لا يمكن مناقشة أوضاع السوريين الذين انخرطوا في سوق العمل داخل تركيا على أنها واحدة، ولا حتى معاناتهم وذلك بسبب التنوع الكبير جداً في طبيعة العمل من جهة، والبيئة الاجتماعية المحيطة للعامل أثناء أوقات العمل أو خارج العمل.
فهناك بيئة ضيقة كما هو الحال لمن يعملون في الزراعة، وهناك بيئة أوسع لمن يعملون في المدن الصناعية والمعامل المتوسطة والكبيرة، وهناك بيئة أكثر اتساعاً لمن يعملون في الأسواق والمحال التجارية وهم الأكثر احتكاكاً بشرائح متعددة من الزبائن من مختلف الأعمار والثقافات.
وهنا تبرز قضية في غاية الأهمية ألا وهي “الاستغلال”، والتي يجب تسليط الضوء عليها لمعرفة ما إذا كان العامل السوري قد تعرض فعلاً للاستغلال من قبل صاحب العمل وما هي أوجه ذلك الاستغلال أم هي مجرد حالات فردية لا يمكن تعميمها والتعاطي معها كظاهرة.
في حين استطاع معظم السوريين الذين انخرطوا في سوق العمل التغلب على عقبة اللغة وأتقنوها بقدر كاف يتيح لهم التعاطي مع الآخرين بشكل أفضل من قبل بكثير، إلّا أن ذلك لم ينه معاناتهم لأنها ببساطة كانت في مكان آخر، فتصريح العمل لم يحظ به سوى القليل ونسبتهم لا تقارن بعدد العاملين بشكل غير قانوني، فهناك من يعمل في ولاية غير الولاية التي استصدر بطاقته “الحماية المؤقتة” منها وهذا بحد ذاته يجعله يعيش قلقاً دائماً من مغبة سحب بطاقة الحماية منه ومن ثم الترحيل، الأمر الذي يدفعه إلى التنازل عن الكثير من حقوقه لرب العمل بما فيها ساعات العمل الطويلة (حتى 12 ساعة) والأجر القليل مع غياب كامل لموضوع التأمين بالنسبة لإصابات العمل أو ما يتعلق بالتعويض المادي حتى في نهاية الخدمة.
لقد اندمج السوريون بشكل جيد في المجتمع التركي، ولكن ظلت القوانين تعاند رغبتهم بالاندماج الحقيقي على الرغم من المشتركات العديدة بين المجتمعين، وهذا يدفعنا للتساؤل عن مدى جدية الدعوات للاندماج مع استمرار العمل بذات القوانين التي تعيق عجلة الاندماج أو في أحسن الأحوال تبطئها.
ولكن المشكلة الحقيقية ليست في العمالة العادية التي لا تتطلب المستوى العالي من المهارة والمهنية الأكاديمية، بل بالشهادات العليا والخبرات الجيدة التي تم تجميدها وهدرها والتي تعد ثروة علمية وتطبيقية في مختلف الميادين، فهناك عشرات الآلاف من الأطباء والمهندسين والحقوقيين الذين فقدوا عملهم في سورية وجاؤوا يحدوهم الأمل بأن يتابعوا العمل باختصاصهم ويضعوا خبراتهم في خدمة المجتمع الجديد، ولكن ذلك لم يحصل واضطر العديد منهم للجلوس في البيت وكأنه أحيل إلى التقاعد وهو في أوج سنّ العطاء (تقاعد مبكرـ قسري)، أو أنه أخذ يبحث عن عمل بعيد كل البعد عن اختصاصه مضطراً كي يواجه تحديات الحياة ومتطلباتها في بلد اللجوء، فكثيراً ما تجد طبيبة تعمل كمعلمة أطفال، أو صيدلانية تدير صالوناً للحلاقة النسائية، أو مهندساً يدير محل بقالة صغير في أحد الحارات، أو محامياً يعمل في التجارة أو الزراعة !.
وتبقى المعاناة الأكثر وقعاً على معظم السوريين بمن فيهم الحاصلين على الجنسية التركية، وهي ماذا عن مستقبلهم في بلد يتصاعد فيه الخطاب العنصري ضدّهم دوناً عن باقي اللاجئين من باقي بلدان العالم؟ و ما هو مصير أولادهم الذين تعلموا في المدارس التركية إذا ما تم ترحيلهم من جديد؟ هل يعود أطفالهم للصفوف المبكرة ليتعلموا لغة ثانية بعد سنوات طويلة قضوها على مقاعد الدراسة يتعلمون التركية على حساب لغتهم الأم؟
أسئلة عديدة تطارد السوريين على مدار الأيام وهم يتابعون التصريحات من هنا وهناك وكأنها جوقة واحدة قد اتفقت على السوري بأنه هو سبب التضخم الاقتصادي والغلاء وتراجع قيمة الليرة، وربما ينسبون إليه مشكلة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد في القطبين.
ذكر الصحفي التركي جنيد اوزدمير: “جاء عدد من الصحفيين الأجانب من أجل تحرير تقارير عن سوء الوضع الاقتصادي والبطالة والتضخم في تركيا، فذهبنا إلى عدة مطاعم لنجلس ونتحدث ولم نتمكن من الحصول على طاولة، فجميعها كانت مليئة بالزبائن على الآخر، فاستغرب الأجانب والتفتوا ليقولوا لي كيف تزعمون وجود مشاكل اقتصادية لديكم وجوع وفقر، بينما المطاعم مليئة؟”
في لقاء أجراه الصحفي اوزدمير مع لاجئ تركي في ألمانيا، يقول فيه اللاجئ: نفس الأخطاء التي حصلت في تركيا بخصوص اللاجئين حصلت في ألمانيا قبل سنة 2000، حين استقبلت ألمانيا موجات كبيرة من اللاجئين الأتراك بدون أي جهوزية، فلا هم اندمجوا مع المجتمع الألماني لأنهم اعتبروا وضعهم مؤقتاً ولا الدولة الألمانية اهتمت باندماجهم لأنها هي الأخرى اعتبرت وضعهم مؤقتاً، ولكن بعد عام 2000 تداركت الأمر وخرجت قوانين نظمت اللجوء وبات الجميع ملزماً بتعلم اللغة والاندماج. ولذلك يجب على تركيا التعامل مع اللاجئين السوريين بمنطق التواجد الدائم وتنظيم اندماجهم بقوانين واضحة وإلا ستكون نفس مشاكل اللاجئين الأتراك في ألمانيا.
المصدر: إشراق