يوم الخميس الماضي قام أنصار بشار الأسد بأحد أسوأ الردود التي يمكن أن يفعلوها على الاحتجاجات الراهنة، فخرجوا بمسيرتَي سيارات في كل من أوتوستراد المزة وساحة الأمويين بدمشق، وكورنيش طرطوس. في وجه الأصوات المتذمرة من الفقر والجوع وغلاء المحروقات، ليس هناك أكثر استفزازاً من أن تتقدّم السيارات السوداء الفارهة هاتين المسيرتين. خاصة وأن تلك التي جرت في العاصمة تمت «برعاية الأستاذ وسيم الأسد» كما كتب مصوروها المحترفون. وهو «رجل أعمال» محدث نعمة، يتهم بأنه جمع ثروة كبيرة مؤخراً من تجارة الكبتاغون المحمية عائلياً.
ليس هناك رد أسوأ من هذا على «الناشطين العلويين» المتكاثرين الذين أخذوا يجرؤون على الظهور في فيديوهات يبثونها من الساحل، ليتهموا آل الأسد والأخرس بالسيطرة على ثروات طائلة كفيلة بحل الأزمة المعيشية الخانقة.
ما تقوله موجة الاعتراض في الساحل، وتؤكده صور المسيرتين بصلافة، هو أن نظام بشار الأسد تحول، بالفعل، إلى طغمة حاكمة تتكون من المستفيدين وكبار المتورطين ومن عتاة الموالين لأسباب عديدة.
جرى وسم النظام بهذا الوصف (طغمة) مراراً خلال سنوات الثورة لكن ذلك كان أقرب إلى المساجلة السياسية. ففي واقع الأمر كانت له قاعدة كبيرة مستعدة لأن تقاتل من أجله وتموت، وقد فعلت ذلك، وشرائح أوسع من الذين لا يؤيدون الحراك ضده، ويرونه أفضل الشرور، أو أمراً واقعاً يجب التعايش معه.
ومن الواضح أن ما يجري الآن هو انفضاض رأي عام واضح من الحاضنة الصلبة، القائمة على عوامل طائفية أساساً، عن «القيادة» التي خيّبت أملها. بالإضافة إلى نفاد صبر الذين نأوا بمحافظتهم/ طائفتهم عن المحرقة في السويداء، ووصول الأغلبية الرمادية، أو نصف الموالية/ نصف المعارضة، في المدن الكبرى إلى القناعة بأن النظام استهلك إمكاناته ولم يعد أمامه إلا الرحيل.
هل سيؤدي هذا إلى سقوط النظام على المدى القريب؟ لا شك أن التنبؤ عسير في هذه الأوقات التي قد تشعل فيها أي شرارة النار. لكن ربما يكون من المفيد ملاحظة ما يلي:
- رغم تصدع القاعدة المتماسكة إلا أنه ما يزال للنظام من الموالين ما يكفي لأغراض الدفاع دون الهجوم. ولا سيما إذا كان الاندفاع العدواني باتجاه محافظة متضامنة كالسويداء، أو باتجاه «الأهل» في الساحل، أو حتى باتجاه مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) حيث يزعم النظام أن مشكلته تكمن، بسبب خروج النفط والسلة الغذائية للبلاد من يده.
- لا يملك المتذمرون في البيئة العلوية جواباً عن السؤال «التاريخي» حول البديل. وإذا كان مواطنوهم قد قبلوا بمناقشة مسألة رحيل بشار الأسد بصورة شبه علنية فإن كثيراً من الاعتراضات ما تزال ثقيلة في الكفة الأخرى؛ كالخوف من انتقام طائفي بعد كل ما سال من دم، وخيبة العودة إلى قبول ما كانوا يرفضونه منذ اثني عشر عاماً ودفعوا لأجله ثمناً فادحاً من «الشهداء» الذين ستذهب تضحياتهم سدى.
- وفي المسألة الأخيرة نلحظ أن هؤلاء «الشهداء» يشغلون ركناً مركزياً في «الاعتراض العلوي». إذ يُتهم الأسد بالاستثمار في أرواحهم للبقاء على الكرسي والتنعم بالثروة بينما يعاني أولادهم ونساؤهم الفاقة. ولا شك في أن هذه النقطة، إضافة إلى نقاط أخرى، جديرة بأن تنبّه الذين ينظرون إلى هذه الاعتراضات بوصفها استئنافاً لثورة عام 2011. فهؤلاء «الشهداء» هم بالضبط من قاتل الثوار.
- وإذا كان هذا لا ينطبق على السويداء فإن على المرء ألا يغفل عن التفريق بين ثوار قدامى من أبناء المحافظة يعبّر عنهم العلم الأخضر، وبين غالبية ترفع العلم الدال على خصوصيتها العصبية وتقدّم مشيخة العقل للمطالب. وليس في ذلك ما يدين، فمن طبع أي جماعة أن تختار رموزها وممثليها ونوع اعتراضها وتوقيته وحدوده. غير أن الشعارات التي تحيّي إدلب يجب ألا تحجب الاختلاف شبه الجذري في سياقات الاحتجاجات العديدة في سوريا.
- من الملاحظ أن الأزمات الحالية تطول «الدولة» وقلما تحفر في عمق النظام. الدولة هشة وآيلة للسقوط، باعتبارها جهازاً تنفيذياً ضخماً يحتاج إلى رواتب ليعيش، وبنزين ليسير، وكهرباء كي لا يعمى. وهذا مهدد بالانهيار. أما النظام فما يزال أقوى من الدولة. وفي حال اضطر إلى التخلي عنها بعد أن احتلها طويلاً، وتركها لسقوطها الحر؛ فإنه يستطيع البقاء كعصابة عارية مكونة من الأمن وبقايا الجيش وأشلاء مؤسسات. لا شك أنه سيتعرض لانكفاء كبير وخلخلة واسعة وسيصبح كائناً هجيناً، لكنه سيحارب للبقاء والبحر من ورائه والقتل أو المحاكم من أمامه. وسيكون عندها «الفصيل» الأقوى في البلاد بعد حكمه الشامل المديد لها، مع احتفاظه ببقايا «شرعية» ما.
- رغم أزماتها من المستبعد أن تبقى إيران في موقف المتفرج، لأن ذلك يعني ضياع كل الاستثمار، بالدم والمال، الذي بذلته في سوريا. لم ترد تصريحات من طهران حول ما يجري في سوريا حتى الآن، لكن ذلك لا يعني أن المرشد مرتاح لسماع صوت تكسّر صورة النظام مثل لوحة رديئة من فلين تحت وطأة الأزمة الخانقة التي يمكن لإيران أن تساهم في تخفيف آثارها عبر قروض أو تسهيلات أو هبات.
- من جهتها لم تقدّم مناطق الشمال، سواء الملونة بالأخضر الخالص أو تلك المقلّمة معه بالأسود، نموذجاً يمكن للثائرين أو المحتجين في أنحاء سوريا النظر إليه بتقدير. ما زال الثوار هناك يخرجون في مظاهرات كثيفة متحمّسة ليحيّيوا متظاهري السويداء و«العلويين الشرفاء»، لكن قوى الأمر الواقع العسكري والسياسي ما تزال تمارس مألوفها من فوضى وقمع وانتهاكات و«انتخابات».
هل يقول ما سبق إنه لا قيمة لما يجري وليست له نتيجة؟ بالطبع لا. لكنه يعني أن ما يحصل خطوة كبرى على طريق سقوط نظام الأسد الذي سيقاوم حتى استنفاد أنفاسه الأخيرة من الحياة، ما لم تحدث مفاجأة سارة!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا