ديمومة انتفاضة السويداء تستوجب رؤية وطنية شاملة

عبد الباسط سيدا

من بين الحجج التي تذرّعت بها الأحزاب الكردية السورية لتسويغ حذرها، وشرعنة ضعف فاعلية مواقفها من جهة التفاعل مع الثورة السورية في ربيع عام 2011: إن المعارضة السورية تقاعست عن واجباتها أيام الانتفاضة الكردية التي انطلقت من مدينة القامشلي في 12 مارس/ آذار 2004، وامتدّت إلى سائر المناطق والمهاجر الكردية السورية؛ وهي الانتفاضة التي جسّدت الرفض الكردي لتراكمات السياسة العنصرية المقيتة التي اعتمدها حزب البعث على مدى حكمه الطويل لسورية، الذي بدأ بانقلاب عام 1963، وما زال مستمراً في ظل حكم آل الأسد الذي تمكّن من الاستمرار بفعل الدعم الخارجي الدولي، والتوافقات الإقليمية والدولية حول الحفاظ عليه. وما ترتب على ذلك التردّد، الذي تجلى في العجز عن اتّخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب من الأحزب الكردية المعنية، هو تمكّن حزب العمال الكردستاني، عبر واجهاته السورية، من التحكّم بمفاصل الأمور في المناطق الكردية بعد إقصاء الناشطين الكرد، الذين كانوا قد تفاعلوا مع الثورة السورية منذ اليوم الأول، عن الساحة. وقد اتخذ ذلك الإقصاء مختلف الأشكال، منها: التهديد والاعتقال والتغييب، وحتى الاغتيال وارتكاب المجازر، وقد شمل ذلك كله قادة (وكوادر) الأحزاب الكردية السورية أيضاً.

ومن بين مآلات هذا الأمر إضعاف الموقف الوطني المعارض لسلطة الاستبداد والفساد والإفساد الأسدية، وإحداث شرخ مجتمعي بين العرب والكرد، وهو الشرخ الذي عملت السلطة كثيرا لإحداثه، واستثمرت فيه، وذلك باعتباره يتكامل مع الاستراتيجية التي اعتمدتها لمواجهة الثورة منذ اليوم الأول، وهي استراتيجية إبعاد المكوّنات السورية المجتمعية ما عدا المكوّن العربي السنّي عن الثورة، لترويج زعم مضلّل مفاده بأن ما يجري في سورية مجرّد محاولة ومؤامرة من مجموعات الإسلام السياسي المتشدّدة المتطرّفة للسيطرة على الأوضاع في سورية، بل ربما على المنطقة بأسرها، بعد التخلص من “النظام الأسدي العلماني حامي الأقليات”.

ولتعزيز فاعلية هذه الاستراتيجية، لجأت السلطة المعنية، بالتعاون مع رعاتها والأجهزة المخابراتية الإقليمية والدولية المتعاونة معها، إلى تسويق الجماعات الإرهابية المتطرّفة التي برزت فجأة، خصوصا بعد إطلاق قادتهم من سجون السلطة المعنية، ومن السجون العراقية في عهد رئاسة نوري المالكي الحكومة، لتمارس القتل، وتفرض آراء وسلوكيات غريبة على الناس تحت شعارات “الاقتداء بأيام السلف الصالح” التي كانت قبل نحو 1450 عاماً.

ورغم التنبيهات والتحذيرات التي كانت، لم تتمكّن مؤسّسات الثورة والمعارضة الرسمية من طمأنة المكونات المجتمعية السورية؛ بل لم تُشغل نفسها كثيراً بعملية الاهتمام بهذا الموضوع، اعتقاداً منها، بناء على قراءاتها واستنتاجاتها الخاطئة، أن الأمور في طريقها إلى التغيير في سورية، ومن دون الحاجة إلى بذل الجهود الوطنية المُضنية لطمأنة الداخل الوطني السوري أولاً. هذا الداخل الذي يظلّ الضمانة الحقيقية لأي مشروع وطني سوري حقيقي، يكون بكل السوريين ولكل السوريين، ولمصلحة الجميع من دون أي استثناء.

