قدّم القادة الإسرائيليون خططًا متنوعة للسلام مع الفلسطينيين، إلّا أن مبادئ الاحتلال التي جرى تحديدها في العام 1967 مستمرّة حتى اليوم.
أجرى مارك أوستن من قناة Sky News في شهر كانون الأول/ديسمبر الفائت مقابلة محمَّلة بالدلالات مع السفيرة الإسرائيلية لدى المملكة المتحدة تسيبي هوتوفلي. سألها أوستن عمّا إذا كان التصوّر الإسرائيلي بشأن تسويةٍ ما مع الفلسطينيين يتضمّن حلّ الدولتَين. وبعدما حاولت هوتوفلي المناورة للتملّص من الإجابة، قالت: “لقد فشل نموذج أوسلو يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ونحن بحاجة إلى بناء نموذج جديد”. وحين ألحّ أوستن بسؤالها عمّا إذا يمكن لإسرائيل أن تقبل بدولة فلسطينية، أتى جوابها: “بالتأكيد لا…”.
عند متابعة الخطوات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية اليوم، نتيقّن من أمر واحد. وهو أن الأطراف اليمينية والاستيطانية في الحكومة، بدءًا من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ليست لديها أي نيّة في القبول بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لا بل حتى الأحزاب الأقرب إلى وسط الطيف السياسي ليست في طور الدفع بهذا الاتجاه. بتعبير آخر، يبدو أن الإسرائيليين بمعظمهم يعارضون حلّ الدولتَين، ويرفضون حلّ الدولة الواحدة، ولا يقدّمون عمومًا أي تسوية واقعية من شأنها أن تحظى ولو من بعيد باهتمام نظرائهم الفلسطينيين.
مع ذلك، نخطئ إذا أنحينا باللائمة في هذا الوضع على حزب الليكود برئاسة نتنياهو، ناهيك عن الجماعات الدينية شبه الفاشية والقومية المتطرفة المشاركة في حكومته. فالواقع هو أن اليسار الإسرائيلي أدّى دورًا أساسيًا في إرساء الإطار المفهومي للاحتلال بالشكل الذي نعرفه اليوم، والذي تم التعبير عنه بدايةً في “خطّة ألّون”، التي قُدّمت النسخة الأولى منها أمام الحكومة الإسرائيلية في 26 تموز/يوليو 1967. ربما هذا ما قصدته هوتوفلي في معرض حديثها عن “نموذج جديد” – إما هذا، أو البديل المتمثّل في تهيئة الظروف الرامية إلى تنفيذ التطهير العرقي بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وضع ويليام و. هاريس، وهو عالم في الجغرافيا السياسية من نيوزيلندا، كتابًا ممتازًا عن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في مرحلة ما بعد العام 1967، بعنوان Taking Root: Israeli Settlement in the West Bank, the Golan, andGaza–Sinai, 1967–1980 (ترسيخ الجذور: الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والجولان وغزة-سيناء خلال فترة 1967-1980). يوجِز هاريس في الكتاب أبرز ما ورد في خطة ألّون المسمّاة تيمّنًا بإيغال ألّون الذي شغل منصب وزير العمل الإسرائيلي في حكومة رئيس الوزراء ليفي إشكول. يصف هاريس الخطة بأنها “ذات دلالة كبيرة لأنها، وفيما لم تحظَ قط بقبول رسمي، أصبحت تدريجيًا الأساس المرتبط بالأرض والإيديولوجيا للمشروع الاستيطاني الرسمي الواسع النطاق في الأراضي المحتلة، وواصلت هذا الدور لنحو عقد من الزمن”.
يمكن الاختلاف مع ما قاله هاريس عن أن خطة ألّون بقيت مؤثّرة فقط لعقدٍ من الزمن. فمن نواحٍ كثيرة، استمرّ أساسها المنطقي لفترة أطول من ذلك بكثير، وهو لا يزال قائمًا حتى اليوم. تمحورت الخطة حول مبدأ بسيط مفاده أن “على إسرائيل الحفاظ على حكم مباشر في أجزاء من الأراضي المحتلة تمنحها ميزات استراتيجية واضحة، وعليها كذلك، من أجل تعزيز قدرتها على المساومة حيال هذه المناطق، بذل جهود تتعدّى إنشاء المواقع العسكرية، والبدء فورًا بتطبيق سياسة شاملة للاستعمار اليهودي”.
وشرح هاريس عن “بند أساسي في خطة ألّون، وهو مفهوم التوصل إلى تسوية على الأراضي لتحقيق أقصى قدر ممكن من الأمن لإسرائيل مع جعل الزيادة في أعداد الأقلية العربية في إسرائيل تقتصر على الحدّ الأدنى”. وقضت الخطة أن يتم ذلك من خلال إنشاء مناطق تتمتع بحكم ذاتي عربي في شمال الضفة الغربية وجنوبها، “ربما مع إقامة روابط كونفدرالية مع الأردن و/أو إسرائيل”، واحتفاظ إسرائيل بالسيطرة على أخدود وادي الأردن، ما يضفي عمقًا استراتيجيًا على دولة حدود العام 1948. بعبارة أخرى، منحت الخطة الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا، على أبعد تقدير، ربما ضمن إطار هاشمي أو إسرائيلي، ومن دون أي اعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
كان هذا التفكير أيضًا وراء خطة الحكم الذاتي التي بلورها مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، في كانون الأول/ديسمبر 1977، والتي ينتخب بموجبها سكان الأراضي المحتلة مجلسًا إداريًا لحكمهم في الكثير من المجالات، فيما تبقى المسائل المتعلقة بالأمن والنظام العام في عهدة السلطات الإسرائيلية. انحرفت الخطة عن هدف ألّون الرامي إلى تقليص عدد السكان العرب في إسرائيل، من خلال “منح سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة، بغض النظر عن جنسيتهم، وبما في ذلك السكان عديمي الجنسية، الخيار الحر في الحصول على الجنسية الإسرائيلية أو الأردنية”. ونصّت الخطة أيضًا على السماح للسكان العرب في الضفة الغربية الذين يختارون الحصول على الجنسية الإسرائيلية، بشراء الأراضي والعيش داخل إسرائيل.
رفض الفلسطينيون خطة بيغن، ولا سيما أنها لم تعترف بحقوقهم الوطنية ووضعت المجلس الإداري تحت سلطة إسرائيل، التي كانت قادرة على حلّه متى شاءت. وأعطت الخطة كذلك الضوء الأخضر لمشروع يهدف إلى بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، مُشيرةً إلى أن “إسرائيل متمسّكة بحقها ومطالبتها بالسيادة على يهودا والسامرة وقطاع غزة. ومع العلم أن ثمة مطالبات أخرى، فهي تقترح، حرصًا على الاتفاق والسلام، ترك مسألة السيادة في هذه المناطق مفتوحة”. مع ذلك، ونظرًا إلى أن إسرائيل سوف تستوطن هذه الأراضي على نحو غير مقيَّد، وسوف تتولّى الأمن فيها، فمطالبتها بالسيادة هي التي كان من المرجّح أن تسود في مطلق الأحوال. وفي الواقع، أثناء إعلان بيغن عن خطته، قدّم بوضوح الحصيلة التي يتوقعها، قائلًا: “لنا حق ومطالبة بالسيادة على هذه المناطق من أرض إسرائيل. إنها أرضنا وهي بالحق ملك الشعب اليهودي”.
وفيما حادت خطة بيغن عن خطة ألّون من بعض النواحي، ظلّت مرتكزة جوهريًا على الأُسس نفسها: الحكم الذاتي للفلسطينيين تحت إشراف إسرائيل السياسي والأمني، من دون الاعتراف بحقوقهم الوطنية، ناهيك عن سيادتهم، وفي ظل الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة، وهو أمرٌ غير قانوني بموجب القانون الدولي. وأُعيد التشديد على ذلك في اتفاقات كامب ديفيد التي تم توقيعها في أيلول/سبتمبر 1978، والتي قدّمت خطة لإرساء حكم ذاتي فلسطيني في الأراضي المحتلة لمرحلة انتقالية مدّتها ثلاث إلى خمس سنوات، تُجرى بعدها مفاوضات لتحديد الوضع النهائي للأراضي المحتلة.
