أكثر من عقد ونصف مضى على انطلاقة أورينت، بما حوته تلك السنوات من تغيرات وأحلام وآمال لازمت السوريين، ثم تحوّلت من صوت مبحوح مقموع إلى هتاف للحرية.
ولأن صوت الحرية لدى السوريين بدأت تشوبه أصوات القمع والقتل، ولأن الحدث كان أكبر ممّا تصدقه أذن، كان لزاماً أن تُكسر قاعدة إعلام الحُكم باستثناء سيكون سابقةً من نوعه في بلاد النظام البوليسي، وهو استثناء انطلاق الصورة والصوت والكلمة بتجرّد وتجاوز للرقابة والتلقين الممجوجَين، فمَن سَمِع ليس كمن رأى، والمهنية خط أحمر، وحرية السوري خطّان آخران.
انطلقت أورينت في العام 2009 للسوريين، شاشةٌ تجاوزت المألوف في نقل الخبر ورصد قضايا السوريين وتصوير واقعهم الحقيقي، لتُطلع العالم على الرواية الصحيحة المُغايرة لما يصوّره إعلام النظام عن ثورة السوريين، والتي سماها المجرم بشار أسد حرباً على الإرهاب، وجنّد المجرمين والحاقدين لقلع حناجر هتفت للحرية.
سنوات وسنوات من مواكبة تطلّعات السوريين، وأورينت تفضح ميليشيا الطوائف والطائفية، ثم فضحت انتهاكات الأطراف الفاعلة على الأرض السورية المجزّأة والمُحطَّمة والمُوزّعة على مجرمين الهدف من وجودهم هو التعمية بإجرامهم على مجازر بشار أسد الجماعية، التي راح ضحيتها مليونا سوري، فأورينت لأجل السوريين مضت، وبحقوقهم طالبت، ولنقل قضيتهم إلى العالم قدّمت شهداء صحفيين كانوا شهوداً على عملها وسَيرها.
جابت كاميراتها المدن والبلدات السورية، ولخّصت أعظم كارثة مرّت في العصر الحديث، من قتل مُفرط بحقّ السوريين واستخدام أسلحة محرّمة على أجساد أطفالهم، وصولاً لطردهم من مدنهم وإحلال شراذم بدلاً منهم، سرقوا أماكنهم ونهبوا خيراتهم واستباحوا قاموس ذكرياتهم وغيّروا معالم أزقّتهم.
انتقلت أورينت إلى مرحلة لم تكن تعلم أنها ستُؤلم غيرها وتُشيطَنُ بسبب أنها تقول وتوضّح ما عجز البعض عنه ليس إلا، أو ما قد خافوا من قوله عندما سمّت الأشياء بمسمّياتها، وأكدت للعالم أجمع أن حرب السوريين تتحكم بها عائلة قتلة منتمية لأقلّية جنّدت كثيراً منها في عمليات القتل، وهذا غير مقبول في عُرف الدول المُدّعية للديمقراطية، فاتُّهمت أورينت وشُنّت حملات شعبوية واسعة عليها، لكنها ظلت عين السوريين وصدى صوتهم. إن مغادرتنا الفضاءات ليست غريبة، لكن الحقيقة أن بقاءنا أحياء إلى الآن في حدّ ذاته يُعدّ معجزة، رغم ما عانينا من مشاكل كبيرة لن يتّسع ألف تقرير لوصفها وتحليلها.
فعن أي ضغوطات نريد أن نتحدث؟ عن إقامة بعض صحفيّي أورينت شبه الجبرية ومنعهم من السفر منذ ما يقارب الـ 10 أشهر في تركيا فقط لأنهم يمارسون حقهم بالعمل الصحفي؟!، أم عن استنزافنا يومياً لكوادر صحفية وفنية بركوب البحر باتجاه أوروبا، بسبب التضييق وعدم امتلاكهم أوراقاً ثبوتية أو حتى جوازات سفر؟.
في الواقع، عالَم اليوم ضد كل من هو سوري.. إعلاميون بلا وثائق تساعدهم على التنقل وممنوعون من السفر ومن تحويل أموال لذويهم، ولا يُعطون فيزا للتغطيات الإعلامية ومرافقة السوريين في مهاجرهم، ولا يُسمح لهم في أي شبر من سوريا بالوجود والتغطية، فكل الميليشيات المحتلة لسوريا الممزّقة لن تقبل أن يُكشف الستر عن جرائمها.. فالظروف خطيرة والواقع أكثر تعقيداً من إمكانية الاستمرار. الإعلاميون هاجروا ويهاجرون، والشعب السوري الذي تحوّلت حياته الى أسفل جميع القوائم، جامعاته ومؤسساته الإعلامية في أسفل قائمة التعليم العالمية، ولا تقدّم منذ 10 سنوات ليس إعلاميين بل حتى من لديهم محو أمّية، ليُمدّوا المؤسسات بالكوادر اللازمة، حتى إننا استعنّا بخبرات من غير تخصّص الإعلام ودرّبناهم بالمئات لنسدّ بهم النقص، ولكن إلى متى؟! تغلق أورينت اليوم ومع كل الضغوطات يمكن ملاحظة ما حقّقته من أرقام عالية، فالبيانات موجودة حاضرة لكل مهتمّ بالبحث والتحليل.
في السابق كان الإعلام يخاف الرقيب.. لكن حرب غزة اليوم أشارت إلى ما هو أسوأ.. اليوم قواعد السوشيال ميديا هي أسوأ رقيب، تلك القواعد الجديدة التي تكبّل العمل الإعلامي وتمنع وصوله إن خالفَ قطار العولمة، فإما أن تكون مُؤدلجاً كما يريدون، أو يقيّدون وصولك أو يغلقون منصّتك بشكل نهائي.
ولا سيّما أن أورينت لم تضِق يوماً وتتأفّف من ترسانات إعلامية يملكها الآخرون ويوجّهونها كيفما أرادوا، لإيمانها المطلق أن الحقيقة تُواجَه بالحقيقة، والفكرة بالفكرة، لا بالحيل والخدع.
هل تعلم عزيزي القارئ أننا من أجل خبر عاجل واحد، تمّ تقييد وصول منصتنا إلى ملايين المتابعين لـ 10 أيام؟، ولولا تدخّلات للمختصّين بقوة فقد كان من الممكن أن نُقيّد لشهور!..
فاليوم حتى إعلام الدول الوطني بكوادره الجبّارة وميزانيته اللامحدودة، استسلم أمام هذه الكوارث وأصبح يغرّد كما تشتهي القوى الفاعلة، وقد عاينّا مؤسسات عريقة لم تحتمل الضغط وباتت بين خيارين أحلاهما مرّ. وهذا مؤشّر على سقوط الإعلام الوطني، ما يعني بالضرورة أننا أمام حالة تبعية وتوجيه وارتهان لقواعد التواصل الاجتماعي المُنحازة بوضوح ضد قضايا الشعوب المُستضعفة، وداعمة لخطابات التحريض عليها ومُساندة القتلة. إما أن تكون ضمن جوقة هذا المرتع، والذي عرّته بالكامل حرب غزة، وما يرافقه من تزايد الانتهاكات ضد حقوق الإعلام وحق الشعوب بالتعبير عن قضاياها وعن خصوصياتها عبر تقييد وصول إعلامها أمام إعلام مُعولَم يتبنّى سردية منقوصة، بغية التستّر على وحشية مفرطة تُستخدم ضد هذه الشعب، وإما التكبيل وتقييد الوصول.
منذ انطلاقة كاميرات أورينت في دمشق، في اليوم الأول من عام 2008، بدأت المعاناة والمنع من العمل، فلجأنا إلى الحيل المشروعة، من إخفاء الكاميرات، والأسماء المستعارة، وتمويه الأصوات والشخصيات، لأن الأثمان معروفة عند نظام متوحّش لا يكلفه الأمر أكثر من تحويل الصوت الحر لصورة تتناقلها وسائل الإعلام كصور قيصر، هذا إن كنت محظوظاً وظهرت صورك.
بلغت تكلفة أورينت كقناة وموقع ومنصات إعلامية، وأورينت الإنسانية، ما يقارب ربع مليار دولار، وهي جميعها مال سوري وطني خالص، وتحدّينا مراراً ونتحدّى أن يخرج علينا من يُثبت عكس ذلك.
أورينت لم تكن فُقاعة ظهرت وغابت، وإنما مؤسسات حضرت لنحو 16 سنة، مشافٍ ومدارس وعيادات ومخيمات ونقاط طوارئ طبية وراديو وتلفزيون ومنصات سوشيال ميديا، ومراكز إيواء، ومركز حقوقي، ومراكز لتقديم المساعدات الغذائية، ومركز تأهيل عمالة لأصحاب المهن كالخياطة وصناعة الموزاييك، وعشرات المجالس الأهلية الحقوقية والطبية والمهنية وما إلى ذلك.. جميعها حقّقت نجاحاً منذ أول يوم ظهرت فيه إلى ساعة كتابة هذا التقرير. مؤسسات سورية تحمل الهمّ السوري، شجّعت ولادة أي وسيلة تحمل الهمّ نفسه، لإيمانها بأن المنافسة الشريفة تُجوّد الأداء، لا أن تكون تلك الوسائل نموذجاً يتعاطى كل شيء في السياسة والدراما والطبخ وبرامج الخروج عن الواقع واستغباء العقل السوري، هادفة لدغدغة مشاعر الداعمين والتسلّط على ضمير المشاهدين، وتسخيره لمحاباة الأنظمة الفاشيّة.
في أورينت ملفّنا الأوحد هو السوريون، وقضيتنا الوحيدة قضيتهم عبر 16 سنة. استمرارها فعلاً هو المعجزة الحقيقية، فأن تكون وطنياً يعني بالضرورة المُلاحقة والمحاصرة والتقييد وتكميم الأفواه، وكسر القلم، وخنق الصرخة، وهذا ما لم تفعله أورينت، إذ لم تُقحم في سياستها ومعاييرها هوى النفس ولا الانحياز المُبتذل أو الشطَط أو المبالغة كغيرها، والأهم أنها لم تنفصل عن واقع الناس، وذلك الفرق كلّه صنعَ إقبال المظلومين عليها ومتابعتها في أصقاع واسعة.
من الممكن أن تُراجع وتشاهد في أورينت كل الانتهاكات التي ارتُكبت بحق السوريين، وترى بأمّ عينك كيف انفردت أورينت بدايةً بنقل ما يجري دونما خوف أو اختلاق أو حساب لأي تهديدات رخيصة أو منع من العمل، ولو تعامت أورينت آنذاك أو تُرك غيرها وحده، لوجدنا زعماء الممالك السورية يعيدون حقبة أسوأ مما هي عليه الآن، على رغم رداءتها ضمن الجغرافيا السورية، وتحديداً ضمن ما يسمّى المحرّر.
معتقلون.. حريات.. حقوق إنسان.. سجون وأفرع أمنية.. انتهاكات مرعبة.. أحلام الشباب.. حقوق الشعوب.. هكذا أورينت رصدت ما سبق وصوّرت ونقلت.
إنها صوت يُحرّض الناس على مُساءلة الجميع، جهاتٍ وأفراداً.. ونحوّل منذ 5 سنوات أرشيفها إلى أرشيف رقمي ولا نزال، نحو ربع مليون ساعة بينها حوالي 130 ألف ساعة بث تلفزيوني، و50 ألف ساعة إذاعية، وعشرات آلاف الساعات للسوشيال ميديا، وملايين الصفحات على الموقع، وسلسلة كتب ومُترجمات، كتب أورينت، كلها ستُوضع في أرشيف يُقدّم مجاناً للباحثين والمهتمّين كآخر هدايا أورينت لشعب مقهور بضمير حرّ.
المصدر: موقع اورينت
أورينت كقناة تلفزيونية انطلقت بعام 2009 وستغلق بناية العام 2023 تاركة أرشيف ضخم بعد أن تم تحويله الى رقمي ستُوضع كلها في أرشيف يُقدّم مجاناً للباحثين والمهتمّين كآخر هدايا أورينت لشعب مقهور بضمير حرّ ، شكراً لإدارة أورينت .