تتكرّر هذه الحالة المحبطة في يومنا الراهن، من خلال متابعتنا للتعليقات التي نقرأها أو نسمعها على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المجالس واللقاءات الخاصّة عن انتفاضة السويداء المستمرّة منذ أكثر من مائة يوم؛ وهي الانتفاضة التي تطالب بالتغيير السياسي الحقيقي في سورية، وتركّز على وحدة سورية بكامل مكوناتها المجتمعية وسائر مناطقها.

واللافت المؤسف أننا نسمع في مناسبات عدّة خطاباً طائفياً بغيضاً لم، ولن، يعزّز الوحدة الوطنية، بل يساهم في تمزيق الصفوف، ويدعم سردية السلطة حول أسباب الثورة وأهدافها. فهناك من يتّهم طائفة الموحدين (الدروز) بالجملة، ويقول إنها كانت إلى جانب السلطة، واستفادت باستمرار من مزاياها. ويدّعي هؤلاء أن السويداء قد تأخّرت كثيراً في الانضمام إلى السوريين المناهضين لسلطة بشار الأسد. في حين أن الأهل في السويداء، كما نعلم جميعاً، كانوا قد اتخذوا قراراً قاطعاً، منذ البدايات، بعدم إرسال أبنائهم إلى الجيش لقتل أشقائهم السوريين، وقد تعرّضوا نتيجة ذلك لكثير من الضغوط والعنف، بما في ذلك الهجمات الداعشية الموجّهة من السلطة وحلفائها.

وبينما يتناسى هؤلاء، إذا انطلقنا من المصطلحات الطائفية التي تقسم ولا توحد، أن العرب السنّة في محافظاتٍ كثيرة كانوا من المستفيدين من السلطة ، وكانوا باستمرار من واجهاتها في الحكومة والجيش، وحتى الأجهزة الأمنية. ولو تحرّكت المدن الكبرى ذات الأغلبية السنّية، خصوصا دمشق وحلب منذ اليوم الأول للثورة، لما وصلنا إلى العسكرة، وما أعقبها، ونعيشه راهنا من وضع مأساوي على جميع الصعد. فالمشروع الوطني المنقذ لسورية يستوجب القطع مع النزعات الطائفية المقيتة والقومية العنصرية، وحتى المناطقية والعشائرية، وإلا ستتحوّل سورية على صعيد الشعب والأرض إلى جملة جزر مبعثرة توفر أرضية لأصحاب المشاريع الإقليمية، وتكون ساحة للمستفيدين الفاسدين المحليين الذين يبدو أنهم قد تكيّفوا مع وضعية تقسيم البلد إلى جملة مناطق نفوذ، وهي وضعية مرشّحة لتقسيم فعلي غير رسمي، حتى ولو ادّعى الجميع من الفاعلين الإقليميين والدوليين عكس ذلك.

الخطاب السلبي الذي نسمعه، أو نقرأه، هنا وهناك عن انتفاضة السويداء، ينمّ عن استعلاء طائفي يستقوي بمظلوميةٍ لا تُنكر، ولكن البقاء في دائرة أسر هذه المظلومية لن يبني مشروعاً وطنياً قادراً على توحيد السوريين وبلادهم بعد سنواتٍ صعبة، كلّفت السوريين ضريبة باهظة التكاليف على مختلف الصعد، وفي سائر الميادين.

ما يحتاج السوريون إليه في المقام الأول لإعادة بناء وحدة نسيجهم المجتمعي على أسس سليمة هو تعزيز إجراءات الثقة بين مختلف المكوّنات المجتمعية، وتحسين قواعد العيش المشترك، وطمأنة سائر المكونات من دون أي استثناء، ويتحقّق ذلك عبر احترام الخصوصيات والحقوق، والتعامل مع الانتماء المجتمعي الخاص أنه الوجه الآخر المكمّل للانتماء الوطني، فاحترام الانتماء الأول يطمئن المكونات المجتمعية السورية، ويؤكّد، في الوقت عينه، أهمية الجسور التي تربط سورية بمحيطها، وهو الميحط الذي يمثل عمقها الحضاري والجيوسياسي، ويمكّنها من أن تكون مستقبلاً ميداناً للتمازج الثقافي، والحوار والتفاهم الحضاريين بين مختلف القوميات والأديان والمذاهب والطوائف التي تندرج ضمن إطار الهوية الوطنية السورية التي لا تلزمها بالتخلي عن هوياتها الفرعية؛ شرط أن يكون الولاء الأول والأساس لمصلحة الانتماء السوري على صعيدي الشعب والوطن.

أما الخطاب الاستعلائي فإنه ينطلق من مبدأ أحقّية الأغلبية المجتمعية، وليست الأغلبية السياسية؛ والقول إن صناديق الاقتراع هي التي ستكون الحَكَم من دون أي قناعة فعلية بضرورة الالتزام بالمبادئ الديمقراطية الأساسية، وقواعد اللعبة الديمقراطية التي تضمن حقوق سائر المكونات وفق الدستور، وبمعزل عن الحسابات التكتيكية، والأمزجة المتقلبة.

وبناء على ذلك، نرى أن التعامل بعقلية وطنية سليمة جامعة مطمئنة مع انتفاضة السويداء سيمهّد الطريق أمام تبديد هواجس المكونات المجتمعية الأخرى. ويُشار هنا إلى العلويين بصورة رئيسة، وكذلك إلى الكرد، وإلى المسيحيين بمختلف انتماءاتهم القومية؛ وهي هواجس قائمة موجودة ومفهومة بعد كل الذي حصل، نتيجة استخدام سلطة آل الأسد للطائفة كرأس حربة وغطاء لمشروعها التسلطي. ورغم أن هذه الطائفة (العلوية) أجبرت على دفع ضريبة باهظة جداً من أبنائها دفاعاً عن السلطة المعنية هنا، إلا أنها أصبحت نتيجة ذلك بين خيارين وجوديين، لا يقدّمان لها الضمان والأمان في المستقبل، فهي تدرك جيداً أنها إذا ما استمرّت مع السلطة فإنما تراهن على المجهول والانعزال، وربما الانفصال الذي سيكون هو الآخر على حساب شبابها ومستقبل أجيالها المقبلة. وإن قرّرت الانفكاك عن سلطة آل الأسد فستُواجه بخطاب استعلائي تشكيكي، وسيتم التعامل معها بوصفها طائفة مدانة بصورة جمعية، وذلك ما لم يتم تأصيل العقلية الوطنية. ولن يمكّن هذا الأمر المعارضين لسلطة آل الأسد والناقمين عليها بين صفوف العلويين من كسب التأييد ضمن أوساط مجتمعهم المحلي، ولن يكون في مقدورهم إقناع تلك الأوساط بأن ما ينتظرها، بعيداً عن كوارث سلطة آل الأسد، هو البديل الأفضل المطمئن الممكن.

الخطاب الشعبوي غير مُلزم لصاحبه الذي يستخدمه للتجييش في المقام الأول. ويركّز هذا الخطاب عادة على أنصاف المتعلّمين، أو من هم دونهم في مستوى التحصيل العلمي؛ مع وجود استثناءات نخبوية انتهازية، أو ممن لم يتمكّنوا بعد من التحرّر من لوثة النزعات الطائفية والقومية؛ وهي النزعات التي تخرّب المجتمعات المتنوّعة، وتضع الحدود النفسية بين مكونات المجتمع الواحد وأفراده، وبين شركاء الوطن الواحد. ويكون ذلك كله في مصلحة سلطة آل الأسد المستفيدة من استمرارية الوضع الراهن، بل هي تسعى بكل إمكاناتها من أجل مزيد من الفرقة والتباعد بين السوريين، وعادة ما تكون الهواجس والمخاوف والأحكام العامة المسبقة غير المستندة إلى وقائع ملموسة من بين الأدوات المستخدمة في هذا المجال.

وفي سياق ما تقدّم، تأتي أهمية انتفاضة السويداء، وضرورة البناء عليها، وحمايتها ودعمها. أما التعامل معها بمنطق الاستعلاء والتشكيك والاتهامات الوظيفية… إلخ، فإنه يتكامل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بوعي أو من دونه، مع مواقف الذين لا يرغبون في وضع حدّ لمأساة الشعب السوري، ولا يريدون لسورية شعباً وأرضاً الخروج من النفق المظلم، والتوجّه نحو مستقبلٍ يطمئن الجميع، ويفتح الأبواب الواسعة أمام الأجيال السورية المقبلة، حتى تستمتع بالحياة الحرة الكريمة الواعدة بالإنجازات في جميع المجالات، وعلى مختلف المستويات.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى