استدعاء أميركي لتأكيد الانتداب للعراق

عوني القلمجي

قبل أكثر من قرن وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني، وعلى وجه التحديد في سنة 1917. حينها قررت بريطانيا الحاق العراق بالتاج البريطاني، فشكلت لهذا الغرض ما سمي بالإدارة المدنية البريطانية، برئاسة السير بيرسي كوكس حتى مايو/ أيار عام 1918، تبعه السير ارنولد ولسون. لكن ثورة العشرين المجيدة اجبرت المحتل على استبدالها بإدارة عراقية، فشكل حكومة برئاسة عبد الرحمن النقيب ثم مجلس امة وكتبت دستورا وصمم علما رفع فوق الدوائر الرسمية، وتجدر الاشارة هنا، الى ان خير من وصف هذا المشهد الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي بقصيدة، تضمنت بيتا بليغا قال فيه: “علم ودستور ومجلس امة ++ كل عن المعنى الصحيح محرف”. وامام رفض العراقيين لهذه الحكومة، كونها حكومة احتلال، ومطالبة المحتل بالرحيل ونيل الاستقلال، لجأت بريطانيا الى ربط العراق بعدد من الاتفاقيات والمعاهدات قبل التفكير باحتمال سحب قواتها المحتلة، او منح العراق نوعا من الاستقلال، منها معاهدة الانتداب عام 1922 ومعاهدة 1925 ومعاهدة عام 1930، وكان اخرها معاهدة بورتسموث عام 1948، التي اسقطها العراقيون، في وثبة كانون الشهيرة.
لقد فعل المحتل الامريكي في العراق ما فعله المحتل البريطاني بالتمام والكمال.  حيث الحق هذا المحتل الجديد العراق بالتاج الامريكي، وعين عليه ادارة امريكية برئاسة الجنرال جي كارنر، ثم حاكما مدنيا اسمه بول بريمر. لكن المقاومة العراقية الباسلة، اجبرت امريكا على التخلي عن حلمها البريطاني، وشكلت مجلس حكم من 25 عميلا ومرتزقا، ثم حكومة مدنية وبرلمانا ودستورا وعلما، لكن هذه التشكيلات هي الاخرى ينطبق عليها وصف شاعرنا، فكل عن المعنى الصحيح محرف. وامام تصاعد عمليات المقاومة العراقية، التي بلغ عددها في شهر واحد، حسب اعتراف الامريكان انفسهم اكثر من الف عملية، لجا المحتل الامريكي الى عقد اتفاقيات مع حكومته العميلة برئاسة نوري المالكي سنة 2007 و2008 و2009 ، كان اهمها على الاطلاق ما سمي بالاتفاقية الامنية. حيث كانت خلاصتها خمسين قاعدة عسكرية امريكية في طول البلاد وعرضها، وأكثر منها مواقع عسكرية للربط فيما بينها، وسيطرة كاملة على الاجواء والمياه الإقليمية، وشركات تدير عمليات الاستثمار، وهيمنة مطلقة على النفط والغاز والثروة، وتواجدا دائما لقوات الاحتلال بصلاحيات مفتوحة، ومهاجمة المدن العراقية وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، واعتقال اي شخص او قتله دون مسائلة قانونية، وحصانة للشركات الامنية، وضمانا لمصالح امريكا الحيوية. اما بنودها السرية فلا

