أُغلقت كل النوافذ بوجه بشار الأسد. إيران وروسيا تبدوان متململتين منه كثيراً. تركيا لا تجده شريكاً في إحلال السلام في جنوبها، وليس قادرا على تفكيك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والحزب الاتحادي الديمقراطي (الكردي). وفي كل الأحوال، هناك أميركا الداعمة للقوى الكردية هذه، وبالتالي، لن تتغيّر أوضاع ذلك الجنوب إلّا باتفاق مع الحكومة الأميركية. أحاديث وزير الخارجية الإيرانية، حسين عبد الأمير اللهيان، أخيرا، عن وساطة للتقارب بين تركيا ونظام دمشق تبدو أقرب إلى التحدّث للإعلام منها لأن تكون مبادرة، فكيف إن تذكّرنا أن طهران أعاقت بالأصل المبادرة التركية، ومنعت الأسد من الاستجابة لشروط المبادرة العربية.
حَلِم الأسد طويلاً بأن تنظر الصين إلى بلاده بعين العطف، رغم أن وعودها بالاستثمار في سورية من قبل لم تنفّذها. تُعتبر الصين حليفة له، فهي رفعت “الفيتو” ثماني مرّات، وفي قضايا محقّة بإدانته، ولكن الأمر كان يتم بتنسيق مع روسيا، وضمن تعزيز العلاقات مع الأخيرة أولاً. الصين التي حاصرها الأميركيون عبر الممرّ الهندي الخليجي الأوروبي، وأخرجوا سورية ولبنان منه، رأت أن تدعو الرئيس الأسد إلى دورة الألعاب الأسيوية، وهناك موضوع تايوان، والابتزاز الغربي ضدّها، فلماذا لا تلوّح بورقة سورية هي أيضاً؟
شعر الأسد بأهمية الحليف الصيني، أخيراً، فأرسل الأخير إليه طائرة لتقلّه، وأسرته وبعض من وزرائه ومستشاريه، للمشاركة ضيوفا في الدورة. تم هناك اللقاء مع الرئيس الصيني، ووقّع الرجلان اتفاقية سمّيت “الشراكة الاستراتيجية” وتتضمّن وعوداً جديدة بالمساهمة في إعمار سورية، وبالاستثمار في البنى التحتية. في كل الأحوال، انضمّت سورية إلى مبادرة الحزام والطريق في 2022، ولكن، كما لم تتحقّق وعود سابقة بالاستثمار في سورية، كذلك لم يكن للانضمام فائدة تُذكر. وأغلب التقارير الصحافية تؤكد أن الاتفاقية الموقعة أخيرا لن يكون لها أيّ عوائد اقتصادية. وبالتالي، الزيارة أقرب إلى الدبلوماسية؛ فبها، يقول الأسد إلى جامعة الدول العربية بأن لديه مخارج جديدة، وتستغلها الصين ورقة سياسية، كما أوضحنا.
مشكلة الأسد أنّه استنزف كل علاقاته و”باع” سورية لحليفتيه. رغم ذلك، تلاحقه إيران من أجل ايفاء ديونها، وروسيا تفعل الشيء ذاته، والاثنتان عقدتا معه اتفاقياتٍ اقتصادية كثيرة، وجميعها غير قابل للاستثمار. تعلم الصين ذلك جيداً. ولهذا، ليس بمقدوره أن “يضحك” عليها واستدانة بضع مليارات، ويشكّل رفضه المبادرات الإقليمية سبباً إضافية إلى تعقيد مستقبل بقائه في السلطة، وليس حل بعض مشكلات البلاد.
المصائب لا تأتي فرادى على نظام دمشق؛ فبعد أن توهّم الانتصار، وتوهّم معه الموالون أن الأزمة حُلّت وانفرجت، وفتحت أمامه المبادرات، واعتقد الأسد أنّه سيذهب إلى الرياض وأنقرة فاتحاً؛ انهار ذلك كله، وعاد إلى الداخل، ورفع الأسعار بشكل جنوني، سيما المحروقات، وكانت الحصيلة تذمّراً واسعاً، فنطقت الألسن الصامتة، وبدأ الانتقاد الشديد، وتحرّك المجتمع، وبرز ناشطون عديدون في الساحل، واعتقلهم، وخرجت محافظة السويداء بأكملها عن السيطرة، وشعر النظام بأن أجواء 2011 عادت تقضّ مضجعه.
بزيارته الصين، بدلاً من أن يذهب إلى السويداء، أو يتحدّث للشعب، وقد كانت هناك انتفاضة للعشائر ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وباستمرار ارتفاع الأسعار، وطبعاً سيعود بخفّي حنين من الصين، يكون قد أجّج إمكانية توسّع الانتفاضة عليه من جديد. يشكّل شعور الخيبة الشديد لدى الموالين من أفعاله، في السنوات الأخيرة، وعدم تغيّر ممارسات نظامه من فساد ونهب وتجاهل الحقوق، الأرض الصالحة للتظاهر.
عرّت نبرة نشطاء الساحل الذين اعتقلوا النظام من كل مصداقية، واعتقالهم، وانتفاضة السويداء، “كمحافظة فيها أقلية درزية”، قد أعادت العقل إلى اعتداله، وتذمّره؛ فهذا النظام ليس طائفيّا ولا حاميا للأقليات، ولا تعنيه أحوال المتضرّرين من الموالين، وعائلاتهم، وقد فقدوا أولادهم، ومن ظلَّ حيّاً ركب البحر الى قبرص وأوروبا وأيّة دولة يمكن الذهاب إليها. هذا يعني افتقاد النظام أيّة سرديات عن ضرورة الالتفاف حوله من جديد. وهنا، ذكرت تقارير صحافية أن الرئيس الأسد التقى، منذ أكثر من شهر، بعض شيوخ الطائفة العلوية، وبدلاً من الإصغاء إلى شكواهم، ازدراهم، وهدّدهم، بأن يساهموا بدورهم في تكميم الأفواه عبر السردية القديمة، بأنّه حامٍ لهم. ولا يمكن للشيوخ الجوعى أن يعيدوا العقل إلى غبائه، وإلى الجهل.
لن تأتي الإغاثة من الصين، وليس من استثماراتٍ ممكنة، وروسيا وإيران سيطرتها على كل موارد البلاد، والانضمام لمبادرة الحرير والطريق لم تغيّر من المشهد أبداً. وواقعياً، هناك العقوبات الأميركية، والتي تمنع أية استثمارات في سورية، وقد كانت سبباً لمنع تمادي بعض الدول العربية في نسج علاقاتها مع نظام دمشق، والأسوأ للأخير تصريحات ملك الأردن عبدالله الثاني في الأمم المتحدة، حيث قال إن الأسد لا يفرض سيطرته الكاملة على المناطق الواقعة تحت نفوذه. وكان الملك من أشدّ المتحمّسين لإعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، ورفع العقوبات عنه، ولكن سياسات النظام، وعدم استجابته لشروط الجامعة، واستمرار وصول الكبتاغون إلى الأردن والخليج، أشعر الملك بأن كل ما فعله لم يكن صائباً، ولا بد من السير خطواتٍ نحو الخلف.
لن تغامر الصين بالقدوم إلى سورية؛ فهي تريد تخفيف المشكلات مع أميركا وليس العكس، ولديها مشكلة كبرى هي تايوان، وتتشدّد فيها ضد أميركا أو كل من يقيم صلات معها؛ في منطقتنا. صحيح أن الممر الهندي موجّه ضد المبادرة الصينية، ولم تستفد منه تركيا وإيران وسورية ولبنان والعراق، ولكن ذلك لن يدفع الصين إلى المواجهة، في المنطقة، سيما أن مبادرتها للصلح بين السعودية وإيران تكاد تفشل، ووعودها لإيران بضخ 40 مليار لم تنفّذها. إذاً، لن يستفيد الأسد من زيارته، وسيُصاب الشعب بالخيبة من جديد، فقد انتهت أسطورة العمل بالأمل، بل، وعلى الأغلب ستتوسّع الانتفاضة ضدّه أكثر فأكثر؛ فهو لا يتوقّف عن إضاعة الفرصة تلو الأخرى، وبذلك تتفاقم أحوال الشعب، ويصبح المدخل لحل المشكلات هو التغيير السياسي، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وهو ما حاز إجماعاً في سورية، المعارضة و”الموالية” منذ منتصف أغسطس/ آب الماضي.
المصدر: العربي الجديد