ترزح المجتمعات الغربية حاليًا تحت وطأة فكرة مشؤومة مفادها أننا مقدمون على حرب باردة جديدة، هذه المرة بين الولايات المتحدة والصين.
بدأ هذا السرد يبرز في الصدارة نتيجة للنزاع التجاري الصيني الأميركي، والآن أعطته أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الـدفـعة الأخيرة إلى وسط خشبة المسرح.
وفقا لهذه الحجة، يجدر بنا أن نجهز أنفسنا للأسوأ، بدلا من أن نتجاهل بسذاجة صِـدام الهيمنة الذي سيحدد “الوضع المعتاد الجديد”.
لكن دعوات التنبيه المقصودة هذه تخفي حِـسا جبريا قدريا وراء قناع الواقعية، وتجعل من الاختيارات حقائق واقعة.
قد تكون أميركا والصين قوتين عظميين متنافستين، لكنهما لا تعتزمان بالضرورة إعادة تمثيل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
ولكن اليوم، حتى الوثائق الرسمية تحتوي على إشارات ضمنية إلى الحرب الباردة.
في شهر مايو/أيار، أصدرت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقريرا بعنوان “النهج الاستراتيجي الأميركي في التعامل مع جمهورية الصين الشعبية”، ويصرح هذا التقرير بأن “بكين تعترف صراحة بأنها تسعى إلى تغيير النظام الدولي بما يتماشى مع مصالح وإيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني”.
ويضيف التقرير أن النظام الصيني “يضرب بجذوره في تفسير بكين للفكر الماركسي اللينيني ويجمع بين دكتاتورية قومية وحيدة الحزب؛ واقتصاد تديره الدولة؛ وتوظيف العلم والتكنولوجيا في خدمة الدولة؛ وإخضاع الحقوق الفردية لخدمة غايات الحزب الشيوعي الصيني”.
الواقع أن هذا الوصف المضلل للصين من شأنه أن يؤدي إلى استحثاث ردود فعل مبالغ فيها ومقارنات زائفة.
فبادئ ذي بدء، على الرغم من خطاب زعمائها الاشتراكي، كانت الصين تتبنى الرأسمالية منذ فترة طويلة ــ كما زعم بشكل مقنع الخبير الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش.
لم يـمـح تطور الصين بأي حال من الأحوال جميع الفوارق بين النموذج الغربي الليبرالي والنموذج الصيني الأكثر اعتمادا على الدولة، كما أنه لا يحول دون التنافس بينهما. لكن التأثير الأيديولوجي تدفق في الأغلب من الغرب إلى الصين منذ أطلق دنج شياو بينج سياسة الإصلاح والانفتاح في العام 1978.
أما البصمة الإيديولوجية التي خلفها الاتحاد السوفييتي فكانت على النقيض من ذلك أكبر كثيرا.
مثلها كمثل أي قوة صاعدة كبرى، ستسعى الصين إلى تشكيل المشهد العالمي وفقا لمصالحها.
كما ستسعى إلى استرضاء مجموعات سكانية بعينها خارج حدودها.
لكنها لن تحاول إعادة تشكيل دول أخرى على صورتها، كما فعل الاتحاد السوفيتي، وكما ما تزال الولايات المتحدة تفعل في كثير من الأحيان.
تفخر الصين بكونها دولة فريدة من نوعها، وبسبب تاريخها من الإخضاع والقهر على أيدي قوى إمبريالية أجنبية أصبحت أكثر ميلا إلى رفض التدخل غير المقيد في شؤون الدول الأخرى الداخلية. علاوة على ذلك، في حين قد تجتذب بعض سمات النظام الصيني أنصار المذهب غير الليبرالي في الغرب وأماكن أخرى، فإن قوة الصين الناعمة تظل في حقيقة الأمر محدودة نسبيا.
الواقع أن الصين تختلف اختلافا جوهريا عن الاتحاد السوفييتي في افتقارها إلى مجال النفوذ؛ ويمكننا أن نزعم أن كوريا الشمالية وباكستان هما حليفتاها الوحيدتان حاليا.
صحيح أن صعود الصين قد يحث دول أخرى على القفز إلى عربتها.
لكن الحكومات الآسيوية تشعر في عموم الأمر بالقلق إزاء جارتها القوية المتزايدة الميل إلى النزعة القومية وتورطها في عدد لا يحصى من النزاعات الإقليمية، وعلى هذا فإنها تفضل العمل على إيجاد التوازن بين الصين والولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، فإن استعراض النظام الدولي اليوم من منظور ثنائي القطبية لا يضع في الحسبان الاتحاد الأوروبي، الذي يُـعَـد قطبا في حد ذاته.
فرغم أن الاتحاد الأوروبي لا يمثل دولة ذات سيادة بطبيعة الحال، ورغم معاناته في السنوات الأخيرة من اضطرابات خطيرة مثل الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، خطا المشروع الأوروبي خطوات كبرى منذ الحرب الباردة، بما في ذلك التأسيس النهائي للسوق الموحدة.
يُـعَـد الاتحاد الأوروبي اليوم الكتلة التجارية الأكبر في العالم والشريك الأكبر لثمانين دولة.
وعلى الرغم من عيوبه ونقائصه فإن الاتحاد الأوروبي يعتبر منارة عالمية لحقوق الإنسان، والخصوصية الفردية، والرفاهة الاجتماعية، والوعي البيئي.
ورغم أن العالم السياسي أندرو مورافشيك كان مصيبا عندما وصف الاتحاد الأوروبي بأنه “قوة عظمى غير مرئية”، فإن تأثيره في ما يتصل بالعديد من القضايا الكبرى في أجزاء كثيرة من العالم واضح بشدة في حقيقة الأمر.
لكل هذا، لن يرضى الاتحاد الأوروبي بأن يكون الحبل في لعبة شد الحبل بين الصين وأميركا، وسوف يظل حريصا على التركيز على استكشاف أوجه التآزر مع كل من القوتين.
ويجب أن تقود روح الانفتاح هذه عالم ما بعد الجائحة بشكل أكثر عموما.
كان نقص المواد الأساسية سببا في دفع كثيرين إلى مطالبة الدول بأن تصبح أكثر اعتمادا على الذات اقتصاديا.
وقد يترتب عل ذلك العودة إلى تصعيد التوترات التجارية الصينية الأميركية.
من المؤكد أن سلاسل القيمة العالمية لا تتمتع غالبا بالقدر الكافي من المرونة أو سرعة الاستجابة، ومن الممكن أن تستخدم الاتكالية الاقتصادية المتبادلة كسلاح.
ولكن كما زعم هنري فاريل من جامعة جورج واشنطن وأبراهام نيومان من جامعة جورج تاون، فمن الحماقة أن تسعى الولايات المتحدة والصين إلى الانفصال الاقتصادي الشامل.
لم يشهد التاريخ من قبل قط قوتين عظميين عالميتين بهذا القدر من الاتكالية المتبادلة وكل منهما تواجه خطر إيذاء ذاتها بمحاولة إيذاء الأخرى.
على نحو ما، كان تصور الاتكالية المتبادلة على أنها من الممكن أن تعمل كرادع حاضرا أيضا طوال فترة الحرب الباردة، على النحو الذي دعم مبدأ “الدمار المؤكد المتبادل”.
لكن الحرب الباردة كانت في حقيقة الأمر شديدة الحرارة في العديد من المناطق، وفشل مبدأ الدمار المؤكد المتبادل في منع الاقتراب من واقعات نووية وشيكة.
ما يدعو إلى التفاؤل أن الحرب النووية تبدو في الوقت الحاضر احتمالا بعيدا للغاية، ونحن لسنا في خضم سباق تسلح على غرار الحال إبان الحرب الباردة.
إذ يظل الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة والصين مستقرا نسبيا، وما تزال قدرات الصين العسكرية ــ على الرغم من معدلات نمو ناتجها المحلي الإجمالي الأعلى ــ باهتة مقارنة بأميركا.
مع ذلك، ربما تتغير الأمور إذا بدأ القادة السياسيون والمعلقون المؤثرون في تبني خطاب المواجهة بلا داع. الواقع أن مقارنات الحرب الباردة من الممكن أن تتحول إلى نبوءات ذاتية التحقق فتدفع العالم إلى منحدر زلق.
بل إن هناك بالفعل مؤشرات توحي بأن الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني ستدور جزئيا على الأقل حول كيفية مواجهة الصين، حيث يجبر الديمقراطيون والجمهوريون بعضهم بعضا على تشديد مواقفهم.
في الوقت ذاته، ورغم أن الصين كانت تقليديا تنفر من خطاب الحرب الباردة، فإن ثِـقَـلها الاقتصادي الأكبر مقارنة بوزن الاتحاد السوفييتي ربما يدفعها إلى اتخاذ موقف مفرط الحزم أو العدائية.
ولا يبشر نهجها في التعامل مع هونج كونج وبحر الصين الجنوبي، على سبيل المثال، بالخير.
ولكن لم يفت الأوان بعد لإنقاذ الموقف. لا شك أن خفض التصعيد يصب في المصلحة البعيدة الأمد لكل بلد، وخاصة الولايات المتحدة والصين.
ومن الواضح أن عقلية الحرب الباردة لا تناسب التعامل مع التحديات الأكثر صعوبة اليوم، مثل مكافحة جائحة كوفيد-19 الجارية، وتأمين التعافي الاقتصادي المتين، وتخفيف حدة تغير المناخ. علاوة على ذلك، لا وجود لأي شيء قد يكون محددا سلفا في ما يتصل بتطور العلاقات بين القوى العظمى: فرغم أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين باق، فإنه لا يحول دون استكشاف سبل التعاون.
شيء واحد شديد الوضوح: وهو أن “الحرب الباردة” بين الصين والولايات المتحدة ستكون حرب اختبار، وليست ضرورة. وياله من اختيار مروع.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
*خافيير سولانا الممثل الأعلى الأسبق للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، ووزير خارجية إسبانيا سابقا، ويشغل حاليا منصب رئيس EsadeGeo ــ مركز الاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية، وهو زميل متميز لدى معهد بروكنجز.
*أوسكار فرنانديز كبير الباحثين لدى EsadeGeo ــ مركز الاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية. ويمكنكم متابعته على موقع تويتر: @ofernandezfdez.
المصدر: أوسكار فرنانديز/الغد الأردنية