ما من شك بأن انطلاقة الحراك الشعبي السلمي في مدينة السويداء منذ العشرين من شهر آب الماضي، قد جسّدت منعطفاً نوعياً في سيرورة ثورة السوريين، من جهة نجاح الاحتجاجات الشعبية على إعادة الحيوية إلى فكرة الثورة وإمكانية ديمومتها واعتبارها حاملاً شديد القدرة على التجدّد والإبداع المستمر لوسائل النضال والمقاومة، وما من شك أيضاً بأن السلطة الحاكمة واجهت هذا الحراك السلمي بمزيد من الارتباك والحرج، إذ يدرك رأس النظام وحاشيته وحلفاؤه أن مواجهة حراك السويداء بالأساليب الوحشية ذاتها التي استخدمها في بقية المدن السورية ربما لن تكون مجدية، بل ربما ترتدّ عليه وبالاً لأسباب ربما تكون معلومة لدى الكثيرين ولا فائدة لعرضها الآن، الأمر الذي دفع بسلطات دمشق إلى النبش بالإرث الأسدي للاستعانة بالاستراتيجيات التي برع بها الأسد (الأب) في مواجهة أزماته الداخلية، ونعني بتلك البراعة قدرة حافظ الأسد على استثمار وتوظيف الأحداث النوعية – سواء أكانت داخلية أم إقليمية – في إشغال الرأي العام عن الأزمات الحرجة التي يواجهها نظام حكمه، ولعل هذا ما دفع سلطات دمشق لإبداء احتفاء بالغ بالقتال الذي نشب بين سلطة قسد وقسم من عشائر دير الزور في شهر أيلول الماضي، وسواء أكان للنظام دور مباشر أم لا في القتال المشار إليه، إلّا أنه لم يكن غريباً ادعاؤه بتبنّي مطالب العشائر وكذلك لم يكن مفاجئاً أن تحاول وسائل إعلامه إيهام الرأي العام السوري بأن رأس النظام ما يزال يمسك بزمام المبادرة حتى في المناطق التي تقع خارج سيطرته، وحين لم تفلح تلك البروبغاندا الإعلامية في تحقيق الهدف، إذ إن حراك أحرار السويداء بدأ يعلو صوته ويمتدّ صداه وتأثيرة حتى إلى المدن والمناطق التي تُعدّ الحاضنة الأولى لنظام الحكم، حين ذاك أقدم على افتعال عملية الكلية الحربية في حمص التي أودت بحياة العشرات من ضبّاطه إضافة إلى إصابة العشرات أيضاً، وعلى الرغم من افتضاح تلك المسرحية التي لم تنطل على مؤيدي النظام قبل معارضيه، إلّا أن رأس النظام أصرّ على أن يجعل من عمليته الإجرامية بحق مواليه ذريعةً لإجرامٍ أكثر امتداداً وشمولاً تمثّل بشنّ هجومٍ جوي على مدينة إدلب ومحيطها وريف حلب الغربي، إذ كان هذا الهجوم هو الأكثر وحشية منذ شباط عام 2020 حين هاجم بلدات ومدن ريف إدلب وهجّر وشرّد أكثر من مليون مواطن سوري إلى مخيمات وبلدات الشمال المحاذي للحدود التركية.
لم يكن تعاطي السلطات الأسدية مع الحرب على غزة بعيداً عن سياق تعاطيه مع ما سبقها من أحداث، فما يتطلع إليه نظام الأسد هو أن تتيح له عملية طوفان الأقصى التي انطلقت شرارتها في السابع من تشرين الأول الماضي هامشاً لترحيل أزماته، أملاً في توقّع عملية (خلط أوراق) جديدة من شأنها أن تتيح له تموضعاً جديداً على المستوى الإقليمي فيما لو وجد هذا التوجّه تأييداً من جانب واشنطن وتل أبيب، وربما هذا ما جعل رأس النظام يستمر بالعضّ على الحجر الذي ألقمته إياه إسرائيل ويواظب على الانضباط بقواعد الاشتباك المرسومة له من قبل، وبالطبع يمكن تخريج كل هذا الخنوع والإذلال تحت مقولات ضبط النفس وعدم الاستجابة للاستفزازات الإسرائيلية والتعاطي بحكمة وسوى ذلك من الابتذال الإعلامي الذي لم يعد غريباً على السوريين، علماً أن الحرب الهمجية التي يشنها الكيان الصهيوني على غزّة لم تكن فاضحةً للتوحّش الصهيوني فحسب، بل فاضحة أيضاً للنهج (الممانع ) الذي تدّعيه إيران والأسد ومشتقاتهما في المنطقة، إلّا أن استساغة الفضيحة لم تعد هاجساً مقلقاً لتيار ( المخادعة) طالما أنها تتيح المزيد من الاستثمار في القضايا العادلة في سبيل خدمة أنظمة الحكم التي أفرعت وتنامت بالأصل على مبدأ الإبادة.
ولئن كان الحراك الشعبي لمدينة السويداء يجسّد مبعث قلق موجع لنظام الأسد في المرحلة الراهنة، وبالتالي تصبح عملية الالتفاف على هذا الحراك أو احتواؤه بغية الحدّ من تأثيره هي الاستحقاق الأول لدى سلطات دمشق، فإنه من المفترض أن يكون المسعى في الطرف الآخر، أي لدى خصوم الأسد الافتراضيين، وعلى وجه التحديد المعارضات الرسمية، متجهاً ببوصلته نحو البؤرة الثورية الأكثر توهّجاً في الوقت الراهن، أي موجة الحراك الشعبي في السويداء، حرصاً على استمرارها والمساهمة في انتشارها بغيةَ تحوّلها إلى حالة عامة وعدم السماح لنظام الأسد بمحاصرتها وإشغال الرأي العام عما يجري من حراك في سوريا، ولكن واقع الحال يؤكد أن نشوة الظفر لدى قيادة الائتلاف الجديدة بعد تجاوز المعارك الداخلية التي أفضت إلى استبعاد الخصوم بل طردهم ، نتيجة للحكم الذي أصدرته اللجنة القضائية المتشكلة حول مقولة (الصرماية)، قد كانت باعثاً قوياً لدى قيادة الائتلاف للتفكير بالاستحقاق الأهم المتمثل بتوطيد السلطة عبر بناء علاقات جديدة مع جميع المستفيدين من سلطة الأمر الواقع، وهذا يقتضي القيام بجولات عديدة للقاء مجالس العشائر وقادة الفصائل والرموز الاجتماعية، ليس للبحث عن مصادر شرعية السلطة، لأن السلطة قد تم تعيينها بل فرضها من أطراف خارجية، ولكن لشراء ولاءات كانت سابقاً مُباعةً لسلطات سابقة، ويبدو أن مسألة (أمن السلطة) ليست أولوية عند الطغاة فحسب، بل عند جميع طالبي السلطة وهواة حيازتها أيضاً، وفي الوقت ذاته اتجهت هيئة التفاوض إلى جنيف لتنعى أمام ممثلي الدول الموت البطيء للجنة الدستورية، ولتشتكي من عدم استجابة نظام الأسد للتفاعل مع القرارات الأممية، علماً أن البحث عن أوراق قوّة جديدة يقتضي العمل على مبادرات ثورية ووطنية جديدة، ومن باب أولى أن يكون العمل على دعم وتطوير الحراك الشعبي على رأس هذه الأولويات، ولعل هذا السلوك لمعارضي الأسد الرسميين يؤكّد أن حراك السويداء وسواه من سيرورات نضالية لدى السوريين تواجه عداءً مركّباً، تارةً بالمحاربة العلنية من جانب نظام الحكم، وتارة أخرى بتجاهل المعارضة الذي لا يمكن اعتباره موقفاً محايداً أو مجانياً.
بعد المائة يوم من إنتفاضة شعبنا الحر بالسويداء علينا الاعتراف بأنها شكلت منعطفاً نوعياً في سيرورة الثورة السورية بنجاح الاحتجاجات الشعبية وإعادة الحيوية لفكرة الثورة وإمكانية ديمومتها واعتبارها حاملاً للتجدّد والإبداع المستمر لوسائل النضال والمقاومة، واستغلال نظام دمشق حرب غزة لترحيل نتائج انتفاضة السويداء ستبوء بالفشل لأن الثورة متجذرة لدى شعبنا الحر .