يواصل نظام الرئيس السوري بشار الأسد سعيه لمواجهة الأزمة الاقتصادية المالية التي تعانيها البلاد والتي تسبّبت، بين ما تسبّبت به، بعودة التظاهرات الشعبية إلى بعض المناطق ورفع شعارات ضد الأسد وأحياناً ضد إيران، عبر أساليب بوليسية، إذ يستمر استدعاء أثرياء الحرب السوريين من قبل أجهزة القضاء والأمن لمطالبتهم بتزويد الدولة بالعملة الصعبة والدولار الأميركي.
وهو الأسلوب الذي أطلق “المواجهة” بين الأسد وابن خاله رامي مخلوف في الشهرين الماضيين وأدى إلى امتناع الأخير عن الاستجابة لكل مطالب الأول ومصادرة أملاكه ومنعه من السفر.
استدعاء الأثرياء والمعلومات من صيارفة لبنان
مع ازدياد الأزمة المالية وارتفاع سعر صرف الدولار في سوريا، عشية بدء تطبيق “قانون قيصر” الأميركي للعقوبات على الأفراد والشركات والدول المتعاملة مع النظام، تفاقم اعتماد هذا الأسلوب.
استدعت الأجهزة السورية بعض الأثرياء الذين تمكّنوا بعلاقاتهم مع صيارفة لبنانيين من الحصول على أموال لهم في لبنان عبر صرف بعض الشيكات العالية المبالغ بأقلّ من قيمتها للحصول على المال نقداً.
من الأمثلة على ذلك، أنّ متموّلاً سورياً يسلّم مكتب صرافة لبناني شيكاً ببضعة ملايين من الدولارات، ليقبض أقلّ من قيمته بـ30 في المئة، لكن نقداً.
وعبر نفوذ حلفاء دمشق في لبنان على بعض الصرافين، تُجمع المعلومات عن تلك العمليات وتُبلّغ السلطات السورية بها، بناءً على طلبها، ما يسهّل عليها عند استدعاء أي متموّل أو غني حرب مواجهته بالوقائع والطلب منه تسليم جزء من المبلغ الذي حصل إليه إلى البنك المركزي.
المعطيات الواردة من دمشق، تشير إلى أن هذا الأسلوب أسهم في ضخّ كمية من العملة الصعبة في السوق السورية استُخدمت في لجم الارتفاع الجنوني لسعر الصرف ولو مؤقتاً، من دون أن تخفّضها.
والدليل أن المصرف المركزي السوري اضطُر إلى رفع سعر الصرف الرسمي، ما خفّض القيمة الشرائية لليرة السورية مجدداً، وزاد عمق الأزمة المعيشية.
وإذا كانت واقعة استخدام المعلومات عن سحب بعض أغنياء الحرب السوريين العملة الصعبة من الصرافين اللبنانيين إلى دمشق، دليلاً على استمرار استنزاف الدولار في السوق اللبنانية لصالح نقل كميات منه إلى سوريا، فإنه دليل على أن التضييق في بيروت على سحب الدولار من المصارف اللبنانية بسبب شحّ العملة الصعبة التي تحتاج إليها السوق المحلية، أسهم في تفاقم الأزمة في سوريا أيضاً، وكرّس مقولة “وحدة المصير” بين البلدين. (الشعار الذي كان رفعه الرئيس الراحل حافظ الأسد).
التخبّط والخوف من إسقاط النظام
لكن الذين يرصدون ما يحصل على هذا الصعيد، يكرّرون القول إن مواجهة النظام في سوريا لعقوبات “قيصر”، تجري وسط تخبّط في التعاطي مع تداعيات العقوبات، على الصعيدَيْن الاقتصادي والسياسي.
فـ”تشليح” متموّلين سوريين بعضاً من أرصدتهم علماً أن سبب ثرائهم هو النظام نفسه، لن يكون حلّاً لتفاقم الأزمة الاقتصادية بفعل عقوبات “قيصر”.
والتخبّط في مسعى دمشق لمواجهة “قيصر” والالتفاف على عقوباته برز على الصعيد السياسي بمظاهر عدّة خلال الأيام الماضية في أعقاب الإعلان عن الدفعة الأولى منها في 17 يونيو (حزيران).
ومن هذه المظاهر، التناقض في هواجس المحيطين بالنظام، إذ أبدوا تخوّفهم من أن شمول الأسد وزوجته أسماء بالعقوبات مؤشر إلى عودة واشنطن إلى اعتماد هدف إسقاط الرئيس السوري.
فالاعتقاد السائد لدى بطانة النظام أن إدارة الرئيس دونالد ترمب تخلّت عن هذا الهدف منذ قال الأخير إن لا مشكلة لديه مع الأسد بل مع إيران في سوريا، على الرغم من أن العقوبات الأميركية السابقة على النظام في 18 مايو (أيار) 2011 في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، شملت الأسد في حينها، واقترنت بكلام عن أن شرعيته كرئيس شارفت على الانتهاء، إن لم تكن قد انتهت (هيلاري كلينتون).
كما أن الأسد سبق أن خضع لعقوبات أوروبية مُدّدت الشهر الماضي، وما زال منذ بداية الأزمة السورية. إلّا أنّ التعاطي الدولي والإقليمي مع مصير الرئيس السوري كان مطّاطاً ويخضع في كلّ مرة إلى ظروف ميزان القوى ومدى تقدم الدورَيْن الإيراني والروسي في الدفاع عنه، فيتراجع هدف إسقاطه حيناً ويعود أحياناً أخرى.
ومع عقوبات “قيصر”، تصاعد الخوف في بعض محيط النظام من أن يكون هدف إسقاطه عاد إلى الواجهة وسط بروز فرضية أن إدارة ترمب قد تعتمد نظرية تحقيق إنجاز خارجي يستخدمه في ترجيح أوضاعه الانتخابية الرئاسية، لأنه الإنجاز الأسهل مقارنةً بهدف تطويع إيران بتشديد العقوبات التصاعدية على نظامها، ما يتطلّب مزيداً من الوقت الذي يتعدّى الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، أو مع التوصّل إلى حلول للتأزم التجاري والعسكري مع الصين…
إسرائيل: الأولوية لإيران وبقاء الأسد ضعيفاً
في المقابل، اشترك معلقون إسرائيليون في مناقشة وجهة النظر القائلة إنّ هناك اتجاهاً ضمنياً في واشنطن ومحيط الرئيس الأميركي إلى إعطاء الأولوية لتحقيق إنجازٍ ما في السياسة الخارجية قبيل الانتخابات الرئاسية، يدفعه إلى توجيه ضغوطه على النظام السوري.
واعتبر بعض المعلقين أنه من الأفضل بقاء الأسد في السلطة، ضعيفاً لأنه سيُضطر إلى الانسجام مع المطالب الغربية والإسرائيلية، فيما يجب تركيز الضغوط على إيران وإعطائها الأولوية بمواجهة برنامجها الصاروخي ومشاريع توسّعها في المنطقة، فضلاً عن هاجس تل أبيب الدائم من برنامجها النووي الذي يدفعها إلى تصدّر الحملة الدبلوماسية والسياسية على النظام الإيراني، لا سيما مع حليفها في البيت الأبيض.
وشملت مخاوف المحيطين بالنظام طرحهم الشكوك حول إمكان حصول توجّه نحو مفاوضات إيرانية أميركية، بعد نجاح الضغوط الاقتصادية على طهران، قد تؤدي إلى تضحية القيادة الإيرانية بالأسد، لصالح قدر من النفوذ في سوريا، بالتفاهم مع روسيا.
وتعزّزت المخاوف بعدما قال الموفد الأميركي الخاص إلى سوريا، السفير جيمس جيفري في 17 يونيو، بالتزامن مع دفعة العقوبات الأولى في إطار “قيصر”، أن “الفظاعات التي ارتكبها الأسد، وليست العقوبات هي التي دمّرت سوريا”.
لكن تلك المخاوف تغيرت حين عاد جيفري وظهر بداية الأسبوع الحالي في مطالعة أثناء ندوة مع “معهد واشنطن لشؤون الشرق الأوسط” ليؤكد أن الولايات المتحدة “لم تعد تطلب تنحّي رئيس النظام السوري بل تهدف إلى تغيير جذري في سلوك النظام”.
وأضاف “لا نطلب انتصاراً كاملاً ولا نقول إن على الأسد أن يرحل، وترغب واشنطن في تحوّل دراماتيكي في النظام كما سبق أن شهدنا في أمكنة أخرى في العالم مثلما حصل في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية… وهذا هو نوع الإصلاحات التي نحتاج إلى أن نراها… لا نعرف إذا كان يمكن أن تُنجز في ظلّ قيادته مع أولئك الذين يحيطون به أو لا”.
انشراح لتصريحات جيفري… لكن
التقط الخائفون في دمشق من استهداف الأسد ومن أن يكون هذا هو الغرض من “قيصر”، هذه العبارة ليطمئنوا أنفسهم بأن واشنطن لم تنتقل إلى التركيز على الرئيس السوري، ورأى بعض المراقبين أن الموقف الإسرائيلي الذي عكسه معلقون في صحف إسرائيلية ربما كان له تأثيره في واشنطن، بينما ظلّ آخرون في دمشق يعتقدون أن ما يشترطه قانون العقوبات الجديد لرفعها، كفيل بذاته بإسقاط الأسد.
فـ “قيصر” يطلب الإفراج عن المعتقلين ووقف قصف المناطق المدنية وإعادة النازحين بطريقة آمنة وطوعية وبكرامة ومحاكمة من تلطّخت أيديهم بدماء السوريين وارتكبوا جرائم حرب والبدء بتطبيق القرار الدولي الرقم 2254… تؤدي هذه الخطوات مجتمعة إلى عدم بقاء الأسد في السلطة، لا سيما أن القرار الدولي ينصّ على قيام سلطة انتقالية، تمهّد للتغيير في النظام ورأس الهرم.
فمحاكمة مَن ارتكبوا فظاعات ضد المدنيين السوريين وحدها قد تؤدي إذا ما جرت وفق تحقيقات دولية (تجمع عواصم أوروبية عدّة وواشنطن وقائعها) تقود عملياً إلى تحميل الأسد مسؤولية الإمرة بارتكابها وفق تسلسل هرمية السلطة في النظام.
لكن هذا لم يمنع أن يتوقع المحيطون بالأسد الأضرار الكبرى للعقوبات مع صدور الدفعة الجديدة المنتظرة في الأيام المقبلة، باعتراف وزير الخارجية السوري وليد المعلم بأن تداعيات “قيصر” ليست سهلة، مؤكداً أن الأسد باقٍ في مصبه.
لكن الجانب السوري لا يملك أي خطة واضحة لمواجهة هذه العقوبات وارتداداتها على الوضع المعيشي للسوريين مع انخفاض سعر العملة الوطنية.
ويُفترض رصد كيفية تعاطي حليفَيْ النظام روسيا وإيران، مع إدارة الوضعين السياسي والاقتصادي في بلاد الشام، لا سيما أنهما سيتضرّران، نظراً إلى انخفاض قدرة كل منهما على تقديم المساعدات له كي يصمد، على الرغم من مراهنات أركان الأسد على تلقّي الدعم من “التوجه شرقاً” الذي طرحه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله في ما يخص الأزمة الاقتصادية المالية في لبنان وتأثير “قيصر” في البلدين معاً. فالحليفان يتعرّضان بدورهما للعقوبات، فضلاً عن أن طهران تخضع لمزيد منها، كل بضعة أسابيع، لكنها قادرة على تجاوز العقوبات بالقدر الذي يتيح التبادل التجاري بينها وبين دمشق تخطّي منظومة الدفع بالدولار الأميركي.
وكان المعلم قال في مؤتمره الصحافي في 23 يونيو الحالي، إن “قيصر” يفتح الباب مجدداً لعودة الإرهاب، ملوّحاً بذلك للأميركيين بإمكان ظهور منظمات إرهابية ضدهم مجدداً، على غرار “داعش” وتنظيمات أخرى.
ويُنتظر أن تتضاعف الضغوط السورية الإيرانية على لبنان ليبقى منفذاً لتهريب السلع التي تحتاج إليها دمشق، وكي تصرّف بعض منتجاتها عبر السوق اللبنانية، ما سيؤدي إلى مزيد من التوتّر السياسي الداخلي بسبب الخلاف بين الفرقاء حول القبول بأن تكون بيروت ومناطق أخرى منصّة لالتفاف سوريا على العقوبات.
المصدر: اندبندنت عربية