عندما انتشرت صورة أبي محمد الجولاني مع اثنين من أقرب رجاله، في أثناء محاولة الجماعة التي يقودونها التوسع شمالاً على حساب فصائل «الجيش الوطني» في تشرين الأول 2022، لم يكن أحد يستطيع أن يتخيل مآل علاقات الثلاثة الآن، بعد ما يزيد على العام بقليل.
على يمين قائد «هيئة تحرير الشام» وقف أبو مارية القحطاني (ميسر علي الجبوري). وهو عراقي لطالما عدّه كثيرون الرجل الثاني في التنظيم منذ بواكير تأسيسه باسم «جبهة النصرة» وحتى تواردت الأنباء عن قيام الجهاز الأمني للجماعة باعتقاله، في آب الماضي، بتهمة إدارة شبكة تجسس داخلية واسعة مدّت علاقاتها إلى أكثر من جهة وشملت قياديين وعسكريين وأمنيين وإعلاميين ومرافقين لأبرز أمراء «الهيئة».
على يسار الجولاني وقف أبو أحمد زكور (جهاد عيسى الشيخ). وهو سوري حلبي سبق اعتقاله في سجن صيدنايا قبل الثورة بتهمة الانتماء إلى مجموعة سلفية جهادية تقدم الدعم اللوجستي لتنظيم القاعدة في العراق. وفي الأسبوع الفائت جرت مداهمة مقارّه من دون التمكن من القبض عليه لأنه كان قد فرّ إلى ريف حلب الشمالي مع عدد من مواليه. ومن هناك أعلن انشقاقه، متهماً الجماعة بما كان يُنسب إليه هو من السعي إلى السيطرة الأمنية والعسكرية والاقتصادية على مناطق «الجيش الوطني» عبر قضم فصائله وتفكيكها.
لم يكن ظهور الرجلين في تلك الصورة، الملتقطة في أثناء المفاوضات مع الفصائل التي كانت في وضع حرج وقتئذ، مصادفة. فإليهما يُنسب وضع ركائز مشروع التمدد نحو الشمال. الأول، القحطاني، بخبرته العشائرية ولسانه الذرب وقدرته العالية على شراء الولاءات. والثاني، زكور، من خلال إمساكه بالملف الاقتصادي وعلاقاته التجارية التي لا يستثني منها خصومُه صفقات بيع المخدرات والأسلحة لأكثر من طرف. والجدير بالذكر أن الرجلين يخضعان لعقوبات دولية بتهم تتصل بالإرهاب وتمويله.
ربما تكون هذه الأزمة المركّبة هي الأعمق منذ الصراع الوجودي الذي خاضته «جبهة النصرة» مع داعش عقب خروجها من رحم هذه الأخيرة اعتباراً من عام 2013. وقد تنذر بتفكك «الهيئة» من الداخل بعد أن زال عنها خطر أن يجتثها النظام الذي ألجمته الهدنة التركية الروسية وعوامل ضعفه الخاصة، وتراجَع خوفها من الفصائل بعدما صارت القوة الأبرز في المناطق المحرّرة وبنت تحالفاتها العلنية والسرية معهم واخترقتهم.
وهي مناسبة للتذكير بالحالة السائلة للتنظيم الذي لم يغيّر اسمه أكثر من مرة فحسب، بل قدراً من توجهاته ومعظم قياداته وكثرة من مقاتليه وقواعده، مما يجعله أشبه بقطار يصعد إليه هذا ويهبط ذاك بشكل مرتجل، بناءً فقط على مسيرة سائقه الذي لم يترك دفة القيادة فهذه الجماعة هي مشروعه الشخصي.
لا يتسع المجال هنا لاستعراض الأسماء التي انتمت إلى القافلة الجولانية وغادرتها في مراحل مختلفة. لكنها تضم عدداً كبيراً ممن تولوا أعلى المناصب فيها؛ كالشرعي العام أو القائد العسكري أو رئيس لجنة المتابعة العليا أو أمير منطقة كبيرة أو قطاع هام، فضلاً عن عضوية «مجلس الشورى» الذي كثيراً ما يحدث أن لا يعرف بعض أعضائه زملاءه، وألا يجتمع إلا في مناسبات شكلية متباعدة جداً وبمن حضر.
