لا شك أنّ الهمجية الصهيونية، التي تتجلى في الحرب المعلنة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، تضع المنطقة العربية على حافة الانفجار، فإما أن يتدارك النظام الإقليمي العربي مفاعيل هذا الانفجار بشكل إيجابي أو تُفرَض عليه نظم إقليمية أخرى تمسخ الطابع العربي للمنطقة.
وفي الواقع لم تكن الحرب الإسرائيلية المعلنة ضد الشعب الفلسطيني في غزة لتصل إلى ما وصلت إليه لولا التخاذل الرسمي العربي. إذ إنّ النظام العربي لم يدرك أنّ الشعب الفلسطيني، كما كان دائماً، يقف في خط الدفاع الأول عن الأمة في مواجهة الأطماع الصهيونية للتوسع والهيمنة على المنطقة. كما لم يدرك أنّ عجزه عن ردع العدوان على غزة يجعل خيار السلام الذي أعلنه منذ مؤتمر مدريد في العام 1991، وأعاد تأكيده حين تبنى المبادرة العربية في قمة بيروت لعام 2002، في مهب الرياح العاتية.
لقد فتحت الحرب الإسرائيلية الشاملة على غزة باب الأسئلة المكبوتة لدى الشعوب العربية منذ عدة عقود، ودفعت الجماهير إلى التظاهر والمطالبة بدعم المقاومة الفلسطينية مادياً وسياسياً، وأثبتت تحفّز الرأي العام العربي تجاه قضاياه وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. لقد جاءت المظاهرات الشعبية في مختلف الأقطار العربية لتضع حداً للتخاذل الرسمي العربي، ولتنبه المجتمع الدولي إلى ما يمكن أن يؤدي إليه إطلاق العنان لإسرائيل من مخاطر جسيمة على مجمل المصالح الاستراتيجية للغرب.
إنّ تحفّز الشعوب العربية هو الظاهرة السياسية الأكثر أهمية مقابل العدوان الصهيوني على غزة، ولكنّ نجاحه مرهون بمدى قدرته على بلورة برنامج نهوض شامل مستند إلى وعي سياسي ديمقراطي- مواطني – متنوّر مستشرف لآفاق الصراع العربي – الإسرائيلي ومآلات الإصلاح العربي الشامل، باعتبار ذلك كله صراع حضاري شامل يتطلب التجدد الحضاري للتمكن من التعاطي المجدي مع التحديات التي يفرضها العالم المعاصر. إذ إنّ الغضب لا يكفي لتحقيق الأهداف، وفي مقدمتها قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، بل لابدَّ من إجراء تحولات جوهرية في المسيرة العربية كلها تتجه نحو معرفة الواقع ووضع الخطط العملية الممكنة لتغييره.
إنّ التفجّع والعويل والسخط العربي المكتوم، وحتى الغضب والهياج، كلها قد تغطي على مسؤولية الفاعلين الحقيقيين للعجز العربي. الأمر يتطلب الجرأة والحديث الصريح عن الظروف التي أدت إلى ما نحن عليه من عجز وضعف وتفرّق، وبالتالي الحديث عن الطريق الذي يمكن أن يخرجنا من أزمتنا الراهنة. ومن المؤكد أنّ الأسباب تكمن فينا، داخل ذواتنا وحياتنا الداخلية، في البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لأقطارنا العربية.
إنّ الثبات على المبادئ والمصالح والقيم الأساسية لا يتحقق بالخطابات والانفعالات والعواطف، وإنما بالفعل العقلاني الذي يحتاج إلى مؤسسات وقوانين تنظّمه، وإلى معرفة طبيعة التفاعل الدولي الراهن، وما يفرضه ذلك من ضرورة إقلاع النخب الفكرية والسياسية عن ” منح ” الشعب شعارات متطرفة تتوافق مع هواه. فليس مقبولاً تطرّف النخب، بل الأجدى هو محاولتها تأسيس شعبيتها وشرعيتها على العقلانية السياسية، التي تسمح بتحديد أولويات نضال الأمة، وتكشف ما هو قابل للتحقيق وما هو مستحيل أو صعب التحقق.
لقد حان الوقت لكي نفكر في المستقبل بطريقة تختلف عن الماضي وتتقدم على الحاضر، فما كان ممكناً من قبل لم يعد مقبولاً اليوم، والأمم العاقلة والشعوب الواعية هي التي تراجع سياساتها وتعيد ترتيب أوضاعها وتجدد نمط تفكيرها ولا تظل عاجزة مكتوفة الأيدي. والمسؤولية الحقيقية هي مسؤولية جماعية للحكومات والشعوب والنخب الفكرية والسياسية، فإذا لم تتوفر الإرادة أولاً، ثم الرؤية الواضحة والأطر والوسائل والمؤسسات الضرورية لوضعها موضع التنفيذ ثانياً، والحكمة وحسن التدبير ثالثاً، فإنّ الكل سيدفع الثمن، وسيكون باهظاً جداً .
ومن المؤكد أنّ العامل المفتاحي هو الوضع العربي ذاته، فمن البؤس توجيه اللوم إلى العوامل الخارجية فيما أصابنا من ضعف وعجز ومهانة، بحيث نبدو عاجزين عن أي شيء غير الإدلاء بتصريحات الاستنكار التي لا أمل في أن تؤدي إلى أي تغيير في الوضع المأزقي الحالي. وإزاء ذلك، يتوجب على صنّاع القرار العرب وممثلي الحركة الشعبية العربية ومرجعياتها إعادة صياغة الإرادة العربية المشتركة لوقف التدهور العربي، وإعادة بناء الموقف العربي الموحَّد للتعاطي المجدي مع التحديات المطروحة في فلسطين، خاصة في غزة الجريحة، وقضايا الشراكات الإقليمية والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن أجل ذلك يبدو أنّ قوة العامل الذاتي العربي ضرورية جداً، مما يتطلب بناء سياسات جديدة قد تفتح الطريق لفهم أسباب قصورنا وتأخرنا دون تعمية وتحايل، وتفتح الطريق لتلافي هذا القصور، خاصة عندما يكف العامل الخارجي عن كونه شيطاناً رجيماً.
وكي يعطي هذا الحد الأدنى نتائجه لا بدَّ من إعادة هيكلة العمل السياسي في العديد من الدول العربية في اتجاه ضمان حقوق الإنسان العربي وتكريس السلطة كعقد اجتماعي متوافق عليه، حينذاك يكف الإنسان العربي عن أن يكون مجرد رقم في الساحة السياسية وفي المجتمع، ليصير إنساناً كامل الحقوق في مجتمع المواطنين.