خطابات الحرب والمأساة الإنسانية

نبيل عبد الفتاح

الحروب هى ذروة التراجيديا الإنسانية التاريخية، منذ أقدم العصور حتى عالمنا المعاصر، وتطوراته التقنية، والعلمية، والعسكرية والاقتصادية، وهي تعبير مكثف عن الصراعات الدولية والإقليمية حول المصالح القومية المتصارعة، والأدوار والمكانة فى النظامين الدولى والإقليمى، وأيضا فى نطاق الحروب الأهلية -القومية العرقية، والدينية والمذهبية، والقبلية، والقومية-، والمناطقية، وداخل صراعات السلطة فى الدول الشمولية والتسلطية.

الجوانب المأساوية للحروب، تتجلى فى عشرات ومئات الملايين من الضحايا والقتلى، والمصابين، وتدمير المبانى، والمدن، وأنظمة التسليح والانهيارات الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية للمدنيين، وغياب المأوى، والطعام والماء، والأدوية، والرعاية الصحية، وتدمير المنشآت الطبية.. الخ!

فى ظل هذه التراجيديات الإنسانية، وسردياتها المؤلمة لأطرافها، والفاعلين فى سياقاتها، تتصارع الخطابات المختلفة، تسويغا، وتبريراً، وشرعنة للحرب من جانب كل أطرافها، سواء على المستويات السياسية، والعسكرية، والقانونية والإعلامية، والإنسانية، وبعض الخطابات الأخرى تتوارى وتهمش فى ظل هذه الدراما المؤلمة. يمكن لنا تنميط خطابات الحرب المتصارعة على النحو التالى:

أولاً: الخطاب السياسى: يركز فى منطوقه، وبنيته ومرجعيته على الجوانب السياسية، والعسكرية لكل الفواعل السياسية من الدول، وما دون الدولة – حماس، والجهاد الإسلامى، فى قطاع غزة، أو حزب الله، أو الحوثيين، أو المليشيات الشيعية فى العراق-، ويشمل الخطاب السياسى قرارات الحرب، ومن أصدرها، ولماذا؟ وتبريراته لها، وأيضا خطابات الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لكل طرف من حيث المساندة الاستخباراتية، والتسليحية، والاقتصادية، والديبلوماسية – الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا لإسرائيل فى الحرب على قطاع غزة-، وأيضا تقديم المساعدات الغذائية، والطبية، والمستشفيات الميدانية، والدعم الإعلامى والديبلوماسى فى الأمم المتحدة، ومجلس الأمن والجمعية العامة، وغيرها من المنظمات الدولية، ومساعدة بعض الدول الداعمة لطرفى الصراع، فى بلورة أهدافها، وتقديم التصورات السياسية لحلها، وحث بعض الأطراف على إنهاء الحرب، وإدارة عمليات التفاوض، وسيناريوهات الحل للنزاع بين أطرافها ومثالها الحرب على حماس والجهاد الإسلامى.

ثانيا: الخطاب العسكرى: الذي يدور حول خطط الحرب الإستراتيجية، والتاكتيكية، وأنظمة التسليح لدى كل طرف، ومدى فاعليتها، وتحليل العمليات العسكرية، وإداء كل طرف فيها ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها العملياتية، وتحقيق الردع من كل طرف على الطرف الآخر، وقدرتها على إجباره على الخضوع لإدارة الطرف/ الأطراف الأخرى. غالبا هذا الخطاب يعتمد على المصطلحات العسكرية، فى بنية الخطاب، ومرجعيته، وعلى أنظمة التسليح، وفعالياتها فى مسارات الحرب، وعلى المخزون الاستراتيجى من أنظمة التسليح المختلفة لدى أطراف الحرب، ومدى وفاءها بالأهداف العسكرية، وأشكال المساندة والدعم التسليحى من الدول الحليفة أو الصديقة، -أمريكا والدول الأوروبية الداعمة لإسرائيل على سبيل المثال- وعلى التمويل المالى للحرب.

بعض الخطابات العسكرية تتسم بالجدة فى التحليل، وبعضها الآخر يتسم بالانحياز لأحد الأطراف لرفع الروح المعنوية، والتماسك الوطنى لشعب كل طرف، ولمؤازرة فرق الجيش الذي ينحاز له هذا الخطاب، أو ذاك. بعضه يتسم بالتحيز السياسى، على نحو ما يطرحه بعض القادة العسكريين والاستخباراتيين الإسرائيليين فى الحرب على قطاع غزة، أو بعض القادة العسكريين الأمريكيين والفرنسيين.. الخ في هذا الصدد، ومدى قدرة الجيش الإسرائيلى على تحقيق أهداف العمليات العسكرية.

ثالثا: الخطاب الإعلامى التقليدى والرقمى: يعتمد الخطاب الإعلامى التقليدى على تحليل ورصد الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية لوقائع الحرب، وفاعليها، وكيفية إدارة كل طرف لها، وتقديم التصورات المتنازعة حولها، وتبريراتها، وتقييمها من خلال الخبراء والمتخصصين فى كل جوانبها، وذلك فى الخطاب الإعلامى المكتوب، والمسموع، والمرئى.

تخضع كل وسيلة إعلامية غلى توجهاتها السياسية، والتحريرية، ولطبيعة النظام السياسى، والثقافة السياسية السائدة فى بلادها، ومن ثم تتباين تغطياتها الإعلامية ما بين النظم الليبرالية الغربية وغيرها، وبين النظم الشمولية والتسلطية. فى الديمقراطيات الغربية، تتجلى الآراء المتعددة حول الحروب، والنزاعات الدولية، والإقليمية، وتقييمها، وأيضا حرية الصحافة والصحفيين والإعلاميين فى نقل ما وراء العلميات العسكرية، ونتائجها على كل طرف، من خلال شبكة مصادر كل صحفى وإعلامى. بعضهم علاقته مع مصادر سياسية، واستخباراتية، وعسكرية وأمنية وبعضهم ينحاز لهذه المصادر، وتوجهاتها -مثال صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية وانحيازها لإسرائيل ضد حماس وغيرها من الصحف والقنوات الفضائية الأمريكية والأوروبية- وبعضها يتسم بالموضوعية والحيدة فى تغطية وقائع الحرب.

فى النظم الشمولية والتسلطية تنحاز الأجهزة الإعلامية والإيديولوجية إلى الموقف الرسمى من الحرب، وأطرافها.

خطاب وسائل التواصل الاجتماعى الرقمية – المرئى والمنشورات والتغريدات، والصور على انستجرام، والفيديوهات الطلقة الوجيزة جداً -يتسم بالتعددية واسعة النطاق، والتباين فى الآراء، وفى توظيف بعض الدول والأنظمة لهذا الخطاب فى هيمنة مواقفها من خلال ما يطلق عليه الكتائب الإلكترونية/ الرقمية التى تبرز مواقف السلطة الحاكمة، وقادتها، وتدافع عنهم، وتهاجم بقسوة الآراء المغايرة لها فى أثناء الحروب، وغيرها من القضايا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية.

بعض خطاب وسائل التواصل الاجتماعى فى الحرب يوثق لعملياتها وأثارها الإنسانية، والجوانب المأساوية لها من تدمير للمبانى، والقتلى والجرحى، والتهجير القسرى، وأشكال الإبادة الجماعية، والتطهير العرقى والمجاعات، ونقص الرعاية الصحية، والدواء والماء والمأوى.. الخ! على نحو ما يحدث للمدنيين فى قطاع غزة.

رابعا: الخطاب القانونى الدولى: يتناول الجوانب القانونية للنزاعات المسلحة للحروب من حيث دوافع الحرب، ومدى مشروعيتها؛ وهل تمثل لدى بعض أطرافها دفاعا شرعياً أم عدوان مسلح؟ ومدى احترام أطرافها لقواعد قانون الحرب، والدولى الإنسانى، وقرارات الشرعية الدولية على نحو ما حدث فى الحروب العربية- الإسرائيلية، وحرب الخليج الأولى، والثانية، والحرب على غزة. هذا الخطاب يتداخل مع الخطابين السياسى، والعسكرى، فى إبراز مدى احترام المتحاربين لقواعد الشرعية الدولية.

خامسا: الخطاب الإنسانوى: يتناول هذا الخطاب الأبعاد الإنسانية للنزاعات المسلحة، وأثارها الخطيرة والمؤلمة والكارثية على المدنيين من القتلى والجرحى وتدمير المبانى الخاصة، والعامة، والمدن، والبنية الأساسية، ويكشف عن الأبعاد الأخلاقية والإنسانية للعدوان، وممارسات الجيوش إزاء المدنيين، وهل تشكل إبادة جماعية، وتطهير عرقى، وتهجير قسرى، وعقاب جماعى على نحو ما يحدث من إسرائيل فى قطاع غزة، أو الضفة الغربية. هذا الخطاب يتداخل مع الخطابين السياسى والقانونى حول الحرب. الأهم أنه بات جزءاً من خطاب وسائل التواصل الاجتماعى الرقمية، وتوظفه الأطراف المعتدية، والمعتدى عليها! ساهم هذا الخطاب فى إبراز عدم أخلاقية إسرائيل، والولايات المتحدة وبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا أو دعمهم لإسرائيل فى عدوانها على القطاع.

فى خضم هذه الخطابات المتصارعة حول النزاعات المسلحة غالبا ما يتم تهميش خطاب الآثار السوسيو- نفسية للحرب على المدنيين، والجنود فى بعض الأحيان، والأمراض النفسية للأطفال والنساء والمسنين، والمدنيين عموما، والمقاتلين، وأثر ذلك على الذاكرات الفردية والجماعية، لاسيما الأطفال ممن مات ذويهم وأسرهم وعائلاتهم وقطع الأيدى والأرجل، وفقدان البصر، والهزيان، وفقدان النطق وأثر ذلك على نفسية الأطفال، والنساء، والمسنين الخ!

لا شك أن الأمراض السوسيو-نفسية، تبدو مهمشة فى خطابات الحروب، لصالح الخطابات الأخرى، وخاصة فى ظل مجازر قطاع غزة، وضحاياها، وقتلاها الذين يتزايدون كل ساعة، ويوم من أيام الحرب المستمرة والمأساة النفسية، والاجتماعية، ستظهر أمراضها، أو باثولوجيا الحرب، فى اليوم التالى لها، وستكشف مجازرها عن واحدة من أكبر التراجيديات الإنسانية في عصرنا.

المصدر: الأهرام

 

تعليق واحد

  1. لماذا يتم تهميش خطاب الآثار السوسيو- نفسية للحرب على المدنيين، والجنود والأمراض النفسية للأطفال والنساء والمسنين، والمدنيين عموما ويكون التركيز على الخطاب السياسى والعسكري والاعلامي والقانونى الدولى والانسانوي ؟ فى خطابات الحروب تبدو مهمشة لأنها ستظهر أعراضها أو باثولوجيا الحرب فى اليوم التالى، وهذا ما يتم فى مجازر قطاع غزة، وضحاياها .

زر الذهاب إلى الأعلى