تفسير كل شيء بمنطق المؤامرة مرض عقلي، ليس لأنه لا وجود لمؤامرات، بل لأنها أكثر من الهم على القلب، وفى عالم العرب بالذات، الذي تحول إلى مقلب نفايات ومؤامرات، لا يكفي وجودها لتفسير كل حدث يجرى، ولا لإخفاء العطب الكامن والظاهر في المجتمعات ونظم الحكم الديناصورية، ووجوه الخلل التي تجعل سيوف الأعداء والجيران سالكة فينا، وتثير من القلاقل والثورات والانتفاضات والحروب ما لا ينفد مدده، وحتى إشعار آخر، قد لا يجئ قريبًا.
ولبنان واحد من أصغر الدول العربية ، جغرافياه تزيد قليلا على عشرة آلاف كيلومتر مربع ، وعدد سكانه من اللبنانيين فوق الأربعة ملايين ، إضافة لنحو مليونين آخرين من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين ، واللبنانيون أكثر شعوب العرب هجرة من بلادهم ، ويقدر عدد المغتربين اللبنانيين بما قد يجاوز ضعف عدد المقيمين ، ونظام لبنان السياسي فريد فى بابه ، فالشعب اللبناني عظيم الحيوية ، لكن النظام الحاكم غاية فى الجمود ، ولم تنجح حرب أهلية امتدت 15 سنة ، وسقط فيها 120 ألف قتيل على أقل تقدير ، أن تغير شيئا فى صيغة الحكم والمحاصصة الطائفية فيه ، برغم تغيرات كبرى حدثت فى الأوزان النسبية للطوائف ، فقد نزلت نسبة المسيحيين المقيمين فى لبنان إلى ما يزيد قليلا على ثلث إجمالي السكان ، لكن ظلت لهم عموما نصف مقاعد التوزيع الطائفى فى الحكم والإدارة ، والنصف الآخر لطوائف المسلمين السنة والشيعة مع الدروز ، كانت نسبة المسيحيين نحو 84% فى لبنان الأول تحت الاحتلال الفرنسى أواسط عشرينيات القرن العشرين ، وعند نهاية الانتداب الفرنسى بالقرب من أواسط أربعينيات القرن الفائت ، وولادة لبنان الموسع المستقل (الميثاقى) كما يوصف ، كان اختيار المناصفة بين المسيحيين والمسلمين ، وعلى أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا ، ويكون رئيس الوزراء مسلما سنيا ، ويكون رئيس مجلس النواب مسلما شيعيا ، مع مناصفة عضوية مجلس النواب (128 مقعدا) بين المسيحيين من جهة والمسلمين والدروز من جهة أخرى ، مع أنصبة محفوظة للطوائف الفرعية ، وعددها 18 طائفة ، ومع حفظ الأنصبة التفصيلية ذاتها فى الوزارات والإدارات ، وفى الوظائف المالية والقضائية والشرطية والعسكرية ، ولم يتغير شئ جوهرى بنهاية الحرب الأهلية ( 1975 – 1990) ، وعقد اتفاق الطائف ، الذى حافظ على المحاصصات كلها ، وباستثناء وحيد ، هو الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية المارونى حتما ، والزيادة فى صلاحيات رئيس الوزراء السنى حتما .
وكان طبيعيا ، أن يتوق اللبنانيون بحيويتهم الفائقة إلى فك القيد الطائفى ، خصوصا أنهم يتمتعون بحريات حركة وتعبير ملحوظة ، مع حكم هش ، أشبه بوضع الشركة المساهمة التى لاتتغير طبيعة ملاكها ، وهو ما جعل الوضع عرضة لانفجارات متلاحقة ، لايحتويها إلا ضامن من خارج لبنان ، وعلى نحو ما ضمنت مصر عبد الناصر استقرار لبنان لوقت طويل نسبيا ، حتى انفجرت دواعى الحرب فيه أواسط السبعينيات ، ربما فى ذات الوقت الذى جرى فيه الانقلاب على اختيارات عبد الناصر فى مصر عقب حرب أكتوبر 1973 ، ثم تقدمت أطراف أخرى لملء فراغ الدور المصرى بعد الحرب الأهلية اللبنانية ، كان أبرزها الدور السعودى المزدوج مع دور نظام الأسد فى سوريا ، وإلى أن انفجرت الشراكة السعودية – السورية مع اغتيال رفيق الحريرى أواسط العقد الأول من القرن الجارى ، ودخلت إيران على الخط اللبنانى بقوة عبر دعم متصل لحزب الله الشيعى ، وكانت المحصلة ، أن تزايدت هشاشة الحكم الطائفى ، وظل الوضع قريبا على الدوام من حافة التفجير ، بالذات مع تزايد وتيرة عقوبات أمريكا ضد إيران ، وضد حزب الله بالذات خدمة لإسرائيل ، مع دخول سوريا فى نفق الحرب المهلكة، بعد ثورة سلمية قصيرة المدى مقصوفة العمر ، وتخلى السعودية عن دورها كداعم نقدى لحكومات لبنان.
كانت تلك كلها موارد صنعت محنة لبنان الحالية المتفاقمة ، فقد قارب إجمالى ديون البلد الصغير الجميل نحو المئة مليار دولار ، واضطر للتوقف عجزا عن سداد ديون سندات اليوروبوند (1.2مليار دولار) قبل شهور ، وتفاقمت أرقام البطالة ، وزادت نسبتها على الأربعين بالمئة من قوة العمل المفترضة ، مع اقتصاد ريعى (سياحى أساسا) ، كاد أن يغلق أبوابه ، حتى قبل تداعى مضاعفات جائحة “كورونا” ، وانهيار مرعب فى قيمة الليرة اللبنانية ، التى كان مصرف لبنان قد ثبت قيمتها لعقود عند 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد ، بينما هوت قيمتها بإطراد ، وصار الدولار الواحد يساوى نحو ثمانية آلاف ليرة ، برغم تدخل حكومة حسان دياب ، ودفعها (مصرف لبنان) إلى ضخ مئات ملايين الدولارات فى السوق ، وكان الإجراء عبثيا ، وأثره عابرا جدا ، ولم يؤد سوى لاستنزاف القدر القليل المتبقى من احتياطى العملات الأجنبية ، وربما يدفع إلى بيع احتياطى الذهب فى مصرف لبنان المركزى ، المقدر بنحو 269 طنا ، وهو ما قد يعنى إشهارا كاملا للإفلاس ، وقد أفلست مصارف لبنانية عديدة بالفعل ، مع ضغط عقوبات التتبع الأمريكية ، وتراكم ديون البنوك المتعثرة لدى الحكومة والقطاع الخاص ، بعد أن كانت ضمانات مصارف لبنان وسرية حساباتها ، واحدة من امتيازات الوضع اللبنانى ، وكانت خدماتها مفضلة لدى أثرياء المنطقة بعامة ، أضف إلى هذه المحن كلها ، ما جرى ويجرى مستجدا من تبعات سريان (قانون قيصر) ضد الحكومة السورية ، والقانون ـ إياه ـ يطارد كل المتعاملين مع الاقتصاد السورى ، وليس بين سوريا ولبنان فواصل تذكر ، ولا حدود جرى ترسيمها إلى اليوم ، فقد كان لبنان جزء من سوريا كما هو معروف ، ولم يجر تبادل التمثيل الدبلوماسى بين البلدين إلا بعد خروج القوات السورية من لبنان قبل سنوات .
وبطبائع الأمور، تكفى أزمات لبنان لإشعال ألف ثورة غضب ، وليس ثورة واحدة متصلة ، تتواتر مشاهدها السلمية فالعنيفة على مدى شهور مضت من نقطة البدء فى أكتوبر 2019 ، قطعها صمت الشوارع المفروض بطوارئ “كورونا” ، وإن لم تنتظر ثورة الغضب اللبنانى انزياح الوباء ، وعادت قبل فك الحظر ، من ميادين بيروت إلى ساحات طرابلس وبالعكس ، وجمعت فى صيحاتها ومظاهرها العفوية التلقائية ، بين دواعى الضيق من تحكم الطبقات الطائفية وبطاناتها الدينية ، ودواعى الألم من الجوع الزاحف مع شبح الإفلاس المالى ، وتوحش فساد مليارديرات الطوائف وعائلاتهم ، وكلها أسباب واقعية طبيعية كافية ، ترشح لبنان كمنصة افتتاح عاصف للموجة الثالثة من الثورات العربية المحبطة ، التى قد تتمدد هذه المرة إلى أقطار الخليج الناجية من عواصف الموجتين الأولى والثانية فى 2011 و 2019 ، مع فوارق مآسى مضافة تميز الوضع اللبنانى ، فيها هذه المرة صور المؤامرة المرئية ، التى لا تنشئ الثورات طبعا ، بل تلعب دورا فى تحريف معانيها ومساراتها ، فلبنان على فساد حكمه السياسى وطبقاته الناهبة للثروات ، هو أيضا ملعب مفتوح بلا ضابط ولا رابط ، وتعمل على أراضيه كل أجهزة مخابرات الدنيا ، وأمراء الطوائف كلها على صلات وصل محسوس مع قوى خارجية عربية وأوروبية وأمريكية وحتى إسرائيلية ، والمصالح متداخلة ومتعارضة فى الوقت نفسه ، وهو ما يفسر ظواهر خطر تتداعى ، بينها حرص طبقات الحكم الطائفى على خنق صوت الثورة الحقيقى ، وقد بدأت ثورة لبنان فى صورة زاهية ، وبدت كأبهى ثورة فى عالم العرب ، وكانت الثورة الأجمل تطارد حلما عنيدا ، هو حلم تصفية الحكم الطائفى ، والتحول بلبنان إلى حكم وطنى ديمقراطى ، تكون المواطنة المتساوية فيه هى الأساس ، وكان مفهوما أن تفزع طبقات الحكم الطائفى ، وأن تسعى لحرف ثورة الغضب عن مراميها الجامعة ، وأن تسعى لتفريغ الغضب فى المجارى الطائفية ، وعلى نحو ماجرى وتكرر فى قلب بيروت ، باستثارة فتن مذهبية بين السنة والشيعة ، خصوصا بعد خروج آل الحريرى من الحكومة ، واعتبارهم حسان دياب عميلا سنيا لحزب الله الشيعى ، وتدبير بعض من جمهور “حزب الله” و”حركة أمل” لغارات متكررة على قلب بيروت “السنى” ، وهو ما كانت له ردة فعل معاكسة فى طرابلس وصيدا ، والمحصلة : تحوير طائفى للثورة ، أضف إليه تحويرا آخر ، ليست السفارة الأمريكية ولا بعض السفارات الخليجية بعيدة عنه ، وكلها جهات تعتمد شعارا ترويجيا معروفا ، هو وصف حكومة حسان دياب بحكومة حزب الله ، برغم أن الأخير لا يجوز فيها سوى وزيرين ، وهدف الوصف معروف ، وجرى شفعه بتحريك قسم من الجمهور السائل ضد سلاح حزب الله ، واعتباره السبب فى تجويع اللبنانيين ، وطمس معانى الثورة الأصلية كلها لخدمة أولويات واشنطن وكيان العدو الإسرائيلي ، وكلها بالطبع من دواعي تحريف الثورة ، التي قامت أصلا ضد الطائفية والفساد والتجويع .
المصدر: القدس العربي