من قلب الحروب الدامية، وجحيم النيران، والقصف الجوى وانهمار الصواريخ، ودمار المبانى، ورهابُ الموت المحلق فوق رؤوس الجنود والضباط، والمدنيين، تنطلق ما يمكن أن نطلق عليه الحرب اللغوية، وعتادها – المفردات والمجازات التى يستخدمها القادة – السياسيين، والعسكريين – فى خطابات متصارعة بين أطراف القتال. خطابات القادة العسكريين، تبدو مكثفة، وتبريرية فى عديد الأحيان، وتدور حول شحذ الروح القتالية للجيوش التي يقودونها، ودعم الضباط والجنود، وحثهم على القتال حتى النصر، وذلك فى توظيف الروح الوطنية لبلادهم ، وبعض من انجازاتها، الحضارية، وتاريخها! خطابات تتسم بالمفردات الصارمة، والانضباط اللغوى احيانا، وعدم الانخراط فى اللغة والخطاب السياسى، المتروكة للقادة السياسيين أصحاب قرار، وإدارة الحرب. الخطابات السياسية للقادة السياسيين، تبدو بها بعض التمايز النسبى عن الخطاب العسكرى، لأنه يغلب عليها مخاطبة الأمة/ الشعب الذى يقف داعما لجيوشه فى الحروب، وتسعى إلى ترسيخ الاندماج الوطنى، بين مكونات الشعب، وإذكاء الروح القومية، والوعد بالنصر فى ميادين القتال. ثمة ميلُ عارم إلى المناورات السياسية، مع القادة السياسيين الخصوم فى الحرب! والنزوع إلى محاولة تعبئة الرأى العام الإقليمى، والدولى، وراء خطابه وقواته المسلحة فى ميادين القتال.
من ناحية أخرى يستهدف خطاب السياسيين فى هذه السياقات المشتعلة إلى تبرير دخول بلادهم الحرب، وأيضا إلى التركيز على المشروعية السياسية لقرار الحرب، وإنها حرب مشروعة وعادلة، ومن ثم يستندون إلى قواعد القانون الدولى العام، وقانون الحرب، وأن قواتهم فى الميادين، وفى داخل مدن الدول العدوة تلتزم بقواعد القانون الدولى الإنسانى، فى معاملة المدنيين، ومع الأسرى…الخ!
الخطاب السياسى فى الحروب، تبدو اللغة المسيطرة لدى بعضهم انطباعية، ومحمولة على الحماسية، والعواطف، وتجييش المشاعر الجماعية، وشحذ الذاكرة الجماعية للشعب/ الأمة بتاريخها، وانتصاراتها السابقة فى الحروب التى خاضتها ضد أعداءها. من هنا تنطلق على ألسنة القادة بعض، أو غالب المفردات غير المنضبطة، وأحيانا التناقضات وعدم الاتساق، والتكامل فى بنية الخطاب السياسى حول الحرب والعمليات العسكرية المشتعلة فى ميادين القتال!
بعض الخطاب السياسى حول الحرب، يميل إلى الإشادة بالجنود والضباط الذين سقطوا قتلى فى العمليات العسكرية، وإنهم خالدين فى ذاكرة أمتهم، أو شعبهم، ودعم أسرهم ! وعائلات الأسرى إنهم لن يألوا جهدا فى تحريرهم من حالة الأسر.
الوعد بالنصر فى الحرب، يمثلُ مركز الخطاب السياسى، وخاصة فى المراحل الأولى للقتال، وخاصة إذا كانت القوات المسلحة لبعضهم قد حققت بعض من الانجازات الجزئية، من مثيل احتلال مدينة، أو منطقة استراتيجية، أو تدمير أسلحة مثل المدرعات، والدبابات وقواعد للصواريخ، أو إسقاط طائرات معادية من خلال الدفاع الجوى، أو فى معركة جوية، أو تدمير قواعد للصواريخ..الخ. الخطاب السياسى هنا مترعُ بالمفردات، والمجازات وبلاغة التبشير بالنصر، سعيا وراء تماسك الجبهة الداخلية، وشحذُ همم الضباط والجنود فى أوقات الحرب المشتعلة.
بعض الخطاب السياسى للزعامات السياسية، التى واجهت جيشها الإخفاق، أو بعض فى ميادين القتال، غالباً ما ينطلق الخطاب حاملاً، مفردات المقاومة، والصمود، وضرورة القتال حتى أخر جندى، وأن إرادة الشعب والجيش لن تنكسر، ونها صلبة، وستظل صامدة فى الحرب!
هذا الخطاب السياسى، ينطوى على التبرير، وغالبا ما يلجأ إلى نظرية المؤامرة الدولية، واسنادها إ إلى القوى والدول المساندة للدول أو الدولة التى تبدو منتصرة فى المعارك العسكرية..الخ.
ثمة تباينات فى إنتاج الخطاب السياسى بين مستوى ثقافة، وتكوين السياسى ، ورأسماله الخبراتى فى العمل السياسى، والعلاقات الدولية، وهو ما يظهره خطاب الحروب، وخطاب الأزمات السياسية الكبرى.
يبدو هذا التباين، بين السياسيين فى أثناء الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، وبين سياسيو الحرب الباردة، وما بعدها! الملاحظ أن خطاب الزعماء الغربيين لدول الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، ونستون تشرشل، والأمريكيين فرانكلين روزفلت وبعده هارى تورمان – الذى أمر بإطلاق القنبلة النووية على هيروشيما ونجازاكى فى أغسطس عام 1945، وأشرف على نهاية الحرب ، واستسلام ألمانيا، واليابان- والسوفيتى جوزيف ستالين، كان خطابهم السياسى مميزاً وناتج عن خبرات سياسية، وكان على رأسهم تشرشل، وخطابه الذى يتسم بالرصانة السياسية، وعمق المحتوى- حصل على نوبل فى الأدب فى 10 ديسمبر عام 1953- على الرغم من طابعها المفعم بالحماسة، وأيضا شخصيته الكاريزمية الساحرة.
فى مواجهة هذا الخطاب، كان الخطاب الهتلرى العنصرى، ومعه موسولينى االشعبوى الإيطالى، والأمبراطور اليابانى هيروهيتو. كانت خطابات هتلر النازية تتسم بالانفلات، والعفوية، والشحن للأمة الألمانية، وخاصة فى عداءه لليهود، والمحرقة المضادة لكل القيم الإنسانية، ومعه خطاب الفاشية لموسولينى، وكليهما هزم فى الحرب العالمية الثانية!
فى عالم الحرب الباردة، ظهرت عديد الأزمات الكبرى التى كشفت عن خبرات السياسيين فى النظام الدولى مثل حصار برلين 48/1949، والحرب الكورية1950/1953، وأزمة برلين 1961، وحرب فيتنام 1956/1975، وأزمة الصواريخ الكوبية، والغزو السوفيتى لأفغانستان 24/12/1979. برز نمط من السياسيين ذو الخبرة، والقدرات السياسية مثل خورتشوف، وداويت إيزنهاور، ومعه وزير خارجيته جون فوستر دالاس- 53-1959-، وجورج مارشال، ودين اتشيسون، ودورهم البارز فى مشروع مارشال، وحلف شمال الأطلنطى. اتسم خطاب هؤلاء السياسيين بحروب الخطاب السياسى، مع القدرة على إدارة الأزمات السياسية، وصناعة السياسات المضادة لتمدد الإمبراطورية الفلسفية والسياسية الشيوعية فى العالم، وخاصة تمدد أيديولوجيتها فى أوساط بعض من قادة جنوب العالم، وحركات التحرر الوطنى فى مواجهة الكولونيالياته الأوروبية، وما بعدها.
لا شك أن خبرات الحروب الساخنة، والباردة أعطت هؤلاء السياسيين ميراث خبراتى تراكمى، يختلف عن نمط السياسيين ما بعد الحرب الباردة.
فى إطار الصراع العربى- الإسرائيلى، كان الخطاب السياسى مترع بالحماسة اللفظية، وموجه لشعوب منطقة الدائرة البؤرية للصراع، وأيضا سياسيو الدوائر الأخرى، لأن المسألة الفلسطينية كانت جزءاً من مصادر شرعية هذه الدول- سوريا والعراق ومصر-، ومع التسوية السياسية بين مصر وإسرائيل، والأردن وإسرائيل تحول الخطاب السياسى إلى الدعوة للسلام، وضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضى المحتلة ما بعد 5 يونيو1967، وقرارات الأمم المتحدة.
بقية الدول العربية، بما فيها مشروع السلام العربى، والدول العربية التى طبعت وأقامة علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل – الإمارات، والبحرين، والمغرب – ، أو التى أقامة علاقات غير مباشرة وكواليسية اتسم خطابها باللغة السلامية، والتفاوضية، وفى قلبها رفض تنظيمى حماسى، والجهاد الإسلامى، بوصفهما جزءاً من السياسة الإيرانية وأتباع لها مع الحوثيين وحزب الله اللبناني والمليشيات الموالية في العراق ، وفى المنطقة، وسياستهم تجاه رفض الأصوليات الإسلامية الراديكالية.
هذا الخطاب السياسى القطبية التطبيعى، يركز علي وقف إطلاق، وحماية المدنيين، وهدن إنسانية!
خطاب الحرب الإسرائيلى ذو النزعة التأويلية التوراتية الدينية محملُ ببعض من اللغة الدينية، مثل خطاب نتنياهو، ووزراء اليمين الدينيى المتطرف، على نحو ماصرح به عميحاي إلياهو وزير التراث إسقاط قنبلة نووية على غزة، ووزير المالية بتسلئيل سموترتيش الداعى إلى الطرد الجماعى، والتطهير العرقى وقوله أن إجلاء سكان غزة هو الحل الإنسانى الصحيح لهم! ووصف ميواف غلانت وزير الدفاع للفلسطينيين بأنهم” حيوانات بشرية “!!
ثمة أوصاف أخرى داعمة لخطاب الحرب الإسرائيلى العنصرى مثل قول جو بايدن تأكيده لدعمه لإسرائيل أمام ما وصفه “بالشر المطلق” وأن ثمة لحظات فى هذه الحياة، وأعنى ذلك حرفيا، عندما يطلق العنان لشر مطلق على هذا العالم، هذا العمل شر مطلق” على عملية طوفان الأقصى، على نحو جسد لغة وقيم متطرفى المسيحية الصهيونية إزاء الأغيار / الفلسطينيين.
خطابات تتسم بالعنصرية، والتطهير العرقى، وتبرير الإبادة الجماعية، وقتل الأطفال والنساء والمسنين، من المدنيين، وتحويل مدن القطاع إلى دمار، وحطام ! إنها خطابات الحرب الانفعالية التى تفتقر إلى القيم الإنسانية العليا، والإيمان بالشرعية الدولية، والتى تعبر عن حالة من لغة الشيخوخة لدى بايدن، والافتقار إلى الرأسمال السياسى، والخبراتى، لدى غالبُ القادة الإسرائيليين، المؤمنين بغطرسة القوة، وكراهية الآخر/ الفلسطينى، والعربى، والتحلل من السياجات القانونية الدولية، خطابات كاشفة عن لغة العنف والاستعلاء العنصرى.
المصدر: الأهرام
الخطاب السياسي وتطوره وفق المراحل الزمنية والأجندة التي يستلهم منها الخطاب من الشعبوية الى الرصانة العميقة ، أما الخطاب العربي بإطار الصراع العربى- الإSرائيلي، كان مترعاً بالحماسة اللفظية، وموجه لشعوب المنطقة وسياسيها ، لأن المسألة الفلسطينية كانت جزءاً من مصادر شرعية هذه الأنظمة ، قراءة موضوعية .