اللغة العربية لا تعرف الخوف ||  لا بد من الانفتاح على اللغات الأخرى ضمن قواعد وضوابط واضحة

خالد بريش

كان الانفتاح القرآني مثالاً يُحْتذى من كل اللغويين الذين جمعوا الكلمات والتعابير والمصطلحات في المعاجم. من المعروف لدى جميع العاملين والمشتغلين في حقل اللغات، أن أي لغة لا يستخدمها الناطقون بها، وتفتح أبوابها ونوافذها على اللغات الأخرى، هي لغة تدخل إلى مستنقع الجمود، وبالتالي إلى غرف الموت والاندثار. وأن اللغة التي تخاف هي لغة حكمت على نفسها بالموت. ومما لا يخفى على أحد، أن اللغة العربية كانت عبر تاريخها وما زالت من أكثر اللغات انفتاحاً على كل لغات العالم، وذلك بحكم الموقع الجغرافي للبلاد العربية كمركز محوري أساس بين الشرق والغرب اقتصادياً واستراتيجياً، ولما منحه لها الإسلام من مكانة، وإلا ما كان ليتجاوز عدد كلمات قاموس العربية اثني عشرة مليون كلمة.

وليس أدل على ذلك الانفتاح من أن القرآن الكريم الذي وصفه الباري سبحانه بقوله: (قرآناً عربياً غير ذي عوج). قد حوت سوره عبارات غير عربية في الأساس، ولكنها تعربت بفضل ذلك، ودخلت معجم العربية، بينما هي في الأساس يونانية وأمهرية وسريانية وآرامية وعبرية وفارسية وغيرها من اللغات القديمة التي كانت معروفة في فترة نزول القرآن الكريم، وهذا مما لا يخفى على أحد من الباحثين في مجال اللغويات، ولا يشكّل ضيراً بالنسبة لأي عربي، أو مسلم على الإطلاق. بل هو مجال فخر واعتزاز، وخير دليل على انفتاح اللغة العربية وعالميتها كلغة تواصل وتخاطب وعلم وثقافة…

وقد كان هذا الانفتاح القرآني مثالا يُحْتذى من كل اللغويين الذين جمعوا الكلمات والتعابير والمصطلحات في المعاجم، وضمُّوا إليها غيرها، فكان القاموس العربي وعلى مر العصور يتطور شيئاً فشيئاً، ويزداد رصيده، وتعاد كتابته في كل مرة، بعد أن تضاف إليه مجموعة من العبارات والكلمات التي كان يجري تعريبها، إمّا بزيادة أو نقصان في المبنى، أو أنها تبقى كما هي، ولكن تُكتب بأحرف عربية مع اختلاف في النطق… وهكذا دخل القاموس العربي كثير من الألفاظ والعبارات الفارسية والهندية ومن بعدها مفردات أيوبية ومملوكية، أفرد لها بعض اللغويين قاموساً خاصاً بكلماتها وتعابيرها. وها نحن أولاء اليوم، نرى أن لغتنا العربية الفصحى والعامية، ما زالت مشبعة بكلمات وعبارات تركية، إن كان في مجتمعات المشرق العربي، أو في مغربه…

فالقاموس العربي اليوم مليء بكلمات ومصطلحات غير عربية، ومع ذلك لم نرَ لغوياً واحداً ممن سبقونا، رفض استخدامها، ولكن أشار إليها في كتبه، ووضّح معانيها، واستخداماتها، وأحوالها، وقد تتابع ذلك من دون انقطاع. ومن وقت غير بعيد أوجد الأديب اللغوي أحمد فارس الشدياق مرادفاً عربياً أصيلاً لكثير من المصطلحات، منها على سبيل المثال مصطلح Socialisme فترجمه إلى «الاشتراكية»، وذلك من قبل أن يعرف بعض الأنظمة العربية الاشتراكية وتتبناها، ومن ثم تمّت ترجمة مصطلح Laïcité إلى «العلمانية»، بينما عرَّبه بعض دول المغرب العربي بـ«اللائكية». إلا أن بعضهم قد توقف عند بعض المفردات مثل «برميل»، الدخيلة على العربية وقاموسها، والتي كَثُر استخدامها في الصحف ووسائل الإعلام، بعد أن غدت وحدة قياس عالمية للنفط وأسعاره، وهو ما لم يعجب كثيرين من الباحثين في حقل اللغة الذين تخطاهم الزمن، فاعترضوا على ذلك في حينه، مقترحين الإبقاء على استخدام لفظة «الدَّن» بدلاً من برميل. غير أن هذا المصطلح ما لبث أن أخذ مكانه في اللغة العربية والشعر العربي، بعد أن استخدمه الشاعر نزار قباني وآخرون من معاصريه، وشاع استخدامه على كل الأصعدة…

نحن اليوم أمام مجتمعات عربية، ووسائل إعلام مختلفة بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي… تختار مصطلحاتها وتعابيرها بحرّية، من دون أي تحفظ ولا قواعد، بينما تعيش مجموعة من اللغويين في غرف مغلقة، يراوحون في أماكنهم، ويكررون نفس البحوث والدراسات، ويتمسكون بالماضي وبما يسمونها «أصالة»، ويدّعون خوفاً على لغة، هي نفسها ما كانت يوماً لتخاف، وما كانت لتعرف الانغلاق على نفسها. لغة عربية كانت عبر تاريخها تفتح نوافذها على كل اللغات المحيطة بها، والبعيدة عنها، وبلا أي تحفظ، فلقّحت وتلاقحت مع اللغات الأخرى، فأخذت منها، وأعطتها، وأثّرت، وتأثّرت، وهو مما لا يحتاج إلى برهان… لأن أي لغة من اللغات الحية، ليست عبارة عن قوالب باطون جامدة صمّاء، بل هي مليئة بالحياة، تشبه الناطقين بها، وتسكن تعابيرها وألفاظها أرواح مستخدميها. إننا اليوم أمام فريقين من علماء اللغة، فريق يكتب وينادي بتطوير اللغة العربية، وإلباسها ثوباً جديداً، ولكن من دون أن يحدد الكيفية والسبل والخطط للوصول إلى ذلك التطوير المنشود، وعندما يكتب عن ذلك، فإنه يكتب من منظور غربي استشراقي، مع العلم أن مدرسة الاستشراق قد أغلقت أبواب مدارسها منذ زمن. وآخر يتباكى على ضياع اللغة العربية واندثارها، من دون أن يقدم مشروعاً واضح المعالم في كيفية المحافظة عليها. وفي النتيجة، فإن معظم الذين يكتبون عن اللغة العربية من الفريقين، لم يقدموا لهذه اللغة خدمات تُذكر في صحائف التاريخ اللغوي، وعلى كل المستويات. هذا في الوقت الذي تسير فيه قافلة تطور اللغة بسرعة كبيرة، ومن دون ضوابط واضحة، وبالأخص بعد عصر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي. ومن هنا، فإن على علماء اللغة اليوم اللحاق بذلك القطار وبنفس السرعة، لأن الزمن لا ولن ينتظر المتخلفين عن اللحاق بالركب. وأنه لا بد من الانفتاح على اللغات المختلفة الأخرى، ضمن قواعد وأسس وضوابط واضحة، وإعادة كتابة القاموس العربي، الذي أصبح بحاجة حتماً إلى التجديد، لكي يستوعب في صفحاته الجديد من المصطلحات والتعابير.

* باحث لبناني

المصدر: الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى