النواة الصلبة

عماد الإدلبي

ثمانون يوما من القصف الهمجي الوحشي البربري على غزة ألقيت خلال الأسابيع الثلاثة الأولى منها فقط من القنابل والصواريخ والمتفجرات ما يفوق وزن وقوة القنبلتين النوويتين التي القتها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية ، ما يعادل 10 كغ متفجرات للشخص الواحد من سكان غزة وذلك وفقا لتقرير المرصد الاورومتوسطي لحقوق الانسان الصادر بتاريخ 2 تشرين الثاني ( ولنا أن نتخيل الرقم الذي وصل له وزن المتفجرات وحصة المواطن الغزاوي منها بعد مرور ثلاثة أشهر على العدوان الهمجي الصهيوني الغربي على غزة ) . استخدمت في الحرب على غزة الكثير من الأسلحة المحرمة دوليا ، واتبعت القيادة الصهيونية سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية والدمار الشامل وتجفيف موارد الحياة ، واستقدمت عددا كبيرا من المقاتلين المرتزقة من كل أنحاء العالم ، واستفادت من الدعم الأمريكي غير المحدود بكل أنواع الأسلحة بهدف كسر إرادة المقاومة الفلسطينية وإجبارها على رفع الراية البيضاء وتسليم الأسرى الصهاينة لكنها لم تنجح حتى اللحظة بتحقيق هدف استراتيجي واحد تحفظ به ماء وجهها أمام جمهورها الخائف وجيشها المنهار معنويا والغرب الرسمي الداعم الذي بدأ يتململ بسبب تنامي الأصوات الداخلية في الغرب التي تطالب بضرورة وقف اطلاق النار ووضع حد للمجزرة الرهيبة التي يرتكبها الصهاينة علنا بحق المدنيين والنساء والأطفال في سابقة لم يسجل لها التاريخ الحديث مثيلا ( إلا ما حصل في سورية على يد روسيا والنظام الأسدي ) …

والسؤال المهم .. كيف فشل الصهاينة مع وجود القوة الضاربة وحصولها على الضوء الأخضر الغربي بممارسة العنف اللازم لكسب المعركة وفتح مخازن الأسلحة الغربية ودعم الاعلام الغربي والصمت الرسمي العربي المريب والمخجل واستقدام المرتزقة وقطع مصادر الحياة عن أهل غزة وتطبيق حصار خانق وقصف صاعق على مساحة غزة الصغيرة – 345 كيلو متر مربع – كيف فشل الصهاينة في حسم المعركة وكسر إرادة المقاومة رغم توافر كل الظروف اللازمة لتحقيق هذا الهدف ؟؟؟ هل يعقل أن يفشل الجيش الذي تدعمه أقوى جيوش العالم في تحقيق نصر حاسم على مجموعة تحاصرها كل دول العالم جوا وبرا وبحرا  ؟؟؟

ما حصل أشبه بالمعجزة العسكرية كما يقول الدكتور محمد مختار الشنقيطي ذلك أنه وحسب خبراء عسكريين عالميين لا يمكن لحركة تحرير مهما كانت منظمة أن تنتصر على جيش احتلال قوي ومنظم إلا بتوفر البيئة المناسبة – أو معظم شروطها – والتي تتضمن : دولة كبيرة غير ساحلية ذات مساحة واسعة  تتخللها تضاريس جبلية وعرة ووديان مع وجود دولة مجاورة داعمة للمقاومة تشكل ملاذا آمنا للثوار ومصدرا لتأمين الأدوات اللازمة لاستمرار المقاومة ، كل هذه المقومات غير متوفرة في غزة ، فهي منطقة ساحلية صغيرة الحجم مستوية لا يوجد فيها جبال وعرة والجوار إما معاد أو مشارك في الحصار ، ورغم ذلك فشلت آلة القتل الغربية الصهيونية حتى اللحظة في كسب المعركة ، ما يضعنا أمام معجزة عسكرية حقيقية .. مع أننا لسنا في زمن المعجزات .. فما السر ؟؟

يمكننا أن نذكر الكثير من العوامل التي ساعدت على صمود المقاومة الفلسطينية وسكان غزة بطريقة اعجازية أمام الهمجية الغربية الصهيونية مثل الايمان بعدالة القضية ، وتشرب النفوس والعقول للقيم الإسلامية ، ووجود وسائل التواصل التي ساهمت في تغيير الرأي العام الغربي ، وثقة أهالي غزة بالله تعالى أولا وبالشباب المقاوم ثانيا ، وفشل المساعي الدبلوماسية بالوصول إلى حل عادل خلال عقود ، والجهد الأسطوري المبذول من أجل الاعداد لمثل هذه المعركة ( الانفاق وتصنيع الأسلحة والتدريب العسكري والتربية الايمانية للمقاتلين وبناء المجتمع على أسس إيمانية متينة والاستخبارات ودراسة وفهم العقلية الصهيونية والمجتمع الصهيوني ومعرفة مواطن القوة والضعف فيه …. الخ ) وهكذا الكثير من العوامل التي يمكنني استحضارها ساهمت في تحقيق هذه المعجزة ، لكنها جميعا في الواقع حصيلة لسبب مركزي واحد يشكل الركيزة والأساس القوي الذي تنبثق عنه تلك الآثار وهو ما يمكن أن نسميه : النواة الصلبة ( مجموعة منظمة مهيكلة متماسكة من نسيج المجتمع الذي تتحرك فيه وتناضل من اجله تستند إلى مرجعية قيمية متينة وتناضل من أجل قضية عادلة تخطط لها عقول فاهمة وتقود مسيرتها قيادات ذكية شجاعة مؤمنة بالقضية ومستعدة للتضحية من أجلها ) .

من أهم عوامل نجاح تكوين النواة الصلبة لأي مجموعة: وجود مساحة من الأرض يمتلكون فيها حرية الحركة واستقلالية القرار الداخلي .. قضية عادلة تستقطب المناضلين لكسبها..حاضنة شعبية تؤمن بأهداف المجموعة ومستعدة لدعمها والتضحية من أجل تحقيق مشروعها .. أيديولوجيا تشكل اللحمة الجامعة والمرجعية الأخلاقية والضابطة المنهجية للمجموعة.. قيادة تتمتع بالذكاء الاستراتيجي والصبر والشجاعة .. موارد كافية لبناء الهيكل التنظيمي حول النواة والقادر على تحقيق أهدافها من جهة وحمايتها من جهة ثانية  ..

لقد نجح أبطال حماس بتشكيل نواة صلبة إسلامية على أرض غزة رغم البيئة المحيطة المعادية سياسيا وعسكريا وإعلاميا واقتصاديا ومعنويا ، وتمكنوا بصبر عجيب من بناء هيكل عسكري قوي منظم حول النواة نجح بالتخطيط الاستراتيجي والتنفيذ الميداني بمهنية أذهلت حتى أعداءه ، وأثبت عبر المتاح من الإمكانات والأدوات أن نتائج وجود نواة صلبة اسلامية مبهرة إلى درجة يصعب تخيلها ( ولعل الهزة الاجتماعية والسياسية والثقافية فضلا عن العسكرية التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى في العالم أجمع دليل واضح على ذلك ) .

يمكننا من خلال إدراك هذه النقطة أن نفهم بشكل راجع الكثير من الأحداث السياسية الضخمة التي اقترفها ساسة غربيون وعرب في العقود الأخيرة في منطقتنا بعيدا عن إرادة وطموحات شعوب المنطقة والتي مدارها وهدفها الحقيقي  وأد وحصار أي إمكانية لتشكل أو استقرار نواة صلبة إسلامية في المنطقة العربية ، أذكر منها حدثين ضخمين  :

1 – ردة الفعل العنيفة الهمجية الصهيونية الغربية على احداث 7 أكتوبر والتي داست كل قيم الغرب وشعاراته ، وتجاوزت الكثير من نظرياته وأدبياته ، وشوهت الصورة الوردية عن الغرب الرسمي التي دأب الاعلام العالمي على زرعها في عقول المجتمع الغربي وشعوب العالم ، وأسقطت الأقنعة عن الوجه القبيح للسياسة الغربية ، و احرجت الدول العربية التي طبعت مع الكيان الصهيوني ، وأحدثت تغييرا حقيقيا في الرأي العام الغربي ، وأعادت الزخم للقضية الفلسطينية على مستوى العالم والأهم لدى الأجيال الصاعدة ، كل هذه الخسائر كانت في نظر الساسة الغربيين والصهاينة أهون من الخطورة الاستراتيجية لتشكيل نواة إسلامية – على تماس مباشر مع القاعدة المتقدمة الأولى لأمريكا في الشرق الأوسط – منظمة و ذكية و شجاعة و مؤمنة بدينها وعدالة قضيتها على مشاريعهم الاستعمارية والاستيطانية ، بل على وجودهم ومصالحهم بالمنطقة ..

2 – الحصار الغريب والتخوين المفاجئ والملاحقة الحثيثة لجماعة الاخوان المسلمين في معظم البلاد العربية والغربية والتي أصبحت جزءا من استراتيجية العديد من دول المنطقة بعد النجاح السياسي والشعبي الواضح الذي حققته الجماعة إثر موجة الربيع العربي التي أتاحت هامشا أوسع لحرية الاختيار للشعوب العربية ، ذلك أن جماعة الاخوان هي النواة الصلبة الإسلامية السياسية الأكثر تنظيما ووعيا والتي تستند إلى تاريخ طويل من الخبرة والممارسة الميدانية وتمتلك مشروعا ينسجم إلى حد كبير مع طموحات الغالبية العظمى من الشعوب العربية ، وهي بذلك تشكل تهديدا سياسيا حقيقيا للكثير من حكام المنطقة الذين يحافظون على وجودهم واستمرارهم إما بقوة السلاح والاستبداد والتخويف والعنف المفرط على شعوبهم أو عبر الحماية الغربية لهم والتي أقل أثمانها نهب ثروات البلد وفقدان القرار السيادي في المسائل الاستراتيجية ..

إن الإنجازات الضخمة المؤثرة على مسار الامة لا يمكن أن تحصل إلا بعد تشكيل نواة صلبة سياسية وعسكرية وثقافية واقتصادية هدفها تقدم الأمة واستعادة مجدها واستقلال قرارها وتوظيف مقدراتها لصالح شعوبها .. وإن البيئة المناسبة لنشوء وتشكيل نواة إسلامية صلبة – سياسية أو عسكرية أو ثقافية أو اجتماعية – هي البيئة التي توفر هامشا كبيرا من الحريات غير الانتقائية أو تلك التي تغيب فيها السلطة الاستبدادية القمعية والقبضة الأمنية الحديدية ، لذلك كان الربيع العربي حدثا واعدا ومبشرا لتكوين بيئة حرة تتيح للقوى الحية وعلى رأسها الإسلامية حرية الحركة لنهضة بلدها ورفاهية شعوبها  ، ولذلك كانت غزة محلا مناسبا لتشكيل نواة حماس والقسام الصلبة رغم الحصار الخانق ، ولذلك أيضا تعتبر المناطق الشمالية في سوريا والخارجة عن سيطرة النظام السوري القمعي بيئة مناسبة وتربة خصبة لتشكيل نواة إسلامية صلبة تحقق إنجازات مهمة لو نجحت القوى الثورية هناك في افراز قيادة إسلامية ذكية وقوية وطموحة .

لا بد هنا من كلمة لبعض الثوار السوريين الذين لا يجدون حتى اللحظة مبررا للتقارب الاضطراري لحماس مع ايران وحزب الله .. إن المكتسبات الضخمة التي أفرزتها عملية طوفان الأقصى والمرتكزة على نواة صلبة عمل قادة حماس على بنائها بصبر عجيب عبر عقود لا يمكن ولا يحق لهم أن يتخلوا عنها فداء لثوار قضيتهم العادلة، لكنهم لم ينجحوا حتى اللحظة في بناء نواة صلبة تحافظ على المكتسبات وتعقد التحالفات المثمرة وتسعى نحو مزيد من الإنجازات رغم توافر البيئة المناسبة لذلك .. ولقد اعتمدت العديد من القوى الثورية في مرحلة ما على الدعم الأمريكي وتواصل معظم القادة السياسيين للثورة السورية مع الخارجية الأمريكية ونسقوا معها وحرضوا على تدخلها ، وأمريكا هي الداعم الأكبر للصهاينة في قصف غزة وتدميرها وأمريكا ليست أقل شرا وخطرا من إيران ( كلاهما أسوأ من الآخر ) ، فلماذا تفهم الثوار حينها طلب الدعم من أمريكا للتخلص من النظام الأسدي مع وجود بدائل  وليس لديهم القدرة على تفهم قبول حماس المساعدة  من إيران مع غياب البديل ؟؟!! ولماذا لم نسمع من قادة حماس كلمة تخوين للثوار السوريين بسبب تواصلهم مع أمريكا ؟؟!! .. إن حماس هي العمق الحقيقي للثوار في سوريا وهي ترابط على ثغر من ثغور الأمة الإسلامية بأكملها لذلك لا يجوز للمتهورين السذج في السياسة أن يقطعوا حبال الود مع حماس ويلقوا بهم عميقا في أحضان المحور الإيراني ..

لا نعلم كيف ستنتهي هذه الحرب ، لكن النصر الاستراتيجي سيتحقق لا محالة لو أمكن الحفاظ على النواة الصلبة في غزة .. مهما كانت الخسائر ومهما كان الدمار ورغم تعاظم الألم فإن بقاء بضع عشرات من قيادات القسام في الداخل وبعض من القيادات السياسية لحماس في الخارج والداخل بما يضمن الحفاظ على النواة الصلبة سيعتبر نصرا استراتيجيا كبيرا ونواة جذب من اجل استقطاب القوى والفعاليات لإعادة البناء من جديد وتهديد الوجود الصهيوني في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى