عن النظام السوري والألعاب الآسيوية!

موفق نيربية

في السياسة الدولية، والسياسة العربية والإقليمية، خصوصاً في ما يتعلّق بالسياسة السورية؛ يبدو أن منطق ألّا يعفّ نظام أو دولة عن كريهة منطقٌ عادي وغير مستغرب. ليس هنالك ما يقف في وجه تحصيل مكسب إضافي، وشيء من نفوذ سياسي، لتأمين السلطة القائمة، أو لتحصينها في وجه الآخرين، أو من الانزلاق إلى الهاوية. لزيارة بشار الأسد الحالية إلى الصين معانٍ من هذا القبيل.

كانت زيارته إلى الصين في عام 2004 هي الأولى لرئيس سوري، وانقطع الطريق لعقدين من الزمن حتى الزيارة الحالية، بظروفها المحيطة. يمكن استنتاج أهميّتها مثلاً من أن المضيف قد أرسل طائرة خاصة لإحضار الضيف، ولكن، علناً، وفي اختلاف مع عدّة زيارات إلى موسكو سابقاِ، وأيضاً طهران، كان الخبر مفاجئاً للإعلام، تحسّباً من وقوع انقلاب عسكري كما فسّر الأمر معلّقون روس. تولّى الإيرانيون هذا الأمر، وأرسلوا قائد فيلق القدس بكلّ ما يعنيه ذلك، شكلاً ومضموناً، ليكون في سوريا في غياب الأسد.

هذه الزيارة إلى الصين مختلفة قليلاً؛ وليس بسبب رفقة زوجة الرئيس له بكلّ ما فيها من طاقة تسويقية؛ هي مكسب حقيقي للنظام، يكفيه منها أن تحصل، لكنّ محلّ التساؤل هو ما يشكّله هذا الحدث من إضافات وفرص للسياسة الصينية الراهنة، اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، إذا صدّقنا أن هدف الزيارة الحقيقي ليس الاحتفال بالألعاب الآسيوية، بل تأسيس شراكة استراتيجية بين الصين والنظام، وقال ذلك شي بينجنغ ذاته.

ليس هنالك من جدول أعمال اقتصادي حالياً وواقعياً، ليس لدى الأسد ما يعطيه، خارج ما أعطاه للروس والإيرانيين. لكن الاهتمام الصيني ينصبّ على تأكيد حصّتها من كعكة إعادة الإعمار، حين يحين وقتها في المستقبل، وزيادة حجمها ما أمكن. أمّا المكاسب الاقتصادية حالياً، فسوف تمنع حصولها العقوبات الغربية، التّي ستكبّل خطوات الصين، الحذرة أساساً وبطبعها وحرصها على إبقاء الخطوط سالكة مع الغرب، السوق الأكثر أهمية والأكبر حجماً. لا ينطبق هذا المنطق تماماً على الناحية السياسية، حيث الحرية الأكبر في العمليات التكتيكية واستخداماتها. لسوريا أهمية استراتيجية بالفعل للمشاريع الصينية، لكنّها ليست بأصالة الأماكن الأخرى، بل ربّما تشتقّ الأولى من الثانية. علاقات الصين مهمة مع إيران وتركيا والعراق وإسرائيل، الأولى والثانية شريكان مهمّان في كلّ شيء، وفي مشروع الحزام والطريق؛ والثالثة بحصّتها من واردات الصين النفطية، والرابعة بكلّ المعاني، من المعلوماتية والتكنولوجيا المرتبطة بها إلى ميناء حيفا، حيث الشراكة باستثماره، إلى إغاظة الولايات المتحدة وأوروبا، والدخول ما بين الشروخ الطارئة أحياناً. موقع سوريا بالنسبة إلى تلك الدول يضيف شيئاً إلى أهمّيتها المحددة عند الحكومة الصينية، المتعلّقة بالمستقبل وإعادة الإعمار. حين أحسّ بشار الأسد وصحبه بحجم ردود الفعل على سياساته في عام 2005، مع اغتيال الحريري والاتهامات الذي تلته، ثم خروج جيشه من لبنان بطريقة ذليلة، تكلّم أيضاً عن استراتيجية التوجّه إلى الشرق، وهو يكرّر ذلك الكلام في وضع أشدّ وأنكى حالياً، ولا غرابة! للصين حضن كبير يتّسع للكثيرين، حظي مؤخّراً باهتمام خاص من الدول» المارقة»، مثل روسيا وفنزويلا وإيران وكوريا الشمالية مثلاً. وهذا لا يتعارض في الاستراتيجية الصينية مع توسيع نطاق الاقتصاد المشروع ذي الحجم الكبير والفائدة العميقة مع الدول التجمّعات الأكثر شرعية ورسوخاً في عالم اليوم. يستطيع الأسد أن يكون مفيداً هنا لو أتيح له، ليس بتقديم يد العون والاستعداد لأية خدمة، ولكن أيضاً بتقديم المثال في السياسة الخارجية، والذي يبدو أن القيادة الصينية مستعدة لاستخدامه. يتأسّس هذا النمط من الاستراتيجية على إزعاج الخصم ومقاطعة مساره الآمن وملء سريره بالمنغّصات، عن طريق العلاقات مع دول من هذا النوع الطفيلي، من دون منعكسات ونتائج فادحة.

تعتبر الصين أن الولايات المتحدة والغرب يستخدمان تلك الاستراتيجية مثلاً من خلال تايوان، كما في حرب الرقائق الإلكترونية، إنها تحتاج إلى زيادة مصادر الألم في الأيدي الغربية، حتى تتعادل مع آلام أيديها.

لم تكن العلاقة مع الدولة المارقة الأكبر روسيا وحدها ما دفع الصين إلى التصويت بالفيتو ثماني مرات في وجه قرارات لمجلس الأمن، تتعلّق بالنظام السوري. ترافقت معها أيضاً سياسات الإزعاج والتعطيل (بالإذن من العبقرية اللبنانية بالتعطيل الحكومي والبرلماني). كذلك تدخل الصين؛ بعملية تطوير سياستها السورية على هذا الشكل؛ من خلال اختراقات حققتها مؤخّراً، باستثمار الخلل الطارئ على العلاقات الأمريكية بكلّ من السعودية والإمارات، وسياساتهما الهادفة إلى تحقيق استقلالية أكبر، وتفلّت من شراكات أحادية استمرّت لعقود طويلة، ومن ضغوط أمريكية وغربية تزايدت شيئاً فشيئاً. إنها تستثمر كذلك اختراقاً مهماً كان موضع ترحيب رسمي من الولايات المتحدة، وهو الوساطة الناجحة – حتى الآن – بين إيران والسعودية. لكنّ عملية» الاستثمار» تلك قد تخضع لتقييم مختلف في وقت قريب، ومن ثمْ لسياسات مضادّة تلجم ذلك التوجّه والتكتيك. هنالك إسرائيل أيضاً، التي تظهر بالفوضى التي تعيشها محتاجة أكثر إلى تدعيم سياساتها السورية، ولعلّ الصين يمكن أن تساعد في ذلك. وربّما آن أوان تحصيل ثمن حقيقي للفيتو المتعدّد في مجلس الأمن. لكنّ أهمّ مقدّمات ذلك كان مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد، وإعادته إلى الجامعة العربية، وظهور أفق جديد أمامه من خلال المبادرة الأردنية المتسّقة مع الميول الدولية والإقليمية. توقف ذلك المسار لاحقاً عند باب مجلس الجامعة، مع استعصاء تحقيق أية خطوة من مسار»الخطوة مقابل الخطوة» الموعود. وصحيح أن النظام قد حقق مكسباً مهماً من حيث المظهر الشرعي وجلوسه بين من قاطعوه سابقاً، ومن حيث أن تلك» الشكليات»، إضافة واقعية على شرعيته المتآكلة. لا يفيد النظام كثيراً ذلك الحديث الصيني النافل والمتأخّر كثيراً حول عمق العلاقات وتاريخها المميّز، وعن اعتراف سوريا – أخرى!ـ بالصين الشعبية في عام 1956، ودعمها لاستعادتها مقعدها الدائم مكان «الصين الوطنية»، التي أصبح اسمها تايوان بعد ذلك. أصبح العالم والسياسة الدولية أشدّ تعقيداً بما لا يُقاس منذ ذلك التاريخ، واستطاعت الصين أن تتغيّر منذ أواخر السبعينيات لتحتلّ المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، قبل الاتّحاد الروسي بتسع مراتب، ذلك الذي يعتمد على عناصر أخرى للحفاظ على موقع متقدّم في السياسة الدولية، يطمح إلى المشاركة قريباً كقطب رئيس بين أقطاب متعدّدة. تلك العناصر لا تعتمد على الاقتصاد ولا على القانون الدولي أو التقدّم العلمي، بل على السلاح النووي وأخطاره الكامنة وتهديداته الضمنية، وعلى زعزعة الأمن العالمي والإقليمي، حيث وحين يكون ذلك ممكناً وقابلاً للاستثمار، بذلك تكون السياسات الروسية تكراراً وانعكاساً مضاعفاً وكبيراً يشبه سياسات نظام الأسد في الابتزاز من طريق الإرهاب. للصين منزلة أخرى تحظى من خلالها باحترام أكبر لدى خصومها وأصدقائها، ولكن ذلك يمرّ بممرّات كالتي تمرّ بها حالياً، مع ازدياد التوتّر العالمي في جنوب شرق آسيا وجنوب غرب المحيط الباسيفيكي. هنالك يقترب العالم من البؤرة الأكثر خطراً على مستقبل البشرية هذه الأيام، رغم الحرب الأوكرانية وتوظيفها الخطر من قبل بوتين وحكومته. زيارة بشار الأسد إلى الصين في إطار الاحتفال بدورة الألعاب الآسيوية، فصل يُضاف إلى عودته إلى الجامعة العربية، وربّما يحمل درجة مشابهة من الأهمية، يمثّل له عودة الروح، أو يُضاف إلى «انتصاراته» حتى الآن، وإن كان تحقيقه لذلك على حساب السوريين – جميعاً- الذين هجر نصفهم مسكنه إلى أقصى الأرض أو أدناها، وعلى حساب البلد الذي ضاع – أو كاد- بسبب تشبّثه بحكمه بعد أبيه. سوف يحتاج ذلك البلد إلى عقود حتى يعود إلى حيث كان عند بداية المجزرة، وإلى عقود أخرى حتى يصل إلى حيث تستحقّ عذاباته وآلامه أن يكون.. وقد لا يحدث ذلك أبداً! لذلك، يبقى الحدث الصيني تفصيلاً صغيراً..

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى