يتابع العالم الحرب التي أعلنتها إسرائيل على “حماس” في قطاع غزة، بعد هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) الشهير بقلق شديد عما سيحدث عندما تبدأ القوات الإسرائيلية الهجوم البري، مع تشكيك البعض في ما إذا سيكون شاملاً وناجحاً أو محدوداً. فالحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو في وضع حرج، إذ إنها لا تستطيع أن لا تنفذ هجوماً يمكّن الجيش من استعادة هيبته ويعيد منسوب الردع للدولة العبرية إلى مستوى عال حفاظاً على وجودها. وفي الوقت عينه، فإن نتنياهو يخشى من تداعيات فشل الهجوم، إذ إنه سيأتي بعد إخفاق كبير أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 1300 إسرائيلي وأسر 222 شخصاً آخرين بين مدني وعسكري. فإسرائيل لا تستطيع أن تتحمل خسارة هذا الهجوم، ولذلك يبدو أنها تتمهل بانتظار تحقيق بعض الخطوات المهمة.
أول شيء تحاول إسرائيل توفيره هو جاهزية قواتها المكونة بغالبيتها من الاحتياط لحرب شوارع شرسة لم تشهد مثيلاً لها بهذا الحجم. فالعديد من الثلاثمئة وسبعين ألف جندي احتياط الذين استدعوا إلى هذه الحرب لم يحملوا السلاح منذ أشهر أو سنة، وبالتالي يحتاجون إلى دورات تذكير. وبحسب بعض الصحافيين الموجودين قرب غلاف قطاع غزة، فهم يسمعون إطلاق نار وقذائف من أماكن تجمع بعض القوات الإسرائيلية، ما يشير إلى عمليات تدريب لهذه الوحدات التي تم حشدها استعداداً للهجوم البري.
وتحاول إسرائيل جمع أكبر كم من المعلومات الاستخبارية عن جاهزية “حماس” داخل القطاع، بخاصة عن عدد المقاتلين وأماكن وجود الأنفاق وكيفية انتشار المدافعين. فهي تحاول التقليل من المفاجآت التي يحضّرها مقاتلو “حماس” للجنود والمدرعات الإسرائيلية. فالهجوم الناجح لـ”حماس” قبل ثلاثة أسابيع أجبر إسرائيل على أن تعيد النظر بتقديرها لكفاءة مقاتلي “حماس” وجاهزيتهم الميدانية. وهي لم تعد تستهين بهم كالسابق.
يشكل موضوع الأسرى والمواطنين الأجانب عامل ضغط كبيراً على الحكومة الإسرائيلية من الداخل والخارج. فالحكومات الغربية، وتحديداً تلك التي لها أسرى لدى “حماس” أو مقيمون في غزة، تريد إخراج رعاياها قبل بدء الهجوم البري الذي من المرجح أن يؤدي إلى مقتل الأسرى وعدد من الأجانب المقيمين في القطاع. وتجري مفاوضات برعاية قطرية بين إسرائيل و”حماس” للإفراج عن الأسرى المدنيين والسماح بخروج الأجانب مقابل إدخال كميات كبيرة من المساعدات، وبخاصة الوقود إلى غزة. لا تزال تصر إسرائيل على الإفراج عن جميع الرهائن، فيما تريد “حماس” الاحتفاظ بالأسرى العسكريين لمبادلتهم مستقبلاً بفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. إطلاق سراح غالبية الأسرى وخروج المقيمين الأجانب سيخفف الضغوط الدولية والمحلية على نتنياهو وحكومته.
أهم شيء تحاول إسرائيل الاستعداد له هو إمكان فتح الجبهة الشمالية من قبل “حزب الله” وإيران. وبما أن تقييمات القيادتين الإسرائيلية والأميركية تأخذ بالحسبان إمكان اتساع رقعة الحرب لتشمل جبهات أخرى لمحور الممانعة الذي تقوده إيران، فإن واشنطن تريد أن تكون أكثر استعداداً ميدانياً. ففتح الجبهات لا يعني فقط دخول “حزب الله” المعركة من جنوب لبنان، بل يعني أيضاً دخول المجموعات التابعة لإيران من جنوب سوريا، بالإضافة إلى مهاجمة هذه الجماعات القوات الأميركية في قاعدة التنف. كما أن مجموعات من الحشد الشعبي العراقي بدأت مهاجمة القواعد الأميركية في العراق. حتى الميليشيات الحوثية في اليمن شنت هجوماً بصواريخ جوالة ومسيرات انتحارية يعتقد أنها كانت تستهدف ميناء إيلات الإسرائيلي. إلا أن مدمرة أميركية في البحر الأحمر اعترضتها ودمرتها جميعها.
تنتشر القوات الأميركية في المنطقة اليوم وكأنها تستعد لحرب واقعة لا محالة. فهي نشرت أسراباً من مقاتلات إف-15 وإف-16 وإف-35 وآ-10 في قواعدها في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى حاملتي طائرات ونحو عشرين بارجة ومدمرة أمام السواحل الإسرائيلية. كما بدأت نشر بطاريات باتريوت وثاد للدفاع الجوي ضد الصواريخ البالستية والجوالة، في إسرائيل وقواعدها في المنطقة. ووصلت إلى المنطقة وحدات وفرق لقوات المارينز والقوات الخاصة الأميركية. ورغم أن الهدف المعلن لهذه القوات هو ردع إيران و”حزب الله” عن فتح الجبهة الشمالية، إلا أن تقديرات غالبية الخبراء والمسؤولين في الغرب تؤكد أن واشنطن ستتدخل بالفعل عسكرياً لمساعدة إسرائيل في الدفاع عن جبهتها الشمالية إذا ما فُتحت.
كذلك تخشى أميركا أن تقوم القيادة العسكرية الإسرائيلية بفتح هذه الجبهة فور شعورها بالسيطرة على الوضع في غزة بعد الهجوم البري من أجل الاستفادة من الوجود العسكري الأميركي في توجيه ضربة قوية إلى “حزب الله”. فإسرائيل تستطيع أن تستغل الاشتباكات اليومية على الحدود مع لبنان لتبرير تصعيد مفاجئ بحجة سقوط عدد كبير من القتلى. والأيام الأخيرة أظهرت أن إسرائيل تتأخر بالإعلان عن خسائرها لأسباب إعلامية وللسيطرة على قواعد الاشتباك. لكن هذا الواقع يمكن أن يتغير في لحظة وتعلن إسرائيل عن عدد كبير من القتلى لتبرر رد فعل كبيراً يدفع “حزب الله” إلى فتح الجبهة، ما سيجبر الأميركي على التدخل. ولقد أخذت إسرائيل خطوات استباقية استعداداً للحرب عبر إجلاء سكان كل مستوطناتها على الحدود مع لبنان وحشد ما يقارب مئتي ألف جندي من الاحتياط لهذه الجبهة.
تجدر الإشارة إلى أن وسائل إعلام قريبة من القوى المحافظة الأميركية الحليفة لإسرائيل تتحدث بشكل ملحوظ ومتزايد عن ثأر قديم لأميركا ضد “حزب الله”، يتمثل بالهجوم الانتحاري على قاعدة المارينز عام 1983 والذي أدى إلى مقتل 223 جندياً. وتتهم أميركا إيران و”حزب الله” بالوقوف وراء الهجوم الذي لم ترد عليه حتى اليوم. وتركز وسائل الإعلام ذاتها أيضاً على دور إيران بالهجوم الذي شنته “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول. وتحاول إسرائيل منذ سنوات استدراج أميركا إلى حرب ضد إيران و”حزب الله”، وقد يشكل الواقع الحالي من حرب في غزة واشتباكات على الحدود اللبنانية ووجود عسكري أميركي كبير فرصة ثمينة لا تعوّض للقيادة الإسرائيلية بتوجيه ضربة لإيران و”حزب الله”.
استمرار حديث القيادة الإسرائيلية عن حرب طويلة قد تدوم أشهراً لا يطمئن ويفتح الباب على احتمالات عديدة. واستمرار أميركا في نشر المزيد من القوات يعكس وجود قلق جدي من اندلاع حرب إقليمية، لا تريدها القيادة لكن قد لا تستطيع تجنبها أو الانزلاق فيها. وهي بدأت بالتحضير لسيناريو إخراج الآلاف من مواطنيها من بعض دول المنطقة منعاً لهجمات قد يتعرضون لها كرد فعل على دخولها حرب إقليمية إلى جانب إسرائيل.
وتسعى واشنطن اليوم إلى إقناع إسرائيل بالاكتفاء بهجوم بري محدود عبر إرسال قادة عسكريين لتحذيرها من مخاطر الحرب البرية المقبلة للسيطرة على غزة وتدمير قدرات “حماس” العسكرية. لكن يبقى القرار الإسرائيلي أساسياً في تحديد شكل الهجوم البري وحجمه وتاريخ انطلاقه وانتهائه. وحتى حينه ستستمر الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة وستزداد وتيرتها وحدتها مع قرب ساعة الصفر. وعليه فإن أعداد القتلى المدنيين في غزة ستستمر بالارتفاع، والأوضاع على الجبهة مع لبنان ستزداد حدة بانتظار معرفة خطوة “حزب الله” وإيران المقبلة، وما قد تفعله القيادة الإسرائيلية بعد الانتهاء من حرب غزة.
المصدر: النهار العربي