“الأسد يتذاكى علينا”، هذه خلاصة الموقف الرسمي الأردني، الذي عبرت عنه صحيفة الغد بشفافيةٍ وواقعيةٍ، والواضح أن وزير الخارجية أيمن الصفدي أوصل هذه الخلاصة بصيغ وقوالب غير دبلوماسية إلى النظام السوري. وقد طفح الكيل في الأردن، ولم يعد ممكنا تزويق أفعال نظام الأسد، فعل الأردن ذلك في مرحلة سابقة على أمل دفع نظام الأسد إلى تغيير سلوكه الضارّ بالأردن، أمنيا واجتماعيا واقتصاديا، إلى درجة بات الأردن رأس حربة مشروع تأهيل الأسد عربيا، وتخفيف حدّة العقوبات الاقتصادية. واجه الملك عبد الله الثاني الإدارة الأميركية، وقال للرئيس بايدن شخصيا إن الأردن يتحرّك بواقعية، ولا بد من تغيير المقاربات السابقة التي لم تُنتج أي تقدّم على صعيد حل الأزمة السورية، ولا على صعيد درء المخاطر التي ينتجها نظام الأسد على دول الجوار، لكن يبدو أن سياسة “القفّازات الناعمة” التي حاول الأردن اتّباعها لم تثمر نتائج موازية على أرض الواقع.
المفارقة أن نظام الأسد الذي استفاد من الدور الأردني الذي ساهم في إقناع الأطراف العربية المتردّدة في قبول التطبيع معه يحاول تجاهل طلبات الأردن، والقفز على الدور الأردني، وترتيب علاقاته مع تلك الدول، بل ذهب وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، أبعد من ذلك، في اجتماعات لجنة الاتصال العربية في القاهرة، في التحريض على الأردن واتهامه المملكة بأنها تضغط على نظام الأسد لإجباره على التسليم بشروط الخارج، وحسب صحيفة الأخبار اللبنانية، اتهم المقداد أيضا مصر في إشاعة هذه المناخات المعادية لنظامه.
أدرك الأردن، بعد جولاتٍ معقّدة من التفاوض مع نظام الأسد، أن هذا النظام لا يرغب بالتفاعل الإيجابي مع كل القضايا المطروحة للنقاش مع عمّان، وهي قضايا ليست تفصيلية للأردن، بقدر ما هي في صلب الأمن الأردني، إلى درجة أن استمرارها بدون حلول تشكل مخاطر وجودية على الأردن، مثل قضايا المخدّرات والمياه واللاجئين. وبات الأردن بسببها على بعد خطوات قليلة من حصول أزمات داخلية، كل قضية من هذه القضايا قابلة لتفجير الأوضاع في البلد الذي يقف على تخوم ساحات متفجّرة من فلسطين إلى العراق فسورية.
دقّت صحافة الأردن، وخصوصا المستقلة، ناقوس الخطر، عبر رسائل غير مشفّرة مرسلة إلى نظام الأسد مباشرة، حاولت، في البداية، إيصال حجم الانزعاج الرسمي الأردني من سلوك نظام الأسد وإفهامه أن الكيل طفح، وعليه عدم المراهنة على استمرار قدرة عمّان بالتحمّل، ثم دعت إلى عسكرة الملف السوري، وإخراجه من يد السياسيين، في مؤشّر على أن الأسد لا يعطي أهمية للدبلوماسية، بدليل زيارات الصفدي الخائبة الى دمشق من حيث النتائج، الأمر الذي يوجِب تغيير المقاربة وأدوات التعاطي بما يتناسب والتحدّي الذي يفرضه نظام الأسد على الأردن.
اكتشف الأردن أن حرب نظام الأسد ضدّه تأخذ طابعاً منهجياً تصعيدياً، إذ وبعد أن عدّل الأردن قواعد الاشتباك، عبر التعامل مع مهربي المخدّرات بالنار، عمل نظام الأسد، في المقابل، على تطوير أدوات حربه باستخدام الطائرات المسيّرة لتهريب المخدرات في البداية، ثم الأسلحة والمتفجّرات، ما يعني وجود خطة لضرب الأمن والاستقرار في الأردن عبر أكثر من محور، ومن خلال دمج التهديدات الاجتماعية بالتهديدات الأمنية.
ويبدو أن لعبة الطائرات المسيّرة ليست حدثا عرضيا كما يمكن تصوّرها، ذلك أن النوع الذي يستخدمه النظام، ووفق خبراء عسكريين، لا يمكن أن تراه الرادارات ليلا، لأن بصمته صغيرة جدا، ثم أن حدودا طولها أكثر من 370 كيلومترا سيكون من الصعب على الأردن ضبطها، وقد يحتاج إلى جيوش رديفة من دول الإقليم والحلفاء للسيطرة عليها، أو أن يستنفد قوّة جيشه في استنفار لا يوجد أفق لنهايته، ذلك أن نظام الأسد يبدو أنه يخطّط لحرب طويلة في إطار سياسته عقاب الأردن والدول العربية خلفه التي يتّهمها بالوقوف ضده في الأعوام السابقة.
ما هي خيارات الأردن إزاء نظام الأسد الذي لم تنفع معه جميع الطرق الدبلوماسية التي ارتكزت على قاعدة إغرائه بالانفتاح لدفعه إلى تغيير سياساته والانخراط الإيجابي مع المحيط العربي؟ من الواضح أن الأردن بات يملك بنك أهداف في سورية، سواء لخريطة مصانع الكبتاغون أو التجار والقائمين على هذه التجارة، وحتى أماكن انطلاق الطائرات المسيّرة. وفي المرحلة المقبلة، سيعمد إلى التصرّف بنفسه داخل سورية، على قاعدة أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، إذ إن سياسة القبض على تجّار المخدرات وإسقاط الطائرات المسيّرة داخل الأردن، وإن حقّقت بعض النجاح، إلا أن نظام الأسد استطاع تجاوزها عبر تطوير أدواته، ومن غير المنطقي أن يبقى الأردن تحت رحمة ما تجود به مخيّلة طرفٍ صار محترفا بالإجرام والتخريب.
الخيار الآخر، قد يجد الأردن نفسه مضطرّا له، وقد سبق له أن رفضه، وهو خيار المنطقة العازلة، وقد تكون بمساعدة إقليمية ودولية، خصوصا بعد تغير المعطيات، نتيجة ثورة السويداء وعودة اشتعال مناطق الجنوب، وهو ما يوفّر للأردن بيئة مناسبة للتقدّم بطرح فكرة المنطقة العازلة والحصول على تأييد خارجي، خصوصا وأنه ينطوي على حماية مكوّنات سورية من خطر الإبادة، وحينها سيكون الأسد الذي تفاخر بأن سرّ بقائه في أنه لم يقع في “الفخاخ التي صنعها له الغرب”، في مقابلته مع “سكاي نيوز عربية” قد صنع فخّه بنفسه!
ثمّة تمهيد أردني واضح لتغيير المقاربة والأدوات في التعاطي مع النظام السوري، إذ لا نظام الأسد يريد أن يتعقلن ويكفّ يد الأذى عن جارته، ولا الأردن قادرٌ على الاستمرار في لعبة خطرة باتت تتطوّر بسرعة، وتضعه في قلب الاستنزاف وعلى شفا انهيار على مستويات عديدة.
المصدر: العربي الجديد