فلسطين: أعظم قضية أخلاقية في عصرنا‏

م. رضا بهنام‏* ‏‏     ترجمة: علاء الدين أبو زينة

قبل وقت طويل من رفع جنوب إفريقيا قضية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية في 29 كانون الأول (ديسمبر) 2023 بسبب حرب الإبادة الجماعية التي تجري في غزة، كان زعيمها الشهير المناهض للفصل العنصري، نيلسون مانديلا، الذي أصبح رمزًا وتجسيدًا للنضال من أجل العدالة في جميع أنحاء العالم، قد قال: “إن فلسطين هي أعظم قضية أخلاقية في عصرنا”.

والآن، مرت ثلاثة عقود منذ أن عبَّر مانديلا عن هذه المشاعر، وهي ذات صلة اليوم كما كان حالها في ذلك الوقت، وربما أكثر.

‏كسب مانديلا ومواطنوه السود في جنوب أفريقيا أخيرًا معركتهم ضد الفصل العنصري بدءًا من تسعينيات القرن العشرين. ومع ذلك، لم يتحرر الفلسطينيون بعد من أغلال وشرور الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني في وطنهم.

لم يعش الفلسطينيون أحرارًا في بلدهم منذ أكثر من 75 عامًا. لكنهم رفضوا في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 العيش في السجن ليوم آخر. وعلى مدى أكثر من ثلاثة أشهر الآن، تحدّوا تحت أنقاض المباني التي دمرت في غزة آلة الحرب الأميركية-الإسرائيلية الهائلة.‏

الآن، ‏بدأ السياسيون الأميركيون ووسائل الإعلام الأميركية -الذين يرزحون هم أنفسهم تحت شكل من أشكال الاحتلال من خلال الترهيب وسطوة التفكير الجماعي- في كسر صمتهم بشأن فلسطين على مضض. وما يزال يتعين عليهم أن يعلنوا بوضوح أن: إسرائيل ليست ديمقراطية، بل هي كيان فصل عنصري؛ أنها ليست أرضًا موعودة، وإنما مشروع استعماري استيطاني؛ أنها ليست أمة تحت الحصار، وإنما معتدية؛ أنها لا تدافع عن نفسها، بل تشن حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.‏

يواصل الداعمون الأميركيون لإسرائيل وصف ذبح المدنيين وتدمير منازلهم في غزة المكتظة بالسكان بـ”الحرب”. يجب وصف إسقاط أكثر من ‏‏40.000 طن من المواد شديدة الانفجار، بعضها يزن 2.000 ‏‏رطل، وقادر على قتل وجرح الناس على بعد أكثر من 1.198 قدَمًا، على حقيقته -سعي من طرف إسرائيل إلى إبادة شعب بأكمله بشكل منهجي.

‏إن الاستيلاء على وطن شعب يعني سلبه هويته وتاريخه وثقافته ومستقبله. وقد حاولت إسرائيل القيام بذلك منذ أن أعلن اليهود عن إقامة دولة لهم على الأراضي الفلسطينية في العام 1948.

من خلال مقاومتهم المستمرة، حرم الفلسطينيون الصهاينة من حلمهم بإقامة “إيرتس” إسرائيل الكبرى. وهم يقولون: ليس على أرضنا.

ظلت الهوية الفلسطينية صامدة في ظل الحكم العثماني وخلال حقبة الانتداب البريطاني من العام 1922 إلى العام 1948، وازدادت قوة فقط في ظل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. ولدى الفلسطينيين علاقة عميقة مع أرض فلسطين‏‏ قائمة منذ ‏‏أكثر من 3000 عام. ومع قدوم الإسلام (في القرن 7 الميلادي)، أصبحت فلسطين نواةَ العالم الإسلامي؛ أرضًا مقدسة تشكل القدس مركزها الروحي والجيوسياسي.

ليس إنشاء دولة عرقية قومية يهودية على أنقاض فلسطين، كما نرى اليوم في غزة، شيئًا جديدًا على المشروع الصهيوني. كانت إقامة الدولة بأي ثمن هي الهدف الأساسي لمؤسسي إسرائيل، بغض النظر عن الخسائر.

‏الإبادة الجماعية التي نشهدها في غزة الآن هي تتويج لأكثر من قرن من الإمبريالية الأوروبية والصهيونية الأوروبية والتواطؤ والخداع الأميركيين. وكان الطرد والمحو راسخين دائمًا في التاريخ الصهيوني، وهما‏‏ عاطفة منتشرة ‏‏في المجتمع الإسرائيلي اليوم.

بدأ الاستعمار الصهيوني وجذور المحو مع تفكك الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. بعد الحرب، منحت عصبة الأمم المنشأة حديثا بريطانيا وفرنسا سلطة استعمارية (تسمى الانتداب) على الأراضي العثمانية السابقة.

‏وبموجب المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم للعام 1920، تقرر أن يتم حُكم منطقة الهلال الخصيب -العراق وسورية ولبنان والأردن (شرق الأردن آنذاك) وفلسطين- حتى يحين الوقت الذي يمكن أن تصبح فيه هذه المناطق مستقلة. وقد حققت جميع دول الانتداب درجات متفاوتة من الاستقلال، باستثناء فلسطين.

عمل كادر صغير من الصهاينة الأوروبيين المؤثرين على التأكد من بقاء فلسطين تحت السيطرة البريطانية، مع العلم بأن الانتداب البريطاني على فلسطين (الذي اعتُمد رسميا في العام 1922) تضمن مبادئ وعد بلفور -‏‏وهو رسالة من 109 كلمات‏‏ كتبها وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور، يعلن فيها دعم حكومته لإنشاء “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين. ومنذ البداية، وطوال الوقت، لم تتم استشارة شعب فلسطين في كل ذلك على الإطلاق.

‏‏نص نظام الانتداب بشكل خاص على تطوير الأراضي الموكلة إلى سلطة الانتداب لصالح السكان الأصليين. أما في فلسطين، وبدلاً من العمل لدعم الفلسطينيين، أنشأ البريطانيون، بالتواطؤ مع الصهاينة الأوروبيين، الإطار والمؤسسات اللازمة لإنشاء دولة يهودية في نهاية المطاف على الأراضي الفلسطينية. وعلى سبيل المثال، تنص ‏‏المادة 2 من الانتداب ‏‏على ما يلي: “يكون الانتداب مسؤولاً عن وضع البلاد تحت الظروف السياسية والإدارية والاقتصادية التي تكفل إقامة الوطن القومي اليهودي…”. وكان تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين أيضا مادة ضمن أحكام الانتداب.

بالإضافة إلى ذلك، اعترفت ‏‏المادة 4 ‏‏بـ”الوكالة اليهودية” الصهيونية كهيئة عامة لتقديم المشورة والتعاون معهم (البريطانيين) في إدارة فلسطين للتأثير على نشوء الدولة اليهودية.

‏في المقابل، لم ترد في مواد الانتداب الـ28 أي إشارة إلى الفلسطينيين كشعب أو إلى حقوقهم الوطنية أو السياسية. وبذلك، أضفى الانتداب البريطاني الشرعية بشكل أساسي على محوهم.

بعد سنوات من الصراع، أنهت بريطانيا انتدابها في 14 أيار (مايو) 1948. وفي اليوم نفسه، أعلنت إسرائيل “استقلالها”، وشرعت في ‏‏تنفيذ سياسة الطرد “خطة داليت”‏‏ -كناية عن التطهير العرقي- الرامية إلى تدمير المدن والقرى الفلسطينية وإعادة توطينها باليهود.‏

‏وأعرب ‏‏زئيف جابوتنسكي‏‏ المولود في روسيا، الصهيوني التصحيحي المؤثر الذي قدم الخريطة الأيديولوجية لحزب الليكود المستقبلي في إسرائيل، عن المشاعر نفسها. إدراكا منه للقيود المالية التي يعاني منها يهود أوروبا، كتب جابوتنسكي في تشرين الثاني (‏‏نوفمبر) 1939‏ إلى زميل له في الحزب: ‏‏”‏‏يجب أن ندفع اليهود الأميركيين إلى جمع نصف مليار دولار من أجل أن يستوعب العراق والمملكة العربية السعودية العرب الفلسطينيين… إذا كان من الممكن ترحيل شعوب البلطيق، فمن الممكن أيضا ترحيل العرب الفلسطينيين”.‏

من الواضح أن “خطة دالت” وما أشار إليه أول رئيس وزراء إسرائيلي، ‏‏ديفيد بن غوريون‏‏، في العام 1938 باسم “الترحيل القسري” هما خطة إسرائيل لإخلاء غزة من سكانها.

