تعشير الثورة ودولنة الطائفة والهوية

يونس العيسى

لم يكن ابن خلدون عندما تحدث عن العصبية القبلية ودورها في بناء الدولة والمُلك، بأنها أساس ذلك البناء، بل كان يقصد أن القبيلة في هذا النوع من البناء، أداة لحماية السلطان وتحصين سلطته، سيما وأن شكل الجيوش في عصرنا لم يكن موجوداً في الماضي، بل كانت الجيوش قبائل يستخدمها الحاكم في السيطرة والتوسع بمناطق النفوذ، ولكن في العصر الحاضر عنصر البناء ليس الكيانات الاجتماعية المصغرة، بل إن مثل هذه الكيانات تتحول إلى مصدر لمشكلات معقدة يصعب مقاربتها لعدم انسجام مفاهيمها مع مفاهيم بناء دولة.

وليس المقصود بالكيانات الاجتماعية القبيلة والعشيرة فقط، فهناك العصبيات المنطلقة من أساس مناطقي وطائفي وقومي، والجماعات المسلّحة خارج السلطة والقانون، وفي حالات كثيرة تستخدم هذه التجمعات، الدولة كأداة لتقوية نفوذها، وفي سوريا نموذجاً لسيطرة عائلة واحدة على مقاليد السلطة، استخدمت النفوذ العسكري واستقطبت أبناء الطائفة نحوها وجعلت منهم أداة لحماية سلطتها.

وإن الحقيقة التي يتعيّن أن يتم التعامل معها هي صلة الدولة بالهويات الفرعية، إذا لم تتعارض مع مفاهيم بناء الدولة، وأن تأبى تلك الهويات أن تكون أداة بيد الحاكم، أو هراوة بيد السلطة، بل كيانات عالية المقام، تحفظ قيم المجتمع، ولا تزيد عصبيته لصالح تعشير الثورة أو دولنة الطائفة والهوية.

في البدء كانت العشيرة ولم تكن الدولة، واليوم في سوريا يُعاد استعادة العشائرية وجميع الهويات الفرعية، وحين تسلم القيادة لبعض العشيرة أو القبيلة أو للعائلة المصطفاة سلطوياً، تتحوّل إلى كيان موازٍ، تربط بين أفراده رابطة المصلحة، وهكذا جعل نظام الأسد حكمه، رغم ادعاء إيمانه بالعروبة والقومية، ومتاجرته بالمقاومة والممانعة، وهكذا عملت فرق وتيارات وأحزاب الإسلام السياسي، وهي تخوض حروبها، ليس ضد النظام كنوع من الصراع معه على السلطة، بل بين شقيقاتها من الفرق والتيارات الأخرى، ووجه مماثل من التنافس القاتل على ذات الهوية والموقع السلطوي الأول.

وليس العيب في العشائرية أو القبلية وقيمها وأخلاقيات تعاملها فيما بين أفرادها وأفخاذها، لكن الملامة الكبرى تقع على عاتق من جعلها جمل المحامل لتحقيق غاياته.

وبغياب مفهوم جامع للمواطنة انتشرت وسادت أنماط كثيرة تُذيب الوطن والشعب في بوتقة الدين والمذهب والعشيرة والقرية والمدينة، حتى أصبح الولاء لأحداها يسبق الولاء للوطن الجامع، وقد لعبت أحزاب الإسلام السياسي دوراً كبيراً في تقزيم المواطنة وحصرها في طائفة بذاتها، وساندها بذلك النظام القبلي والعشائري وتقاليده وتحولت الثورة والوطن إلى مجرد شعارات ومهرجانات وأناشيد لتمجيد القائد والحزب والعشيرة والمذهب والطائفة، بعيداً عن مفهوم المواطنة التي تنضوي تحتها كل هذه الكيانات، وعملوا على تقزيم الوطن وإذابته في شخص دكتاتور أو في كيان حزب، وديوان قبيلة ومجلس شيخ وفي علم إدارة الصراع عندما يكون صراع الجماعة على الهوية والسلطة والقبلية يصبح صراعاً سلبياً، يدمّر البلاد ويهجّر العباد، لكن عندما يكون الصراع فى خدمة أهداف تجمع الهويات المختلفة على رؤية واحدة ومصالح عامة للوطن هنا يكون الصراع إيجابياً.

لكن في سوريا حدث العكس تماماً، ففي ظل حكم الأسد وهويته العسكرية والأمنية، التي ثار عليها الشعب ليحصل على دولة مدنية، قام بمواجهتها واختراقها من خلال تسلّم دفة قيادتها لجماعات دينية متشددة زادت من سني عمر سلطته.

إن المنظومة العشائرية في المجتمع السوري متجذّرة، ولم تفلح محاولات دمجها في سياق الهوية الوطنية، وتعتمد قوة العشيرة وتأثيرها على ظروف المرحلة وقوة القانون والدولة، وقبل استيلاء نظام الأسد على الحكم في سوريا حافظت المنظومة العشائرية نوعاً ما على مكانتها لتكون أداة ضبط اجتماعي تُستدعى لنصرة أبنائها في الأزمات الداخلية أو مع العشائر الأخرى، لكن التغييرات التي طرأت على المجتمع السوري بعد عام 2011 أدت إلى تشتت مركزية العشيرة وتخلّي الكثير عن ثوابتها الموروثة.

حيث أُطلق بعد انطلاق الثورة السورية مصطلح “الشيوخ الـجدد” وتم تسمية الكثير وفقاً لعلاقتهم مع سلطات الواقع في محاولة للسيطرة على العشائر من خلال ضمان ولائهم، وشهدت الساحة السورية تزايداً في أعدادهم حيث شهدت معظم العشائر انشقاقات في داخل أفخاذها، ليكون لكل مجموعة صغيرة شيخ يتصل بالشيخ العام مباشرة، فيما حافظت إلى حدٍ ما، المشيخة العامة على مكانتها دون دخول منافسين من رجال العشيرة ذاتها، لكون الأمر يتعلق بتاريخ وجذور أكسبتها شرعية في المجتمع.

نظام الأسد، والذي اتخذ من الاستبداد ركيزة أساسية لنظامه، اعتمد على العشيرة، واستقطب شيوخها بدوائر السلطة ومجلس الشعب.

ومع الحرب التي شنها نظام الأسد على الشعب الثائر على حكمه لم تبقَ أي ملامح لمجتمع مدني خصوصاً وأن هذا النظام، كان يتكوّن من عشيرة، إذ تسيطر عائلة الأسد وأقاربه على معظم مؤسسات الدولة المهمة بشتى صنوفها وأركانها، ونسب الدولة لنفسه بعبارة “سوريا الأسد” ولأن شكل نظام الدولة هو المجسّد للأخلاق الجمعية، فإن صعود نجم العشيرة في الواقع السوري كان نتيجة طبيعية وحتمية عما سبق.

فنظام الأسد الذي عمد لتدمير البلاد وتهجير العباد، وخروج الكثير من المحافظات عن غطاء استبداده، لجأ الناس إلى هوياتهم الفرعية كقارب نجاة وأمان، والمعارضة السورية بدورها جعلت من هوية الجماعات العشائرية مكمّلة لها، وقدّمت أنماط حكم من عصور ما قبل الدولة، فضلاً عن الفشل السياسي والإداري في مختلف الجوانب الذي ألقى بظلاله على البلاد وهويتها ووجودها في سوريا، وبالتالي لم يتوفر للسوريين حكومة تعمل على صناعة الأمة السورية، أو خلق بديل عن الهويات العرقية والطائفية والعشائرية، إضافة إلى أنها هويات تشكل رأسمالاً منقذاً في وسائل التحشيد والاستقطاب داخل نظام المحاصصة في الحكم والسلطة.

 فلا تصطدم مؤسسات المعارضة على اختلافها بالعشيرة لكونها الممول المعنوي لفشلها المريع في صناعة الإرادة الوطنية، بل إنهم أبناء اللامشروع، واللامسؤولية في التعامل مع هذه البلاد ومصيرها ومستقبل أجيالها والعشيرة هي الحامي لكل أخطائهم وتجاوزاتهم.

تشهد الجغرافيا السورية وعلى اختلاف مناطق سيطرة سلطات الأمر الواقع انفجار بركان الهويات الفرعية بفعل غياب الدولة الحقيقية وقوى سياسية وعسكرية تفتقد الهوية الوطنية، وفساد ينخر السلطات على اختلافها، فالبلاد أشبه بحالة ما قبل الدولة، إلى حد كبير. ويمكن القول إن الولاءات الهامشية مقارنة بالولاء للوطن والثورة هي ما تلوّن المشهد السوري بطابع الهويات الفرعية التي تعمل كقوة موازية لسلطة المؤسسات الرسمية.

وأن تضخيم السلطة على حساب شرعية قانونية تدير البلاد هي السمة الأبرز عند نظام الأسد وكذلك المعارضة، ومن هذه الناحية كانت الوشائج القبلية هي الشكل التعبيري الأمثل لإسناد السلطة وتضخيمها على حساب البلاد، فسوريا أمام تفاضلات لا عقلانية تتّخذ من الهوية الفرعية اسماً لها، تُجهض أيّة محاولة لبناء دولة المواطنة، وهذا يتطلب تغييراً في تشكيل القوى العسكرية والسياسية على أسس مهنية واحترافية يكون فيها الولاء أولاً وآخراً للدولة التي يصوغ نظامها الشعب، عبر خلق كوادر إدارية عابرة لسلطة الطائفة والقبيلة، وهذا لا يأتي دفعة واحدة بالتأكيد، وإنما عبر عملية إصلاح حقيقية، وإن لم تتوفر هذه الدوافع، فسيبقى حال البلاد تعبيراً واضحاً وجلياً لحالة ما قبل الدولة وأوجاع الشعب في سوريا لا حصر لها، فقد تبعثرت البلاد وكذلك العباد بين الدين والمذهب والعشيرة والحزب والشيخ والدكتاتور، وأصبحت ثورة الشعب في ظل هذه الكيانات مجرد أغنية وشعار وسلّم لاعتلاء كراسي السلطة.

 

المصد: أورينت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى