شهدنا خلال الأيام الأخيرة تقاطر الرسميين الغربيين إلى إسرائيل، وبحكم وجودهم في المنطقة، توجه بعضهم إلى دول عربية كمصر والسعودية. سيلاحظ المراقب للتصريحات خلال المؤتمرات الصحفية في تل أبيب، لغة الدعم المطلق وغير المشروط لحرب إسرائيل على غزة وعلى إرهابيي “حماس”، حسب تعبيرهم. بينما سيتم التلاعب باللغة وتخفيف حدّتها، عندما تنطلق تصريحاتهم من إحدى العواصم العربية، ليخرجوا بخطاب يدّعي مراعاة المدنيين في غزّة وتجنيبهم المخاطر، مع ضرورة تأمين إدخال المساعدات الضرورية لهم.
حقيقة الأمر، أن التصريحات من تل أبيب تعبر عن الموقف الحقيقي لمعظم الدول الغربية، وتنسجم مع التاريخ الغربي في مقارباته للقضية الفلسطينية. فحتى تلك الدول التي تدعم حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، أو ما يسمى بحل الدولتين، بما فيها أميركا حين يحكمها الديمقراطيون، فإنها عبر تاريخ الصراع، لم تأخذ خطوة جدّية واحدة للسير بهذا الحل كي يغدو واقعاً، ما يشير إلى سياسة عميقة في دعم إسرائيل في كامل توجهاتها، مع الإبقاء على خطاب معتدل معلن يراعي إلى حدٍّ ما حقوق الشعب الفلسطيني.
لوضع الأمور في نصابها، علينا ألا نتجاوز أن معظم الدول العربية قبلت بحل الدولتين، أي إنها قبلت بأن يكون لمهاجرين يهود، من أوروبا وروسيا وأميركا وأثيوبيا وغيرها من مناطق العالم، دولةً على معظم أرض فلسطين، بهدف إيجاد حل دائم وإحلال السلام في المنطقة. أما إسرائيل فإنها حتى اليوم لا تقبل أن تكون هناك دولة لأصحاب الأرض الأصليين، ولو على جزء من أرضهم التاريخية! ومع ذلك فإن الغرب في كل محطة يسارع لدعم إسرائيل في الدفاع عن وجودها، بينما يبدو في كل المحطات، بالغ التسامح في إهدار حق الفلسطينيين في الوجود.
كان لدى الغرب، أميركا على وجه الخصوص، معضلة في العقود الماضية (نجحت في تجنبها خلال بعض المراحل)، وهي مأزقها خلال تقديم نفسها في المنطقة. حاولت السياسة الأميركية كسب الرأي العام العربي إلى جانبها خلال فترة الحرب الباردة، فاستخدمت كل وسائل الدعاية (المموَّلة غالباً) لكسب العرب وجعلهم في صفها لمحاربة ومنع تمدد الشيوعية في المنطقة. لكن بقي مأزقها هو دعمها المعلن لإسرائيل، الأمر الذي قوَّض كل مساعيها، وجعل كل سخائها في التمويل يذهب هدراً بسبب تمسك العرب، والمسلمين في باقي البلدان، بموقفهم المنحاز للحق الفلسطيني. ما أبقى أميركا عدوهم الأول بعد إسرائيل.
عانت أميركا كثيراً في معالجة الأمر خلال فترة الخمسينيات، فإضافة للقضية الفلسطينية المنغرسة في الوجدان العربي، كان لأميركا فهم سطحي للقيم الأخلاقية والدينية وحتى السياسية الراسخة في المجتمعات العربية. في برقية من السفير الأميركي في بغداد إلى رؤسائه في وزارة الخارجية عام 1952. يعترض السفير على عرض فيلم مناهض للسوفييت في العراق يصور شقاء الفلاحين الأوزبكستانيين بعد الإصلاح الزراعي. اعتبر السفير أن الإصلاح الزراعي حلم للفلاحين في العراق وسيكون للفيلم مفعول دعائي عكسي.
في سياق الوثيقة الأميركية، أثار السفير قضية الاستقبال غير المتوقع الذي خلّفته الجهود الدعائية في العديد من الحالات، بسبب اختلاف القيم الأخلاقية. “قبل سنوات قليلة نسّقنا لتعرض العراق فيلم المخرج إرنست لوبيتش نينوتشكا، كجزء من الجهود لتوصيل رسالة مناهضة للشيوعية” (الفيلم من بطولة الممثلة غريتا جاربو. كانت جاربو تلعب دور مبعوثة سوفييتية شديدة الجدية تذهب في مهمة إلى باريس. مع الزمن، وبحلول نهاية الفيلم، تتغير طبيعتها الشخصية تماماً، بسبب تجاربها الباريسية الجديدة). يتابع السفير أنه “بعد عدة عروض سحبنا الفيلم، لأن الجمهور العراقي اعتبر شخصية نينوتشكا الجدية في روسيا أفضل وأكثر احتراماً من حياتها الشاذة وغير الأخلاقية في باريس”.
طبعاً فيما تلا ذلك من سنوات، ستتلمس الخارجية الأميركية سبلاً أكثر نجاعة للدعاية. بل إنها في عدة حالات، امتنعت عن أية دعاية في بعض البلدان، لانسداد الأفق أمام توصيل أية رسائل مُجدية. أوقفت على سبيل المثال، الدعاية في العربية السعودية، التي كانت تتم غالباً عبر تمويل من شركة “أرامكو”. كان التبرير أنه لا يمكن الدعوة للحريات الشخصية الفردية أو للديمقراطية بمواجهة الديكتاتورية الشيوعية، في بلد محافظ يسوده حكم ملكي مطلق. ومع ذلك بقي التركيز دوماً، على إظهار نوع من الحياد الأميركي في القضية الفلسطينية.
خلال نقاش في الخارجية الأميركية تلك الفترة، حول النغمة الأكثر فعالية التي يجب اعتمادها للدعاية في الشرق الأوسط، اقترح أحد المسؤولين التأكيد الدائم على “الود والاهتمام الأميركي المستمر بالعالم العربي. إضافة لتسخير جهد خاص للمطبوعات التي تؤكد على حياد الولايات المتحدة في مواقفها بين إسرائيل والعرب. والتركيز على الاعتراف الأميركي بحقوق العرب”. ليضيف أحد المسؤولين في الخارجية، ما يمكننا اعتباره جوهر الموقف الأميركي الحقيقي في تناقضه مع المعلن منه “لا يمكننا تغيير السياسة الأميركية. لذا أعتقد أن دعايتنا يجب أن تهدف إلى جعلها مستساغة”.
هذا تماماً ما يتجلى اليوم، ليكشف أنه في المحطات الكبرى والمصيرية فإن السياسة الأميركية لا تستطيع حتى أن تجامل لتغدو أكثر استساغة. فالتباينات الطفيفة التي تظهر اليوم بين كلمات قادة الغرب في تل أبيب وخطبهم المرتبكة في بعض العواصم العربية، تفضح أكثر هذا التناقض الصارخ بين المُعلن والحقيقي في السياسات الأميركية والغربية عموماً. خلال الحرب الباردة، كانت الدعاية الأميركية تبدو كأداة في (الحملة الصليبية) المناهضة للشيوعية والإلحاد. أما اليوم، فقد تحولت تلك الحملة لتكون أحد أوجه (الحرب على الإرهاب). الآن، كما كانت الحال آنذاك، توصف تلك الحملات بأنها علاج لوقف معاداة شعوب المنطقة لأميركا. واليوم، كما كانت الحال في الماضي، فإن سياسة الولايات المتحدة اتجاه فلسطين، ما زالت المصدر الرئيسي لمواقف الرأي العام العربي والمسلم من الولايات المتحدة.
تعكس وثائق وزارة الخارجية التي تعود إلى الخمسينيات، الافتراض بأن رأياً إيجابياً في المنطقة كان ضرورياً لتحقيق أهداف الولايات المتحدة. لكن مع التدخل الأميركي المباشر لتحرير الكويت خلال حقبة الجمهوري بوش، بدا أن هناك ميلاً متزايداً لدى صناع القرار، لاعتبار القوة العسكرية هي السبيل الأفضل لتحقيق الأهداف في الشرق الأوسط، وتعزيز الهيبة الأميركية.
لذا نلحظ اليوم تلك اللغة اللعوب لقادة الغرب، عندما يتحدثون عن غزّة من إحدى العواصم العربية. لغة مُعزّزة بالبوارج مع مدافعها الجاهزة قريباً من الشواطئ. ما يجري اليوم، خصوصاً لجهة المواقف من تدمير غزّة ومحاولة تهجير سكانها، أنه لم تعد من أولويات الولايات المتحدة أن تحظى بالشعبية أو الإعجاب ولا حتى القبول في الشرق الأوسط. بدلاً من ذلك، تحاول الإثبات أن التحرك العسكري المباشر، والوجود عبر حاملات الطائرات وقطع الأسطول السادس، هو ما يحمي مصالحها ويحقق هيبتها. وأن الحصول على احترام قادة الشرق الأوسط واستجابتهم، يجب أن يكون مدفوعاً، بالخشية من القوة العسكرية الأميركية الحاسمة.
المصدر: تلفزيون سوريا
أثبت الغرب وبقيادة الولايات المتحدة مدى عهرهم السياسي تجاه الأنظمة العربية وهرولتهم لنجدة صنيعتهم الكيان الصهيوني بعد إن انهز وجودها ، هل الأنظمة العربية وبعض الإسلامية خضعت لابتزاز أمريكا ومن خلفها الدول الأوروبية حتى لا تتخذ مواقف داعمة لصمود شعبنا بفلسطين وغزة خاصة ، هل نحن على أبواب تحقيق حلم نتنياهو الذي طرحه بالجمعية العمومية منذ شهرين ؟ ليكون وعد بلفور جديد أمريكي غربي .