من الجدير بالذكر أن اتفاقات كامب ديفيد شكّلت سابقة أساسية لا تزال سائدة في التفكير الدبلوماسي بشأن المسألة الفلسطينية الإسرائيلية. وهي أن النتيجة النهائية لمحادثات السلام العربية الإسرائيلية يجب أن تنبثق عن مفاوضات بين الأطراف، لا أن تُحدَّد مسبقًا. لماذا يكتسي ذلك أهمية؟ أحد الأسباب هو أن إدارة نيكسون سلّمت في شباط/فبراير 1972 بأن إسرائيل ليست مضطرّة إلى الالتزام بانسحاب كامل من الأراضي التي احتلتها في العام 1967 في إطار أي اتفاق مؤقت مع العرب. ولذلك دخل الإسرائيليون في مفاوضات مع العرب خلال تسعينيات القرن العشرين من دون الاضطرار إلى القبول بأي نتيجة لا يوافقون عليها، وكانت هذه المقاربة أيضًا في أساس التفسير الإسرائيلي لاتفاقات أوسلو.
لقد واصلت إسرائيل العملية الاستيطانية في مرحلة ما بعد أوسلو، ما أكّد على أن الإسرائيليين توقّعوا البقاء في أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، فيما طرأ تأخير متكرّر في الانتقال إلى محادثات الوضع النهائي التي نصّت عليها الاتفاقات. وحين انطلقت هذه المحادثات في نهاية المطاف في كامب ديفيد في شهر تموز/يوليو 2000، كان مصيرها الفشل. وقد ألقى الرئيس الأميركي بيل كلينتون باللائمة في ذلك على ياسر عرفات، ولكنّ مشاركين آخرين في القمة، منهم روبرت مالي الذي كان مستشارًا لكلينتون، خالفوه الرأي، وقد اعتبر مالي في مقال كتبه مع حسين آغا في مجلّة The New York Review of Books في العام 2001 وحظي بانتشار واسع، أن من غير الممكن أن يكون عرفات قد رفض عرضًا من نظيره الإسرائيلي إيهود باراك، إذ لم يكن قد طُرَح أي شيء واضح على طاولة البحث:
النتيجة النهائية التي أسفرت عنها مقاربة باراك والتي أُغفلت إلى حدٍّ كبير هي أن ما من عرض إسرائيلي قُدِّم على الإطلاق، بالمعنى الدقيق للعبارة. فقد كان الإسرائيليون مصمِّمين على الحفاظ على الموقف الإسرائيلي في حالة الفشل، وعازمين على عدم السماح للفلسطينيين بالاستفادة من المساومات الأُحادية الجانب، ولذلك كانوا يحجمون عن قطع الشوط المتبقي، لا بل الأشواط المتبقية لتقديم مقترح. والأفكار التي طُرحت في كامب ديفيد لم تُدوَّن كتابيًّا على الإطلاق، بل نُقِلت شفويًّا. وقُدِّمت عمومًا بوصفها مفاهيم [أميركية] لا مفاهيم إسرائيلية؛ وبالفعل، على الرغم من أن باراك طلب أن تُتاح له فرصة التفاوض وجهًا لوجه مع عرفات، فقد رفض عقد أي اجتماع جوهري معه في كامب ديفيد خوفًا من أن يسعى الزعيم الفلسطيني إلى تدوين تنازلات إسرائيلية في السجل.
رُبّ قائلٍ بأن مشكلة باراك تكمن، في جزءٍ منها، في أنه كان يحاذر من إنهاء القبضة المُحكمة لخطة ألّون. في نهاية المطاف، قبِل رئيس الوزراء إيهود أولمرت ما بدا، للوهلة الأولى، أنه تعديلٌ مهم في خطة ألّون في أيلول/سبتمبر 2008. فقد عرض التخلّي عن حوالى 94 في المئة من الضفة الغربية إلى الفلسطينيين، حتى لو ضُمَّت ثلاث كتل استيطانية كبرى، وهي غوش عتصيون ومعاليه أدوميم وأريئيل (الواقعة تباعًا في النصف الجنوبي من الضفة الغربية، وفي منطقة واسعة شرق القدس، وشمال رام الله في النصف الشمالي من الضفة الغربية)، إلى إسرائيل. لقد اعتبر أولمرت ووزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، أن العرض سخيٌّ جدًّا، ولكن ما لم يأتيا على ذكره هو أن الفلسطينيين رأوا شوائب أساسية في الخطة.
