لا يمكن الخروج من الأزمة السورية، الممتدّة، من دون حل سياسي. لا يمكن إيقاف حمام الدم والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية وخلافها من دون حل سياسي، فإلى متى؟ وكم ستطول الحرب وتبقى المماطلة تلعب بالوقت وبالأرواح؟
عاد خلط الأوراق، وعاد معه التصعيد في الخطاب، وفي العنف الذي يحيلنا إلى ذروة الصراع الدامي والحرب وكسر العظم والإرادة، إلى سنوات ما قبل العام 2018، وإلى التضليل الذي مورس على الوعي، والضخّ الإعلامي الذي كانت له اليد الطولى في تضليل الشعب بكل مكوّناته، وما زال، في وقتٍ كان هذا الوعي ينحدر بشكل مريع، بل صارت المشكلات المعيشية هي هم السوريين الأكبر، بعد أن انزلقت حياة أكثر من 90% منهم إلى ما دون خط الفقر، الذي هو في الأساس أدنى من خط الفقر لأفقر دولة بمستوياتٍ، بينما ليس في الأفق ما يشي بأن حلًّا قريبًا سوف تتفق عليه الأطراف الضالعة في المقتلة السورية، وبالقرارات التي تخصّ الشعب المغيّب عن فعل القرار، بما يخصّ حياته ومستقبله وأرضه وسيادته.
مجزرة كبرى، هذا ما وقع بعد الانتهاء من مراسم حفل تخريج دفعة ضباط في الكلية الحربية في حمص، وبعد مغادرة “القيادة” بـ21 دقيقة، من وزير الدفاع والمحافظ وبقية المسؤولين، فحصدت عشرات الأرواح، وكأن الموت مخصّص للشعب، للبسطاء، للناس العاديين، للجمهور الذي عليه أن يصفّق ويهلّل ويردّد الأناشيد ويتوعّد الرجعية وعملاءها والإرهابيين الذين استباحوا البلاد والعباد، ثم يهتف بالروح والدم نفديك يا قائد؟
أمّا الفاعل فهو لا يعدو أن يكون يدًا جبّارة تلبس قفّازات سوداء، يدًا مبتورة من جسد، بلا هوية، بلا رأس أو دماغ يأمرها فتطيع، يدا جبّارة حاضرة في الفضاء السوري، تتمختر جهارًا نهارًا بين السوريين، غير الآمنين، جاهزة لأن تكون دريئة لسهام الاتهام الممدودة من السبّابات التي تصوّب إليها، بينما هي لا تبالي، هي حمّالة أوجه وتهم وارتكابات وماض ومشروع مستقبلي، هي يدٌ لخدمة الحرب وتعزيز مبرّراتها وشحذ الهمم والنفوس المحروقة، كي تدبّ فيها الحمية من جديد كلما اتّقدت نار الأسئلة في الصدور. ممنوعٌ على السوريين التفكير، ممنوعٌ عليهم الرصد والتحليل والاستنتاج، فهناك من يفكّر عنهم ويرصُد ويحلّل ويقدّم النتائج جاهزة للتناول والهضم أطباقًا مسمومة تغذّي نار الحقد والطائفية، فتعيد الصراع في سورية إلى المربّع الأول، طالما حرب المصالح لم تنته، وصراعات الدول العظمى والطامحة لأن يكون لها موقعُ قدمٍ في ساحة اللعب المتوخّاة عالميًا، ما زالت في أوجها، تتصادى أصوات مدافعها ونيرانها من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، من الصين وتايوان وأميركا، إلى أذربيجان وأرمينيا، إلى السودان وأفريقيا، حرب عظمى في مستوياتٍ أعلى، وأخرى تتفرّع عنها تحصد الشعوب من دون رحمة أو اعتبار أرواح من يقتلون بالآلاف أرواحًا بشرية.
يأتي ردّ النظام السريع بغاراتٍ على مناطق إدلب وريفها، يُقتل مدنيون فيها، كما قُتل مدنيون في حادثة الكلية الحربية، وتُسارع المحطّات الإعلامية التقليدية وغير التقليدية، الرسمية وغير الرسمية، إلى ضخّ التحليلات التي لم تخرُج عن النسق المتّبع منذ اندلاع الانتفاضة السورية، تحليلات تقوم على الحامل الطائفي لكل ما يجري. يتّهم إعلام النظام الإرهابيين المموّلين أو المدفوعين من دول خارجية لا يشير إلى أسمائها، والمستهدف هنا هو منطقته ومؤيدوها، والطائفة العلوية في الدرجة الأولى، حتى إن الغالبية العظمى بين من راحوا ضحايا الاستهداف هم من أبناء هذه الطائفة المنتهكة حتى النخاع، وتسارع في المقلب الآخر المحطّات والمنابر لتصرّ على أن النظام يقصف مناطق المعارضة لأنها للسنّة، بينما في الواقع الذي من المفيد التفكير فيه وإحياؤه من جديد، طالما جعلت سنوات الحرب السوريين يعيشون في هذا الفقر القاتل، فقر الدم والمخيّلة، فيصدّقون هذه المروّيات، أن الصراع لم يكن غير صراعٍ على السلطة والحيازة، وأن لكل طرفٍ داعميه الخارجيين، ويسعى إلى تحقيق مصالحه ومصالح تلك الأطراف مقابل السطو على السلطة في البلاد، ليسوا أكثر من أدواتٍ في سياسة خارجيةٍ ودوليةٍ لم تأبه لمصير الشعوب. ولم يكن هناك وسيلة أدهى وأكثر خدمة لبقاء الحرب متّقدة أكثر من العامل الطائفي، الذي يجري إحياؤه، في وقتٍ لم يعد الشعب، في كل المناطق، قادرًا على تحمّل حياته المحسوبة زورًا حياة، وهي أقرب إلى الموت، والذي وصل إلى مستوى الثورة على كل شيء، ثورة من دون سقفٍ أو خريطة طريق، ثورة المعدم المحروم المقهور المحاصر المسلوب من مقوّمات التفكير.
تصعيد في كل المناطق السورية، حيث تدور الصراعات بين الأطراف المتحاربة. تركيا تشنّ هجومًا بالطائرات المسيّرة على مواقع قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) وحلفاؤها يصعّدون استهدافهم على مواقع النظام، النظام يقصف في أرياف إدلب وجبل الزاوية، اشتعالٌ في جميع الجبهات السورية. في الوقت نفسه، قال نائب رئيس مركز المصالحة الروسي في سورية، الأدميرال فاديم كوليت، كما جاء في صحيفة الوطن السورية، إن جماعات إرهابية نشطة في إدلب وحلب واللاذقية تستعد لشن هجمات على مواقع عسكرية تابعة لدمشق وموسكو، وأوضح أن البيانات التي تلقّاها المركز من وكالات الاستخبارات السورية أظهرت أن فصائل الحزب الإسلامي التركستاني وأنصار التوحيد، الموالين لتركيا يستعدّان لتنفيذ هجمات على قواعد عسكرية روسية وسورية “عبر استخدام طائرات مسيّرة محلية الصنع”. كان هذا قبل الاعتداء على الكلية الحربية في حمص. فإذا كانت هذه هي التقارير الاستخباراتية، وهي تؤكّد ما وقع قبل أن يقع، لماذا لم تكن أجهزة الدفاع والترصّد في أقصى استعدادها؟ ولماذا لم يُؤجّل الاحتفال من الأساس؟ ألهذه الدرجة تُسترخَص الأرواح؟ هذه أسئلة تؤرّق كثيرين.
أين الحقيقة؟ إنه السؤال الأصعب بالنسبة إلى السوريين، فالحقائق مغيّبة وغائبة منذ سنوات، حتى ولو كانت تحصل في عين الشمس، إنما الحقيقة الواضحة أن الشعب السوري متروك رهينةً لصراع المصالح، أمام أعين العالم والمجتمع الدولي، والقوى العظمى التي تفترش السماء بأقمارها الاصطناعية، تراقب وتصوّر وتجمع أرشيفًا عما يحصل في كل لحظة على الأرض. هذا الأرشيف محجوبٌ عن الشعب السوري، وممنوعٌ عليه التماس الأدلّة كي يفهم ما يحصل على أرضه وبحقّ أبنائه، له أن يتسمّر أمام الشاشات، يتلقّف ما يُضخّ من سموم وشائعات وأضاليل، ويكون مستعدًا لاتّقاد النيران من جديد في صدره، وأن يهرع إلى حمل السلاح في وجه بعضه بعضًا، أن يقتل شقيقه في الوطن، مدفوعًا بضغائن إيديولوجية وعقائدية، درءًا لتغوّل المؤامرة الكونية أكثر، أو دفاعًا عن الأمة والعقيدة متمثلةً في طائفة دون أخرى، مع أن المؤامرة تطاول كل الشعب السوري، الشعب الذي لا يحقّ له أن يفكر خارج الأنساق إلى أجلٍ غير معلوم، إلى أن تنتهي الصراعات الأخرى بين القوى العظمى، ويستقرّ العالم على نظام جديد. حتى ذلك الحين، ستبقى الطائفية الوسيلة الأنجع لتبرير موت الشعب، ولن يكون أملٌ أو نهوضُ من دون حل سياسي يضمن مستقبلًا لكل السوريين فوق أرضهم، هل يفهم السوريون هذه الحقيقة؟
المصدر: العربي الجديد