يعلم محتواها سوى الراسخين في علم الاسرار. لكن من المؤكد ليس فيها للعراق جناح بعوضة سوى حماية السلطة الحاكمة. ولم يعد سرا بان العراق لم يشارك في صياغة هذه المعاهدة او مناقشتها، ليوقع عليها غلاما من غلمانه دون ضغط او اكراه. ودعكم من كل ادعاءات المالكي بشأن صعوبة المفاوضات والموقف العراقي الصلب، الذي اوصل المعاهدة الى حد وضعت بداية الطريق لإنهاء الاحتلال.
وفق هذا السياق جرى اجتماع بين مندوب امريكي وممثلين عن الحكومة العراقية يوم أمس، الحادي عشر من حزيران لم يستغرق سوى ساعات، وكانت خلاصته، تأكيد الاتفاقيات السابقة وعلى وجه التحديد الاتفاقية الامنية، او المسماة ايضا باتفاقية الإطار الاستراتيجي. والتي أصبح العراق بموجبها ولاية امريكية وقاعدة عسكرية متقدمة بامتياز. ودعك من الفقرات الاخرى التي تخص اعادة الارشيف السياسي وقطع اثرية وتعاون في مجال الطاقة الى اخر هذه الترهات. اما تسمية هذا الاجتماع السريع بالحوار الاستراتيجي، او المفاوضات بين العراق وامريكا، فهو امر يدعو للسخرية ويستهجنه اي سياسي متابع للشأن العراقي، مهما تدنى مستواه. لسبب بسيط، هو ان المفاوضات تفترض وجود طرفين متكافئين، او على الاقل يتمتعان بالسيادة والقرار المستقل. في حين ان الطرف الاول في هذه “المفاوضات” هي امريكا بصفتها قوة احتلال، والعراق بصفته بلد تحت الاحتلال، او في أحسن الاحوال، بين دولة تعتبر أكبر قوة في التاريخ، وبين بلد وضع في ذيل قائمة البلدان الضعيفة في العالم، بلد فقد اي معلم من معالم الدولة المستقلة، الى درجة اصبحت سيادته منتهكة من جميع الدول المجاورة، بلد تحكمه عصابات مسلحة موالية لدولة اجنبية ومعادية هي إيران. وبالتالي فان هذه الاجتماعات يمكن تسميتها بإملاء شروط القوي على الضعيف. ولا نستبعد ان يخرج علينا مصطفى الكاظمي، معلنا انتصار العراق في هذه المفاوضات، كما فعلها من قبله نوري المالكي.
باختصار ولكي لا نطيل اكثر، فهذه “الاتفاقية الجديدة” ليست سوى تأكيد للاتفاقيات المذلة السابقة، اقتضتها حاجة امريكية لتامين حماية كاملة لقواعدها العسكرية وسفارتها الكبيرة من قبل الحكومة العراقية، جراء قيام بعض المليشيات الولائية بالتعرض لها بالصواريخ والقاذفات خدمة لمصلحة ايران. وقد تمت الاشارة الى هذا الامر في البيان الشكلي الذي صدر عن الاجتماع يوم أمس. اما اذا حدث بقدرة قادر ورفض الولائيون هذا الاتفاق فعلا وليس اعلاميا، فان هذا المحتل الامريكي المجرم، سيرفع كما قيل كارت الحصار الاحمر وارجاع العراق الى الفصل السابع. وهذا ما لم تستطع اية حكومة عراقية تحمله او مواجهته. خاصة في ظل الظروف السيئة التي يعاني منها العراق. ناهيك عن التهديد بإنهاء نشاط التحالف الدولي ضد داعش الذي أصبح جاهزا، او يقف خلف الباب. اما

الحديث عن الضغط الايراني على الحكومة العراقية لرفض الاملاءات وخاصة المضرة بايران، فلقد استعد له ترامب بحزمة عقوبات اقتصادية جديدة لا تتحمل ايران نتائجها الوخيمة. وبهذه المناسبة فان التاريخ لم يسجل فشل الامريكان في اي جلسة تفاوضية في العالم، لا مع الدول الكبرى ولا الصغرى، وليس في ذلك ما يدعو للاستغراب. فأية مفاوضات بين طرفين يحكمها توازن القوى. حيث بموجبه يأخذ القوي ما يريد، ويعطي الضعيف دون حدود. او يحصل على ما يعينه للحفاظ على ماء الوجه.
هذه حقيقة يجب مواجهتها وعدم الاستهانة بها، فتأكيد هذا الاجتماع الشكلي على المعاهدات المذلة السابقة، لا يعني مجرد تكريس لمعاهدة مجحفة بحق طرف لصالح طرف اخر. فالمعاهدة وقد أشرف على تصميمها كبار العقول القانونية والسياسية والعسكرية في الادارة الامريكية وبدقة وعناية فائقتين، تجذر الاحتلال لتحوله استعمارا، او كما قال جون ماكين احد اقطاب الادارة الامريكية الى مائة عام. وبالتالي فان ترامب يسعى في هذا الاجتماع، الى حماية هذه المعاهدات وديمومتها والحيلولة دون اسقاطها من قبل الشعب العراقي الذي تمرس على اسقاط المعاهدات المذلة. مقابل تقديم الدعم للحكومة العراقية في مواجهة الثورة العراقية الواعدة وتصعيد هذه المواجهة بشكل اكثر عنفا ودموية.
قيل منذ زمان، وفي هذا القول حكمة بليغة. ليس عيبا ان يتعرض شعب للاحتلال، ولكن العيب كله ان يقبل به ولا يقاتل من اجل طرده. والعراقيون وثورتهم المباركة قالوا كلمتهم، ليس في الجرائد أو من فنادق ذات خمس نجوم، وانما قالوها في ساحات التحرير، سنحرر العراق ونعيد الوطن المنهوب الى اصحابه الشرعيين. وبالتالي سيمزق هذا الشعب العظيم جميع الاتفاقيات المذلة بقوة الثوار وليس بالمفاوضات المذلة. فهل ستتمكن امريكا “بجلالة قدرها” الزام الحكومة المقبلة، التي سأسميها حكومة التحرير، بتطبيق بنود هذه المعاهدة او تلك؟ ام ان لحكومة التحرير قوانينها المشروعة في الدفاع عن استقلال العراق وسيادته ووحدة اراضيه والحفاظ على مصالح شعبه؟ وهل هناك مهمة عاجلة لحكومة التحرير اهم من تمزيق كل المعاهدات والاتفاقات ومذكرات التفاهم والدستور الذي قسم البلاد والعباد؟. واذا وظفت امريكا الامم المتحدة والقانون الدولي لشرعنة المعاهدة والاشراف على تطبيقها، فان حكومة الثورة لقادرة على الدفاع عن مصالح الشعب العراقي وهزيمة كل قوة غازية او معتدية، سواء تحت خيمة الامم المتحدة او تحت اي خيمة اخرى. فمثلما يتضمن القانون الدولي حماية المعاهدات الدولية، فانه يتضمن ايضا عدم الاعتراف بالمعاهدات التي توقعها الاطراف التي تفتقد السيادية والاهلية. وهل هناك حكومة فقدت سيادتها واهليتها اكثر من حكومة الاحتلال في العراق؟
اذا هي معركة بين محتل ومشاريعه العدوانية، وشعب خلفه ثورة عملاقة مشروعها تحرير العراق واستعادة استقلاله وسيادته ووحدة اراضيه، انها معركة ليست كبقية المعارك، انها المعركة الفاصلة، معركة لا منطقة رمادية فيها، فإما مع الاحتلال او ضده، معركة لا مساومة فيها ولا مبادرات لإخراج المحتل بماء الوجه، وانما معركة لإخراج المحتل بسواد الوجه، معركة لا مكان فيها للانتهازين وتجار السياسة، معركة شعارها لا صلح لا هدنة لا مفاوضات مع المحتل قبل ان يعلن انسحابه دون قيد او شرط ويتحمل كافة النتائج الكارثية التي ترتبت على جريمة الاحتلال. هذه ليست شعارات سياسية جوفاء، او كما يصفها الانهزاميون بانها لغة عفا عليها الزمن واصبحت بالية، وانما هي حقيقة موجودة على الارض. فالثورة العراقية جعلت من كل عراقي ثورة بحد ذاته. وبالتالي لا خطر ممن تعاهد على الباطل وسرق بلدا بأكمله، مادام ثوار العراق قد تعاهدوا على الحق. وهل هناك أدنى شك في قوله تعالى، وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا.؟

المصدر: المدار نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى