضامن عالمي لأجيال منهمكة منذ أكثر من عقد في شبكات التواصل الاجتماعي، وإلى تحرّك واسع لشرائح الشباب التي تخرُج أسبوعياً، لتتظاهر وتبحث عن كل ما يخصّ فلسطين لمعرفة الحقيقة، لتكون بداية التغيير في الموقف من الاحتلال وصورته وفك سلاسل الاستعباد من مظلومياتٍ إسرائيلية تأنيبية، فرضت منذ عقود على المجتمعات الغربية لتسويقه ودعمه والتعاطف معه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الحدث التاريخي بوقوف دولة الاحتلال الصهيوني في قفص الاتهام أمام محاكم القانون الدولي وأعين العالم عن جرائم ترتكبها بالإبادة الجماعية في غزّة ومدن فلسطين المحتلة، هو نتيجة طبيعية للعنجهية وفائض القوة التي حصلت عليها من دعم قوى الامبريالية الغربية بقيادة أمريكا ، وصحوة أحرار العالم التي ايقظتها غزة كانت أقوى ووضعتها بقفص الإتهام .

زر الذهاب إلى الأعلى