كانت «جبهة النصرة» هي الأكثر تماسكاً وتناغماً وثباتاً حتى شرَخها الانفصال عن داعش التي انحازت إليها أكثرية المهاجرين وعدد من السوريين. ولترميم المواقع الشاغرة أطلق الجولاني الحرية ليده المنفردة في التعيين الذي صار يعتمد على الولاء أو على القابلية للتطويع. وأتاح فك الارتباط عن تنظيم «القاعدة» فرصة التحرر من مندوبيه بعد استخدامهم لاكتساب الشرعية في المجتمع الجهادي في وقت سابق. كما سمح تأسيس «هيئة تحرير الشام»، بالاتحاد مع فصائل حليفة ورموز مشيخية غادرت بأشكال مختلفة لاحقاً، بخلط كبير للأوراق. حتى لم يعد أحد يعرف السجل المعقد الكامل للتنظيم سوى زعيمه وبعض الموثوقين من رجاله المستمرين القلائل من أمثال أبي أحمد حدود (أنس حسان خطاب) نائبه ورئيس «جهاز الأمن العام» الذي يضمن سلامته ويلاحق معارضيه.
وبالإضافة إلى إجراءات الفصل والنخل والإبعاد أدت الأعمال الحربية والاغتيالات إلى مصرع عدد كبير من قادة التنظيم الذين كثيراً ما صادف أن كانوا ممن يختلفون مع الجولاني أو يعارضون سياساته. وقد دفع ذلك ببعضهم إلى اتهامه بزجّ خصومه في الجبهات ليتخلص منهم أو حتى بتسهيل تعرّف طائرات «التحالف الدولي» عليهم. وهو أمر غير مؤكد على كل حال، وإن زادت مؤخراً وتيرة توجيه هذا الاتهام إلى القحطاني بعد الكشف عن شبكته.
التفكير في هذا هام لأن الجولاني، اتباعاً لسنّة المستبدين العريقة، يقدّم نفسه وتنظيمه بأسلوب «أنا الهيئة» حين يطرح أوراق اعتماده على الصحافيين والباحثين الغربيين سعياً للخروج من «التصنيف». ويصرّ على أن ما يسمعونه منه من تجديد في الخطاب إنما هو تحوّل شامل في توجهات التنظيم من قمته حتى أصغر جنوده. مستعيناً على إثبات ذلك بحصر لقاءاتهم في إدلب مع عدد محدد من مواليه الذين يعرفون ما ينبغي لهم إظهاره في غرفة «الضيوف»، كالشرعيَّين عبد الرحيم عطون ومظهر الويس، ومسؤول الجناح العسكري أبو حسن 600 (مرهف أحمد أبو قصرة).
في حين أن خريطة البيت الداخلي للجماعة تقول إنها مكوّنة من شرائح عديدة ومتباينة؛ من كتل قائمة على المناطقية كجماعة الشرقية المتحدرين من دير الزور أساساً، وتيار بنّش الذي يتصدره الإخوة الأمراء من آل بدوي، وأخرى تقوم على الأصل العرقي في حالة المهاجرين، كالتركستان والأوزبك، واختلافات بين المتشددين والأكثر انفتاحاً، وبين القادة العسكريين والشرعيين والواجهات المدنية في «حكومة الإنقاذ السورية»، وسوى ذلك.
تعتمد إدارة كل ذلك على التحليلات التي يرتجلها الجولاني يومياً ببراعته في لعبة التوازن داخل جماعته التي يعرف شخصيات قادتها من الصفين الأول والثاني بشكل كاف. وجرياً على عادة أخرى للمستبدين فهو يستغل وضعيته المحورية هذه للتلويح للخارج بأن المساس به يعني انفلات التطرف من عقاله، ولتهديد الداخل بأن إزاحته تؤدي إلى تشرذم قوة «الهيئة» العسكرية واستغلال النظام ذلك للسيطرة على المنطقة. وهو في الحالين يقول: «إما أنا أو الفوضى».
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
قراءة موضوعية لـ “جبهة النصرة” واسمها الجديد “هيئة تحرير الشام” كمنظمة من مخرجات القاعدة بانتماءات مناطقية متعددة كجماعة الشرقية من دير الزور ، وتيار بنّش للإخوة الأمراء من آل بدوي، وأخرى بالأصول العرقية كالمهاجرين من تركستان والأوزبك، لتكون الاختلافات بين المتشددين والأكثر انفتاحاً، وبين القادة العسكريين والشرعيين والواجهات المدنية ، لأن الرابطة بينهم هي الإيديولوجية الشمولية والغير واضحة المعالم .