‏ولكن، على عكس ما حدث في نكبة العام 1948 عندما أُجبر 780.000 فلسطيني بالعنف الغاشم على ترك أرض أجدادهم، لا يمكن للنظام الإسرائيلي أن ينفذ سرا عمليات طرد جماعي لسكان غزة الآن كما فعل في ذلك الوقت. ولذلك، لجأ إلى جعل غزة غير صالحة للسكن وغير قادرة على دعم الحياة. ولتدمير الذاكرة الجماعية للفلسطينيين، قام الجيش الإسرائيلي بطمس ومحو أحياء بأكملها حتى لا يكون هناك شيء يمكن التعرف عليه؛ لا شيء للعودة إليه.

ومن خلال حرمان سكان غزة من الغذاء، والماء، والدواء، والكهرباء والوقود، يرى بعض المسؤولين الإسرائيليين، مثل ‏‏اللواء المتقاعد غيورا آيلاند‏‏ -الذي يواصل تقديم المشورة لوزير الدفاع الإسرائيلي- في انتشار الأمراض أداة للحرب أيضًا. وقد لاحظ آيلاند بوحشية: “إن الأوبئة الشديدة في جنوب قطاع غزة ستجعل النصر أقرب”.

‏إن خطة إسرائيل هي جعل الحياة في القطاع لا تطاق بحيث لا يكون أمام سكان غزة خيار سوى المغادرة أو الموت. ولتنفيذ مخططه، كان النظام الإسرائيلي عاكفًا على إرساء الأساس ويحاول بناء الدعم الدولي لعمليات الطرد الجماعي الدائم للمدنيين في غزة إلى مصر والأردن المجاورتين، اللتين ترفضان هذه الخطط حتى الآن.

وعلى الرغم من أن النظام الإسرائيلي غيَّر في وقت لاحق مساره بشأن خطة التهجير، ‏‏إلا أن بايدن أعطى تل أبيب في البداية الضوء الأخضر لتنفيذ عملية تطهير عرقي في غزة‏‏. في 11 تشرين الأول (أكتوبر)، أكد وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، أن الإدارة تعمل مع مصر وإسرائيل لإنشاء ما أسماه “ممرا إنسانيا” في سيناء للفلسطينيين الفارين من غزة. وفي 20 تشرين الأول (أكتوبر)، تم إرسال طلب تمويل رسمي إلى الكونغرس “لتلبية الاحتياجات المحتملة لسكان غزة الفارين إلى البلدان المجاورة”.

ليس الرئيس بايدن سوى واحد فقط من العديد من الرؤساء الأميركيين الذين احتضنوا إسرائيل بلا خجل وبوقاحة. وقد تورطت الولايات المتحدة بعمق في جرائم إسرائيل ضد الإنسانية منذ البداية الأولى. في 14 أيار (مايو) 1948، أصدر الرئيس هاري ترومان على عجل بيانًا يعترف فيه رسميا بدولة إسرائيل الجديدة -وكان أول زعيم عالمي يفعل ذلك. وقد أرسل البيان إلى الصحافة من دون إخطار كبار مسؤوليه في وزارة الخارجية ومندوبي الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة أولاً.‏

‏في تقديمه لكتاب إسرائيل شاحاك الصادر في العام 1994، “التاريخ اليهودي، الدين اليهودي”، كتب غور فيدال أن “جون كينيدي أخبرني كيف تخلى الجميع عن هاري ترومان في العام 1948 عندما قرر الترشح للرئاسة. وعندئذٍ أحضر صهيوني أميركي مليوني دولار نقدًا، في حقيبة، إلى قطار حملته الانتخابية المسرع. كان هذا هو السبب في صدور اعترافنا بإسرائيل بسرعة كبيرة”.

‏منذ العام 1948، أنفقت جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل ملايين الدولارات لضمان عدم ابتعاد السياسيين الأميركيين أبدًا عن دعم إسرائيل. كما أصبحت ضغوطهم تحدد المشهد السياسي الأميركي. وكان بايدن، على سبيل المثال، الذي يفخر بكونه صهيونيا فخريا، ‏‏هو المتلقي الأول لأموال اللوبي الإسرائيلي.‏‏ ومنذ العام 1990، تلقى مقابل دعمه القوي نحو 4.346.264 دولارًا من الجماعات الموالية لإسرائيل.

‏بينما يعلن البيت الأبيض على الملأ أنه شدد للنظام الصهيوني على أهمية تقليل الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين، فإنه يواصل تزويد الجيش الإسرائيلي بالقنابل التي يستخدمها لإبادة السكان المسجونين في القطاع. وقد وافق بلينكين، للمرة الثانية في كانون الأول (ديسمبر) 2023، على البيع “الطارئ” للأسلحة لإسرائيل. ومرة أخرى تجاوز الكونغرس. ‏‏وعلى الرغم من أن عدد القتلى المدنيين في غزة يقترب من 23.000 شخص‏‏، مع أكثر من 57.000 جريح وما بين 24.000 إلى 25,000 طفل أصبحوا أيتامًا بسبب القنابل الإسرائيلية، ‏‏وافق بلينكن على بيع أسلحة “طارئة” أخرى بقيمة 147.5 مليون دولار لإسرائيل.‏

‏في تناقض مع وعده بـ”استعادة روح أميركا”، ألقى بايدن بقوة بالبلاد وسمعتها وراء النظام الإسرائيلي العنصري العازم على محو الشعب الفلسطيني. ومن المؤكد أن قراراته بتوفير حماية الولايات المتحدة وتمويلها وتوريطها عسكريا في جرائم الحرب الإسرائيلية غير مفهومة. ومن غير الواضح كيف تخدم هذه السياسات التي ينتهجها بايدن مصالح أميركا قصيرة الأجل أو طويلة الأجل أو الأخلاقية.

‏لقد كشفت بربرية إسرائيل عن روح “القوة تصنع الحق” التي تعتنقها، والمعرَّفة في الكتابات الأساسية لجابوتنسكي، الذي حرك أيديولوجية القوة الإسرائيلية. كما كشفت حرب إسرائيل على غزة عن قسوة ووحشية الحكومة الأميركية التي وضعت نفسها في موضع المموِّل للإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل.

‏في مقالع المنشور في العام 1923 بعنوان “الجدار الحديدي”، جادل جابوتنسكي بأن الأخلاق والضمير لا يمكن أن تملي السياسة الصهيونية، وبأن التطرف والقوة هما جزء لا يتجزأ من تحقيق الدولة اليهودية. وجاء في توجيهاته: “إن الصهيونية هي مغامرة استعمارية، وهي بالتالي تقف أو تسقط بمسألة القوة المسلحة”، وإن “من المهم أن تبني، من المهم أن تتحدثَ العبرية، ولكن لسوء الحظ، من المهم أكثر أن تكون قادرًا على إطلاق النار…”.

لقد تلطخت شهادة ميلاد إسرائيل بدماء الفلسطينيين. ولن يكون لها مكان في الشرق الأوسط حتى تضع البندقية وترفض أيديولوجية القوة والإقصاء.

‏على مدار أكثر من قرن، عانى الفلسطينيون من مظالم لا توصف دبرتها بريطانيا وإسرائيل والولايات المتحدة. ولا يمكن التعويض عن الجرائم المروعة التي ارتُكبت ضدهم إلا عندما تنتهي النكبة المستمرة التي يعيشونها، ويؤدي نضالهم ضد الفصل العنصري إلى تحرير فلسطين.‏

*د. م. رضا بهنام M. Reza Behnam: عالم سياسي متخصص في تاريخ وسياسة وحكومات منطقة الشرق الأوسط.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Palestine: The Greatest Moral Issue of Our Time

المصدر: الغد الأردنية/(كاونتربنش)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى