نحو مقاربة جديدة لأزمة النازحين السوريين:  العبء على أنطونيو غوتيريش والحكومات الأوروبية

راغدة درغام

إلى حضرة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، المفوض السامي لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة من 2005 إلى 2015، والساعي لولاية ثانية كأمين عام للمنظمة الدولية، إليك الإنذار التالي: إنّ ما تفعله في لبنان بشأن النازحين السوريين أنت ومفوّضيتك خطير ومريب، ويستدعي ورقة حمراء في وجهك كأمين عام للأمم المتحدة وكمفوّض سابق لشؤون اللاجئين. أهبط قليلاً من صومعتك في الطابق الثامن والثلاثين ودقّق في التداعيات الأمنية والسيادية لسياستك الخاطئة التي تتنافى في مكان ما مع القيادة الأخلاقية المنوطة بالأمين العام. فلا يجوز ولا يحق لك ولقيادة الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية ذات الازدواجية في طروحات حقوق الإنسان، أن تستمروا في إجبار جيران سوريا، وفي المقدّمة لبنان والأردن، على استيعاب النازحين السوريين الذين بلغ عددهم 42 في المئة من سكان لبنان، وما زالوا يتدفقون اليه بأرقام مرعبة.

إنك يا سعادة الأمين العام المسؤول الأول، لأنك سوياً مع مفوضية اللاجئين- التي تعتبر أنّ نجاحها يعود إليك- تنتهك السيادة اللبنانية وتدخل طرفاً في تفلّت أمني آتٍ، ولأنّ المديرية العامة للأمن العام ووزارة الداخلية بدأتا تبنّي إجراءات قانونية قد تطالك وتطال موظفيك ومبعوثيك في لبنان. فاستدرك واستدر.

التنبيه ذاته يُوجّه إلى المفوض السامي لشؤون اللاجئين الذي انتخبته الجمعية العامة للأمم المتحدة لولايتين من 2016 الى 2025 فيليبو غراندي:

ضع حداً لغطرسة ممثليك في لبنان، واستمع جيداً إلى تحذير العاهل الأردني الملك عبدالله في نيويورك. فأنت تبدو قائماً على مهمّة ضمان عدم انتشار اللاجئين السوريين في أوروبا عبر الإلقاء بهم في الأردن وفي لبنان.

هذا الانطباع يتكرّس أكثر فأكثر وسط استنفار لبناني- سوري خطير، وأجواء مشحونة ضدّ مفوضية اللاجئين وضدّ الجمعيات المدنية التي اكتسبت سمعة سيئة للغاية بسبب أدائها المخجل وتدخّلها السافر وممارساتها التي تشجّع التركيبة الفاسدة في لبنان على التبعية والنعرات الطائفية. فكفى!

كفى هذا القدر من الفوقية السامة. حان الوقت لإعادة النظر بصورة جذرية في المهام والأداء، لوضع استراتيجية جديدة تأخذ في الحساب المواقف الرسمية والأجواء الشعبية نحو مفوضية اللاجئين والجمعيات المدنية التي تسرح وتمرح في لبنان على كيفها بلا تدقيق ومحاسبة. فقد تدفع ثمناً كبيراً إذا لم تستيقظ وتستدرك يا سيد غراندي، أنت ومندوبوك في لبنان.

الكلام العلني عن “مؤامرة كبيرة” أبطالها قيادات لبنانية تشمل “حزب الله” وسوريين من حكومة ومعارضة، يتزامن هذا الكلام مع الحديث عن “تآمر دولي” بحماية المنظمات الدولية والوكالات الأممية التي تشجّع على توطين النازحين السوريين في لبنان. قرى بكاملها تحوّلت الى أكثرية سورية وسط نقمة لبنانية على جمعيات “النصّابين” وعنجهية مفوضية اللاجئين التي تدفع المساعدات للاجئين وليس إلى الدول الحاضنة، لبنان والأردن وتركيا، بما يسدّد نفقاتها الباهظة.

كلفة النزوح السوري من أموال اللبنانيين بلغت 45 مليار دولار، وعدد النازحين إلى الدول المجاورة منذ 2012 بلغ 12 مليوناً. لبنان لا يعرف تماماً عدد السوريين على أراضيه، لأنّ مفوضية اللاجئين قاومت بشراسة إعطاء الداتا بالأرقام الرسمية ولم تسلّم الحكومة اللبنانية أرقام السوريين الرسمية، بالرغم من تكرار الطلب. أخيراً، وبعد مفاوضات مضنية مع المفوضية وفرضها شروطاً لا يمكن الاستجابة لها، وأمام إصرار السلطات اللبنانية على نقل الداتا الكاملة اليها بلا شروط، وعدت المفوضية بتلبية الطلب قبل شهرين، على أن تستكمل ذلك في غضون ثلاثة أشهر.

بالطبع، إنّ الحكومة اللبنانية مسؤولة عن محنة لبنان لأنّها رفضت المخيمات للنازحين السوريين، فأدّى ذلك إلى مخيمات عشوائية تكاد تكون خارجة عن القانون وإلى انتشار النازحين داخل المجتمع اللبناني من قرى إلى المدن إلى العاصمة. بالرغم من الفوضى والانقسامات السياسية اللبنانية وسوء إدارة ملف النازحين السوريين، لا يحق لمفوضية اللاجئين للأمم المتحدة أن تلعب دور تصنيف من هو لاجئ أو نازح إلى لبنان أو أن تقوم بإدارة اللجوء.

هذا حق سيادي للبنان مهما اختلف الوزراء أو زايدت الأحزاب والقيادات. هذا أولاً. ولكن، على كل الوزارات، من الداخلية إلى العدل إلى الخارجية وتلك المكلّفة شؤون اللاجئين، عليها جميعها أن تتوصل إلى استراتيجية شاملة ينفّذها الجيش بقيادة الجنرال جوزف عون والمدير العام للمديرية العامة للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري.

مأساة النازحين السوريين إنسانية بلا أي شك، إنما هناك موجة جديدة من النازحين تفيد أنّ هناك تنسيقاً بين جهات رسمية سورية وقيادات لبنانية مثل “حزب الله”، لتسهيل عبورهم عبر حدود سائبة بتسلّل غير شرعي. هناك كلام علني عن فسادٍ مستعرّ حتى في القضاء اللبناني خدمةً للمهرّبين. هناك عناصر لبنانية مستفيدة من التسلّل غير الشرعي وهي متواطئة.

جزءٌ من النزوح الجديد نزوح اقتصادي تشجّع عليه المفوضية والجمعيات، نظراً إلى ما يتلقّاه النازح السوري في لبنان من مساعدات، فيما المواطن اللبناني يعاني من النقص وازدياد الفقر، لأنّ النازح السوري بات أغنى نسبياً في ظلّ المعونات له وعلى حسابه.

الحدود اللبنانية- السورية الممتدة الى 370 كلم تجعل ضبطها صعباً، لاسيّما وأنّ الجيش يقوم بمختلف المهام في مختلف المواقع في البلاد. فلا مال لتطوير ضبط الحدود تقنياً. ولا اتفاق سياسياً ضرورياً على ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا برفضٍ من الطرفين، كل لغاياته الأنانية.

واقع الأمر أنّ النظام في دمشق لا يريد عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، وهو عمداً لا يؤمّن البيئة الآمنة لهم، بل وانّه هجّر مليوناً ونصف المليون لأنّه أراد التخلّص منهم. ما يريده النظام هو التعويض عن قانون “قيصر” الذي فرض عقوبات صارمة عليه، وهو يجد في لبنان فرصةً لزرع خلايا لتخريبه أمنياً، كي يكون في الإمكان استخدامه كورقة ابتزاز. لذلك، إنّ كيفية تناول المجتمع الدولي لمسألة النازحين السوريين تتراوح بين الجهل وبين التآمر.

الدول الأوروبية لها دور كبير في المؤامرة على الدول المجاورة لسوريا، بالمباشر وعبر مفوضية اللاجئين والجمعيات غير الحكومية التي تتجاوز الادعاءات بأنّها إنسانية محض. هناك 7500 جمعية ناشطة، 280 منها مسجّلة تقدّم المساعدات للنازحين. بين 2011 و2019، تأسّس 35 في المئة من الجمعيات بالتزامن مع الحرب السورية. هذه أرقام المدير العام لمديرية الأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري، الذي أشار إلى “ثقافة” عدم تسجيل الولادات الجديدة للنازحين. فالنازحون السوريون لا يكتفون بولادة طفل أو اثنين وإنما يؤمنون بعائلة من 6 إلى 8 أشخاص، بتشجيع من مفوضية اللاجئين والجمعيات غير الحكومية، لأنّها تقدّم الدعم لكل طفل سوري يولد في لبنان.

ضمن أهم ما قاله اللواء البيسري إلى الزميل مارسيل غانم الذي سأله ماذا في قدرته أن يفعل أمام استفحال الجمعيات والوكالات الدولية، هو أنّ للمديرية العامة للأمن العام “الحق” في “البتّ في تواجد الأجانب في لبنان”. هذا كلام مهمّ وضروري أن تستمع إليه الأمم المتحدة ووكالاتها، كما الدول الأوروبية ووكلاؤها الذين يلبسون عباءة المنظمات والجمعيات الإنسانية ومهامهم سياسية محض.

الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي أخطأوا في تناول ملف النازحين السوريين، لأنّهم استفزوا اللبنانيين وتعاملوا معهم بفوقية وإملاء، حتى في أعقاب اعترافهم بأنّ الضيافة اللبنانية كانت مميزة عند بدء الحرب والتهجير. اليوم، هناك غضب عارم واستنفار وتشنج وشكوك بنوايا الأوروبيين، بل هناك تهم مباشرة ضدّهم بأنّهم يتخذون من الموضوع الإنساني باباً لفرض التوطين.

اليوم تزداد الدعوات إلى إغلاق مكاتب الأمم المتحدة لتخطّيها الدولة، وأصوات تنادي بفتح البحر أمام النازحين السوريين ليغادروا إلى أوروبا التي تزعم أنّها تتحدّث لغة حقوق الإنسان والإنسانية. أوروبا المذعورة من اللجوء السوري إليها، هي التي تعتمد سياسة اعتماد لبنان كبلد لجوء رغم أنفه، وبالرغم من صرخته بأنّه بلد عبور وليس بلد لجوء، كما قال وزير الداخلية القاضي بسام مولوي، الذي أصدر تعليمات مهمّة جداً إلى البلديات وغيرها، للقيام بما عليها لضبط الوضع الأمني ومنع تجاوزات النازحين السوريين.

ما العمل؟ ضبط الحدود مهمّ جداً، لكن حتى هذا المبدأ البسيط يقع فريسة المزايدات السياسية والطائفية في هذا البلد المفكّك بقرار مسبق لبعض أحزابه. فهناك مثل “حزب الله” من سعى ونجح في تفكيك الدولة اللبنانية، جزءاً بجزء، وهو لم يعبّر بعد عن أية رغبة في إيقاف قطار التفكيك- فمصلحته تقتضي المزيد. لذلك، من المستبعد ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا قريباً، لاسيّما وأنّ فلتان الحدود يخدم عمليات التهريب- تهريب الأسلحة والكبتاغون، عبر آلية متفوقة تحت رعاية حكومية في سوريا ومنظمات تهريب مهنية على جانبي الحدود السورية- اللبنانية وكذلك السورية- الأردنية.

من المفيد والضروري البناء على ثنائية المسارين الأردني واللبناني في ما يتعلق بمسألة النازحين السوريين، والتي تحدّث عنها الملك عبدالله، مطالباً المجتمع الدولي بالتوقف عن دفن الرؤوس في الرمال، ومطالباً بمقاربة عادلة وواضحة لدول الجوار لسوريا- الأردن، لبنان، وتركيا.

هذه الدول يجب أن تتوجّه سوياً إلى الأمم المتحدة بشق الأمانة العامة، ومجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، كما إلى مجلس حقوق الإنسان ومفوضية اللاجئين والاتحاد الأوروبي في بروكسل، لطرح موضوع النازحين السوريين بحزم وبلغة واضحة عنوانها الإنذار… نعم التهديد الديبلوماسي ترافقه إجراءات تثبت جدّية المقاربة الجديدة. هذا الطرح يجب ألاّ تشوبه أية عنصرية ضدّ النازحين السوريين، وإنما يجب أن يُعرض بطريقة تثبت أنّه لمصلحتهم في نهاية المطاف.

يجب تشكيل وفود نيابية تتوجّه إلى مقرّ الأمين العام أنطونيو غوتيريش، وفي أياديها ملفات واضحة تبيّن خطورة التطورات المقبلة ومساوئ ما اعتمدته مفوضية اللاجئين وغيرها، وأثبت قصر النظر، وتطالب بإجراءات محدّدة وواضحة. ومن المهمّ أن ترافقها حملات إعلامية موسّعة وذكية وليس فقط إعلام “فش الخلق”.

مفيدٌ جداً أن تتوجّه الدول الثلاث المجاورة لسوريا إلى مجلس الأمن الدولي ولديها بنود مشروع قرار مدروس بدقّة من الناحية الإنسانية كما السياسية، ليكون أداة ضغط على النظام السوري ليقوم بما عليه لتأمين عودة النازحين بإجراءات جدّية وليس بطروحات تهكمية.

في إمكان الدول الثلاث تبنّي موقف موحّد حول وطأة النازحين واللاجئين على الوضع الاقتصادي في هذه الدول. من المفيد لها إرسال وفود ليس فقط إلى مجلس الأمن وإنما إلى مقرّ الوكالات في فيينا وجنيف. ومن الضروري لها التوجّه إلى الجمعية العامة لتوسيع الرقعة الإنسانية واحتياجات الدول المضيفة من مساعدات مالية وإنسانية، ومن إجراءات سياسية وميدانية تطمئن النازحين إلى عودة آمنة.

معالجة أزمة النازحين واللاجئين تتطلّب شراكة أممية مع الدول المضيفة لمعالجة الأزمة من جذورها، وبناءً على وضع أمني يسمح اليوم بعودة النازحين بمسؤولية مشتركة. هذا جزء من بنود مشروع قرار يجب طرحه في مجلس الأمن، ترافقه آلية مالية تسمح بإعادة النازحين، إما الى بلدهم أو إلى دولة ثالثة.

فلتتحرّك الأسرة الدولية بعقلانية وذكاء وبمسؤولية مشتركة، فليس في قدرة الدول المجاورة لسوريا بمفردها تحمّل مسؤولية أزمة اللاجئين والنازحين. هذه مسؤولية الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. فعقدة الذنب تجاه السوريين لا تبرّر افتراء وتعدّي الأسرة الدولية على اللبنانيين ومساهمتها في تدمير لبنان.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى