منذ سقوط نظام صدّام حسين، غرق العراق في بحر التفاهة، فلم تعد بغداد مركزاً لصناعة القرار الإقليمي، ولم يعد للعراق أي فاعلية على المستويات كافة، وفقد حتى قيمته الجيوسياسية صلةَ وصل بين آسيا وأوروبا، فضلاً عن غناه بالنفط. تحوّل، بكل معنى الكلمة، إلى مجرّد محافظة إيرانية طرفية، والفاعلية الوحيدة التي يملكها مشاركته بأفعال إيران الإقليمية، كأن يرسل مليشيات لقتل السوريين تحت رايات دينية، وربما إلى اليمن لمساندة الحوثيين، ولولا ذلك لغاب ذكر العراق عن مسارح الأحداث العالمية، بل أحيانا الموات هو من يعيد الحياة لسيرة العراق، مثل جفاف دجلة والفرات وموت الأهوار.
ما جرى أخيرا شماتة مقتدى الصدر بكارثة ليبيا، ورفع قضايا جنائية على يزيد، يؤشّر بدرجة كبيرة على منسوب التفاهة المرتفع في هذا البلد، فالصدر، والهيئة الحقوقية، هم ليسوا رموزا معينة، بقدر ما هم صُناع حدث وقادة رأي عام، ويملكون مساحات تأثير واسعة على المستويين الشعبي والنخبوي، فكيف تكون مخرجات تفكيرهم بهذه السوية؟ حتى لو افترضنا أنهم يصدرون عن حالة انفعالية، الأول تحت ذكرى تغييب موسى الصدر، والآخرون تحت تأثر أربعينية الحسين، إلا أن المؤثرين، الذين في مكانتهم نفسها، لا ينزلقون إلى هذه المستويات، ولكنها في المجال العام ستبدو مستهجنة إلى أبعد الحدود، والمجال العام متعدّد ومتنوع أكثر من المريدين وحلقات التأييد الضيقة.
في ليبيا، قتل الإعصار الآلاف، لم يعرف بعد العدد النهائي، لم يكن هؤلاء جيشاً ولا مليشيات، من الطبيعي أن يكون أغلبهم من الأطفال والنساء، وجزء منهم من مصر وسورية وفلسطين والسودان، وأغلبهم ليبيون، مؤكّد أنهم لم يسمعوا بموسى الصدر الذي اختفى قبل نحو نصف قرن، فلمَ الشماتة بهم؟ أكثر من ذلك، حافظ الأسد هو من أقنع الصدر بالذهاب إلى ليبيا، بقصد الحصول على مساعدات لحركة أمل، أحد أطراف الحرب اللبنانية، أي أن زيارته ليبيا لم تكن بقصد الحج ولا حتى زيارة الأضرحة بمسجد الصحابة في درنة، بمعنى أنه كان في مهمة سياسية، الهدف منها الحصول على المساعدة في مواجهة القوى المسيحية المنخرطة في الحرب الأهلية اللبنانية… اذهب إلى القذافي، لديه مال كثير، هل كان من الممكن أن تكون نصيحة الأسد غير ذلك؟
أما محاكمة يزيد، فليس المهم هنا السؤال كيف ستجري هذه المحاكمة، وهل سيكون هناك مدّع ومحامي دفاع، بل السؤال حول كيفية تطبيق الحكم الذي سيصدر عن المحاكمة، ومن هي الجهة التي ستتولى تطبيق الحكم؟
هذا النمط من التفاهة مكلف جداً، فهو أولا يبعد العراقيين عن التفكير بشؤون حياتهم، بل حتى عن العيش بحاضرهم وتدبّر شؤون مستقبلهم، والانهماك في قضايا ميّتة لا تفيد ولا تغني. وثانيا، سيتم بناء سياسات مستقبلية على هذه القضايا، وستلزم العراقيين، وخصوصا محاكمة يزيد، الإيفاء بمخرجاتها، إن لم يكن كل العراقيين، فستتطوّع جهات عراقية، تحت عنوان “جهاد الكفاية” تنفيذ مخرجات ما ستصدره المحكمة من قرار بحقّ يزيد، والتنفيذ سيكون على رقاب السوريين، بوصفهم “أحفاد يزيد”، وإذا تبنّى القرار رجال الدين، فسيصبح فتوى لقتل آلاف من “أحفاد يزيد” على طريق تطبيق العدالة، وربما هذا ما يُراد الوصول إليه، والهدف الأساسي من مثل هذه المحاكمة.
من دون دلائل ومحاكمات وفتاوى، ما زالت مليشيات طائفية كثيرة تبطش بالعزّل من السوريين، في دمشق وريفها ودرعا، وحتى في السويداء، وليس على جبهات إدلب، فما بالكم بعد أن يصبح الأمر موثّقا وبحكم من المؤسسة القضائية العراقية! من سيحمي أبناء العراق الآخرين، ما دامت السياسة في خدمة الطائفية، وما دامت الطائفية هي التي تحدّد شكل العلاقات وطبيعتها؟ وأي مناخات يُراد إشاعتها في عراق يفتقد للكهرباء والماء، وصار طاردا لأبنائه وبناته؟
للحقيقة، حاول رئيس الوزراء العراقي السابق، مصطفى الكاظمي، القيام بقطوع مع سياق التفاهة الذي انخرط العراق في مساره منذ عشرين عاما، فقد سعى إلى تفعيل علاقات العراق مع المحيط العربي على أساس المصلحة والتعاون المشترك، وجعل بغداد عاصمة إقليمية للقرار، عبر استضافته مؤتمرات إقليمية ودولية، أدار علاقته مع ايران، بقدر ما يستطيع، بالسياسة والمصالح. كذلك سعى محمد شياع السوداني إلى تبني مشاريع جيوسياسية كبرى، مثل طريق التنمية، كما سعى رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي إلى إخراج العراق من صراعاته الداخلية، جرت محاولات بحدود قدرة هذه الشخصيات. لكن هناك دولة في الظل، هي مصدر ينبوع التفاهة، دولة تسيّرها إيران بدرجة كبيرة، تحاول من خلالها تجريب سياسات عديدة، بعضها ذو طابع عقائدي، مثل الانحراف الجاري في العقيدة الشيعية وتصميم صورة للحسين تشبه المروّيات الفارسية قبل التاريخ، وبعضها ذو طابع سياسي، يتمثل بتجريب السياسات اللاعقلانية ومعرفة إلى أي مدى يمكن السير بها، مثل محاكمة يزيد ربما.
رغم تخبّط صدّام حسين السياسي، إلا أن العراق لم يصل إلى مستوى التفاهة الحاصل، والغريب أن لدى القائمين على صناعة التفاهة في العراق أدوات سياسية وعسكرية يستطيعون من خلالها فرض ما يريدون وقمع ما لا يتوافق مع مسارهم الانحطاطي!
المصدر :العربي الجديد