تعاني دول المنطقة التي كانت ضحية تقسيماتٍ اعتباطية اعتمدتها القوى الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) بناء على مصالحها، من اضطرابات سياسية مجتمعية، أساسها الخلل البنيوي الناجم عن تطبيق اتفاقية سايكس بيكو 1916، والملاحق والاتفاقيات الثنائية، بعد التوافقات بين تلك الدول وتركيا التي كانت أهميتها قد تراجعت على صعيد السياسة العالمية من دولة إمبراطورية مترامية الأطراف، تميّزت بقدرتها على إدارة التنوع المجتمعي، عبر احترام الخصوصيات، مقابل الالتزام بشروط الولاء للدولة العثمانية، خصوصا من جهة تزويد الجيش بالرجال والخزينة بالأموال؛ إلى دولة إقليمية قومية، متشدّدة علمانياً، تتطلّع نحو أن تكون جزءاً من أوروبا والعالم الغربي، حتى ولو على مستوى القشرة الخارجية.
ومع دخول المنطقة عصر القوميات من أسوأ أبوابه وأتعسها، في مرحلة تنامي النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا؛ وذلك بالتزامن مع محاولات بعضهم في منطقتنا، انطلاقاً من غاياتٍ سياسية، استغلال التديّن الإسلامي المعتدل الذي اتسمت، وما زالت تتّسم به، مجتمعات منطقتنا، الأمر الذي دفع الأخيرة نحو التخبّط والصراع العقيم التدميري الشمشوني بين أصحاب المشاريع الحالمة والتعبوية الوظيفية العابرة للحدود السياسية الجديدة التي تبلورت بعد الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك على حساب أمن هذه المجتمعات واستقرارها، وعلى حساب مستقبل أجيالها المقبلة.
واليوم، وبعد مرور قرن على ما حصل، نرى أن الدول المستجدّة في كل من العراق وسورية ولبنان قد أخفقت في عملية إدارة التنوع المجتمعي الديني والمذهبي والقومي الإثني الذي تتسم به مجتمعاتها؛ وذلك بفعل عقود من الاستبداد والفساد والإفساد، والتطاحن على السلطة، ولا سيما في سورية والعراق بين أجنحة السلطات القومية البعثية في البلدين. وقد شمل الصراع على السلطة دولا جمهورية عسكرية عربية أخرى، منها اليمن والسودان على سبيل المثال؛ وما تمخض عن ذلك تمثّل في تحوّل هذه الدول إلى مجرّد حطام، تمزّقها الخلافات بين جماعات الجشع المزمن، ومروّجي الولاءات ما قبل الوطنية، والمراهنين على القوى الإقليمية وحتى الدولية في عملية الاستقواء على أبناء الوطن، والسعي من أجل التحكّم فيهم لصالح مشاريع لا تتقاطع بأي شكل مع مصالح شعوب الدول المشار إليها، أو غيرها من التي عاشت التجارب نفسها.. هذا في حين أن القوى الكبرى التي فرضت التقسيم على المنطقة بناء على حساباتها، ومصالحها، قد ازدادت قوة وقدرة على التحكّم، وفرض السلطات ورسم حدود الهوامش لها مقابل التزامها بشروط الصفقات التي بموجبها أُسند إليها الحكم.
ولكن يبدو أن قواعد اللعبة الدولية قد تغيّرت بعض الشيء، بناء على أسباب عدّة، منها تعاظم الحجم السكاني لشعوب المنطقة، وانتشار التكنولوجيا نتيجة من نتائج النظام العولمي؛ إلى جانب انتشار الوعي بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات، خصوصا في ميدان وسائل التواصل الاجتماعي؛ حتى وصلنا إلى عصر الذكاء الاصطناعي. تؤكّد كل هذه العوامل عدم قدرة الأساليب القديمة على إدارة المنطقة وفق مصالح القوى الكبرى، الغربية منها والشرقية. ونشير هنا إلى الولايات المتحدة، ومعها الدول الأوروبية الغربية المركزية، وروسيا في المقام الأول. هذا مع وجود رغبة صينية واضحة في الوصول إلى اقتصاديات المنطقة، والاستفادة من إمكاناتها في الميدان الاستهلاكي؛ وكونها مصدراً قريباً للطاقة الرخيصة التي تحتاج إليها الصين، هذا بالإضافة إلى أهمية موقعها الجيوسياسي في سياق المشاريع الصينية المستقبلية.
وأمام هذا التزاحم الدولي على المنطقة، وتنامي أهمية مناطق أخرى، منها في جنوب شرق آسيا، وأخرى في آسيا الوسطى وأفريقيا، وحتى في اميركا اللاتينية، من الواضح أن هناك توجهاً دولياً لتقاسم عملية التحكّم بالمنطقة بالتعاون المشروط مع القوى الإقليمية الكبرى فيها. ونشير هنا بصورة خاصة إلى إيران وتركيا وإسرائيل والسعودية ومصر، ولكن بدرجات تفضيل متباينة في ما بينها.
وما يُستشفّ من تطورات الأوضاع في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن أن إيران قد أُعطيت دوراً في هذه الدول؛ أو جرى غضّ النظر عن دورها في خلخلة هذه الدول ومجتمعاتها؛ بل وصل المجال الحيوي إلى الدور الإيراني في المنطقة حتى قطاع غزّة، رغم كل التعقيدات الخاصة بالوصول إليه، ومدّه بالأسلحة وقطع الغيار المطلوبة لصناعة الصواريخ والمسيرات. أما تركيا فيبدو أنها تتهيأ لدور إقليمي يشمل مناطق واسعة من إقليم كردستان العراق، ومناطق أخرى في شمال العراق، والشمال السوري؛ فضلاً عن تقاسم مناطق النفوذ وتقاطع المصالح مع روسيا في آسيا الوسطى. هذا إلى جانب تقاسم الدور من جهة التأثير والنفوذ في ليبيا مع مصر، وبالتوافق مع القوى الأوروبية المركزية، وبمباركة أميركية ضمنية، وحتى بتفاهماتٍ مع الجانب الروسي؛ مع الأخذ بالاعتبار، بطبيعة الحال، تباين الحسابات والمصالح بين القوى المذكورة. في نهاية المطاف، تكون المصالح الاقتصادية والاعتبارات الجيوسياسية هي التي تحدّد الوجهات السياسية، وليس العكس.
وبالنسبة إلى السعودية، يبدو أن مجالها الحيوي الأساسي ضمن إطار المعادلات الجديدة سيشمل منطقة الخليج نفسها التي تضمّ دول مجلس التعاون الخليجي، مع تفاهماتٍ متقدّمة مع الأردن، بالإضافة إلى جزء مهم من اليمن، ليكون الجزء الآخر بمثابة منطقة تداخل، ومجالاً للشدّ والجذب بين الإيرانيين والخليجيين والسعوديين تحديداً، وأرضية للوصول إلى التوافقات الاضطرارية لإرساء التفاهمات، أو ميداناً لإدارة النزاعات التي قد تكون بغية التوافق على قواعد جديدة في لعبة المنافسات الإقليمية والمصالح الدولية. أما مصر، فيبدو أن دورها التقليدي في السودان، أو على الأقل في قسطٍ منه، سيستمر إلى جانب دورها في المنطقة الغربية من ليبيا.
بينما سيستمر الدور الإسرائيلي المؤثر في رسم ملامح سياسة دول المنطقة، وتحديد محاور استراتيجياتها، عبر اتفاقيات التطبيع الرسمية وغير الرسمية التي كانت، وتلك التي ستكون، على الأغلب، وسيكون هذا الدور، بناء على المعطيات والموازين الحالية، عابراً لحدود مناطق النفوذ الإقليمية، إذا ما صحّ التعبير. كما ستواظب إسرائيل على أداء دور استثنائي بوصفها المندوب السامي الغربي في المنطقة، وستكون حريصةً، في الوقت ذاته، على ديمومة تفاهماتها مع الروس، خصوصا في الساحة السورية التي تعدّ حيوية للجانبين، وبناء على الاعتبارات الخاصة بكل طرف.
وما يُستشفّ من المعطيات التي ظهرت، أو تلك التي ستتبلور أكثر مستقبلاً، بعد عملية طوفان الأقصى التي قامت بها الأذرع العسكرية لحركة حماس وشركائها، وعلامات الاستفهام التي تدور حول الموقف الإيراني، وكذلك موقف حزب الله الذي من الواضح أن زعيمه ملتزم بالأجندة الإيرانية دون الفلسطينية، هذا بالإضافة إلى الحرص اللافت الذي يُظهره الأميركيون والإسرائيليون على تخفيف مسؤولية النظام الإيراني في ما حصل. كما أن حرص النظام الإيراني نفسه على قطف الثمار السياسية للعملية المعنية من دون تحمّل المسؤوليات الناجمة عنها، وإصرار قيادة “حماس” على تمجيد دور “محور المقاومة” ومعه سلطة بشّار الأسد؛ هذا مع العلم أن الجميع على علم بحقيقة غياب هذا الدور في مواجهة ما تعرّض ويتعرّض له أكثر من مليوني فلسطيني من سكّان غزّة من المدنيين، وغالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ من قتل وتشريد وتدمير بفعل آلة القتل الإسرائيلية، التي اعتمدت أسلوب العقاب الجماعي المتوحش، انتقاماً من العملية المعنية.
يُستشفّ من كل ما تقدّم وغيره أن منطقتنا مقبلة على تحوّلات نوعية تضبطها معادلات توازنية دولية إقليمية جديدة، بشروط القوى الدولية الكبرى؛ هذا ما لم تتوصل دول المنطقة إلى تفاهمات بينية تمهّد الطريق أمام عملية وضع الحلول المستدامة لجملة المشكلات التي تعاني منها المنطقة ودولها بصورة عامة، حلول تمنح دول منطقتنا ومجتمعاتها الحدّ الأدنى على الأقل من المناعة المطلوبة، للتعامل مع مشاريع التدخّل والتحكّم الخارجية.
لقد أنهكت النزاعات والصراعات والحروب شعوب منطقتنا، وبدّدت مواردها البشرية والمادية؛ وكان من المأمول أن تتّجه الأمور نحو التهدئة بعض الشيء بعد سلسلة من اللقاءات والتفاهمات والتوافقات بين قواها الإقليمية الأساسية، ويُشار هنا إلى التوافق السعودي الإيراني، والاتصالات التركية المصرية، إلى جانب اللقاء بين الرئيس التركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي في نيويورك على هامش الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدّة، والحديث الذي كان عن تطبيع سعودي إسرائيلي، والرغبة التركية في تحسين العلاقات مع دول الخليج، خصوصا مع السعودية والإمارات، إلى جانب علاقاتها الودّية أصلاً مع قطر. وتضاف إلى هذه اللقاءات والاتصالات على هامش القمّة العربية الإسلامية في الرياض، أخيرا، بشأن غزّة والعدوان الإسرائيلي على المدنيين فيها. ويُشار هنا تحديدا إلى اللقاءين بين ولي العهد السعودي والرئيس الإيراني وبين الرئيسين التركي والمصري، وكذلك اللقاء الذي جمع بين الرئيسين المصري والإيراني، بالإضافة إلى اللقاءات والاتصالات المصرية القطرية على مستوى القمّة. من شأن هذه اللقاءات والاتصالات، إذا توفرت النيات الصادقة، أن تؤدّي إلى توافقات إقليمية قابلة للتوسّع والتعمّق، لتشكّل أرضية لانعقاد مؤتمر إقليمي يتناول قضايا المنطقة، ويقدّم المقترحات الحكيمة العملية لحلول واقعية ممكنة من شأنها، في حال تحقّقها، أن تكون بداية لمرحلة جديدة، تفتح الآفاق أمام استقرار وأمن إقليميين، تحرص عليهما أنظمة تنشد العدالة، بغضّ النظر عن أشكالها ومسمّياتها، تضمن العيش الحر الكريم لشعوبها وأجيالها المقبلة.
المصدر: العربي الجديد