ما من أحد يشكّك في القدرة العسكرية للولايات المتحدة وبقدرتها على الضرب أينما شاءت ومتى أرادت. ومع ذلك، فإنّ اللجوء إلى استخدام القوة يُعتبر أحياناً دليلاً على الفشل السياسي. هذا ما استنتجه الكاتب في صحيفة “الغارديان” البريطانية سيمون تسدال، عندما اعتبر أنّ الضربات الجوية والبحرية الأميركية على مواقع الحوثيين، هي دليل آخر على إخفاق السياسة الأميركية في حلّ النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي.
الخيار الأقصر لتحقيق الهدوء في البحر الأحمر ولبنان والعراق وسوريا وسائر الجبهات التي فُتحت عقب حرب غزة، كان يكمن في الضغط على إسرائيل لوقف النار والانخراط في مسار سياسي يوصل إلى “حل الدولتين” الذي يبقى السبيل الوحيد لتحقيق تسوية في المنطقة.
وفي جولته الأخيرة، لم يستطع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن القفز فوق “الأفق السياسي”، الذي يجب أن يكون متاحاً أمام الفلسطينيين، إذا ما أرادت إسرائيل أن تنعم بالأمن و”التكامل” مع المنطقة. وثبت في الـ75 عاماً الماضية أنّ القوة وحدها لم تحقّق الأمن لإسرائيل. وعندما أتى بنيامين نتنياهو إلى الحكم، جعل كل همّه إحباط عملية أوسلو، من خلال تهميش السلطة الفلسطينية، وإغراق الضفة الغربية بالمستوطنات، وتشديد الحصار على قطاع غزة، والانسحاب من المفاوضات.
ودخل نتنياهو في نزاع مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وأفشل الجهود التي حاول أن يبذلها الأخير لحلّ النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي. وتوافقت سياسات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع سياسات نتنياهو، من أجل أن يرضي الأول قاعدته الانتخابية الإنجيلية، فتجاوز “حل الدولتين” إلى مباركة المسعى الإسرائيلي لضمّ أكثر من 40 في المئة من الضفة الغربية، بعدما كان نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعترف بها “عاصمة أبدية” لإسرائيل.
الرئيس جو بايدن اختار عدم الاقتراب من الملف الفلسطيني، والاكتفاء بتكرار نصيحته لإسرائيل بأن تقبل “حل الدولتين”، وبأن تخفف من ممارساتها التعسفية بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، كي لا تنفجر انتفاضة ثالثة.
مثل هذه السياسات، هي التي أفرزت السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وأدّت إلى الدخول في عملية تشكيل الشرق الأوسط من جديد. وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش جريئاً عندما قال إنّ 7 تشرين الأول (أكتوبر) “لم يأتِ من فراغ”. وعلى رغم كل ذلك، لم يتعلّم سياسيو إسرائيل من عِبَر الماضي، ولا يزالون يرفضون الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته على ترابه الوطني.
وإدارة بايدن، التي هرعت إلى مساندة إسرائيل في الحرب، فعلت ذلك مجاناً، ومن دون أن تحاول الضغط من أجل فتح المسار السياسي.
مضى أكثر من مئة يوم على الحرب، ولا تزال ذهنية الانتقام هي السائدة والمنطق العسكري الصرف، من دون مقاربة للسياسة لا من قريب أو من بعيد.
وكل يوم يمضي على الحرب، يجلب دماراً جديداً على غزة، ويزيد من الاضطرابات في الشرق الأوسط، ويشرّع المنطقة على احتمالات الدخول في نزاع شامل.
والقصف الأميركي لليمن لن يجلب حلاً، وإنما سيعمّم مشاعر القلق لدى الجميع، ويبث الخوف من إمكان اندلاع نزاع آخر في العراق وسوريا ولبنان.
وحده العمل على وقف الحرب في غزة، يمكن أن يفتح الأمل على الكلام الجدّي في السياسة. والولايات المتحدة بما تملكه من رافعة سياسية واقتصادية وعسكرية، تستطيع أن تقنع قادة إسرائيل بالعودة إلى الحوار الجدّي مع الفلسطينيين وضمن سقف زمني للوصول إلى “حل الدولتين”.
من دون مبادرة أميركية كهذه، لا يكتسب كلام بلينكن عن ضرورة وجود “أفق سياسي” أي معنى فعلي على أرض الواقع.
إنّ إطالة أمد الحرب في غزة، تُبقي الشرق الأوسط مشرّعاً على السيناريوات الكئيبة، التي لا تحمل في طياتها سوى الخراب ومزيداً من سفك الدماء وتعميق العداوات.
المصدر: النهار العربي