بادئ ذي بدء، قدّمت الخطة في أفضل الأحوال شكلًا مقيّدًا من السيادة الفلسطينية. فقد مُنِعت الدولة الفلسطينية من أن يكون لها جيش أو سلاح جوّي، ومن السيطرة على حدودها مع الأردن، بحيث نصّت الخطة على تسيير دوريات للقوات الدولية، يمكن أن تكون تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وبموجب الخطة، يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها عبر الحدود في فلسطين، وملاحقة أعدائها داخل الأراضي الفلسطينية، واستخدام المجال الجوي الفلسطيني. وبالمثل، لن يحصل الفلسطينيون على حق معترف به بالعودة إلى ديارهم، في ما خلا نحو 1000 لاجئ في السنة لمدّة خمس سنوات. وقد عرض أولمرت على الرئيس الفلسطيني محمود عباس خريطة غير قابلة للتفاوض كي يوقّع عليها، وليس مفاجئًا أن عباس، الذي لا بدّ من أنه استشفّ فخًّا يُنصَب له، رفض التوقيع.
ربما بدا أن أولمرت يبتعد عن خطة ألّون، ولكن منطقه لم يكن مختلفًا عنها إلى حدٍّ كبير. فالمستوطنات التي ضُمَّت إلى إسرائيل كانت عبارة عن كتل جغرافية واسعة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية تقدّم مزايا استراتيجية واضحة للجيش الإسرائيلي. وكانت الخطة تسعى أيضًا، وفقًا لما جاء على لسان هاريس، إلى “تسوية على الأراضي لتحقيق أقصى قدر من الأمن لإسرائيل مع جعل الزيادة في أعداد الأقلية العربية في إسرائيل تقتصر على الحدّ الأدنى”. وحتى لو قامت القوات الخارجية بـ”تسيير دوريّات” في غور الأردن، فهذا لم يكن يعني شيئًا من حيث هويّة الجهة التي تحتفظ بالسيادة هناك. فكانت إسرائيل ستستمرّ في اعتبار الغور خطّها الدفاعي الأوّل في الجهة الشرقية، وكانت حرّية التحرّك المتاحة لها لعبور الحدود نحو فلسطين والتحليق بطائراتها العسكرية في المجال الجوي الفلسطيني ستوفّر أساسًا قانونيًا لتدخّلاتها.
إذًا لا تزال خطة ألّون في صميم جزء كبير من التفكير الإسرائيلي بشأن الضفة الغربية، حتى في يومنا هذا. ما يريده عددٌ كبير من الإسرائيليين على ما يبدو هو أن يقبل الفلسطينيون بدولة تفتقر إلى المقوّمات السيادية للدولة؛ وأن يوافقوا على وجود المستوطنات الإسرائيلية في وسطهم والذي يمكن أن يكون وجودًا أمنيًا أيضًا؛ وأن يمنحوا إسرائيل أدوات أساسية للسيطرة على فلسطين والفلسطينيين؛ وأن يسعوا إلى طمس قضيّة اللاجئين بصورة نهائية.
في ضوء ذلك، ليست الفوارق كبيرة بين أولمرت الذي اقترح دولة مُجهَضة، ومناحيم بيغن، أو نتنياهو الذي رفض أو يرفض مفهوم الدولة الفلسطينية بحدّ ذاته. والفوارق ليست كبيرة لأن معايير خطة ألّون تتّسم بالمرونة الكافية لاقتراح شكل من أشكال الاستقلال الذاتي أو الحدّ الأدنى من الدولة. في نهاية المطاف، تقدّم الخطة أيضا تسوية يمكن أن توحّد اليسار واليمين الإسرائيليَّين، فمثلما قبِل اليمين بمبادئها بعدما كان اليسار قد صاغها في البداية، يمكن أن يجتذب جوهر الخطة، في نهاية الأمر، المتطرّفين الإسرائيليين الذين لا تقدّم اقتراحاتهم حلولًا قابلة للتطبيق تستحق النظر فيها.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط