حين (مات الديكتاتور)

حسن النيفي

لعلّها من الحالات النادرة جدّاً في تاريخ سجن تدمر، أن يجرؤ أحد السجانين على إبداء أيّ نوع من أنواع التعاطف أو الانحياز في المشاعر حيال أيّ معتقل، بل على العكس من ذلك تماماً، كلّما أوغل السجّان في عنفه وجلافته ووحشيته في معاملة المعتقلين، كان أكثر حظوةً لدى رؤسائه أو القائمين عليه، بل يصحّ الذهاب إلى أن السبيل الأمثل لإثبات حُسْن السلوك ومصداقية الولاء للسلطة هو ساديّة مضاعفة، لا يحلو للسجان فقط تقمّصها، بل لعناصر المخابرات السورية بشكل عام. إلّا أن هذه السمة الناظمة لسلوك الجلّادين والسجّانين وجميع عناصر الشرطة العسكرية في سجن تدمر، نادراً ما تعرّضت لخروقات معدودة جدّاً، ومع ذلك، يحرص أصحاب هذه الخروقات – مع ندرتها – على الحيطة والحذر الشديدين، كما يحرصون على أن يبقى التلميح ورمزية الإشارة هما السبيل لإيصال شعورهم، دون اللجوء إلى أي شكل من أشكال التصريح.

كانت إحدى أبرز هذه الخروقات يوم العاشر من حزيران عام 2000، الساعة الرابعة عصراً، حين خبط أحد عناصر الشرطة بقدمه على حافة فتحة السقف (الشرّاقة) صائحاً:

ولاه رئيس المهجع

أمرك حضرة الرقيب أول، صاح رئيس المهجع، مع خبطة قوية بالقدم على الأرض، مع الوقوف باستعداد منكّس الرأس للأسفل.

ولاه في واحد عندكن شخر.

سيدي النوم ممنوع بالنهار، والجميع ملتزم بالتعليمات، والله يا سيدي ما في حدا نايم.

ولاه حيوان، عم قلّك في واحد شخر، أنت جحش ما تفهم ولاه. ومشى الشرطي في سبيله.

لم يكترث أحد من السجناء لما قاله الشرطي، بل الجميع ظن أنها عملية تحرّش (كما هي العادة) من الشرطة حين يريدون معاقبة السجناء. في الخامسة قبل غروب الشمس، أي قبل موعد النوم الإجباري بساعة، ازدادت حركة السجناء داخل المهجع، منهم من يصطف ضمن الطابور للدخول إلى دورة المياه، ومنهم من يحاول أن يأخذ مكانه للنوم، متفقّداً عصبة عينيه ( الطمّاشة) التي ينبغي أن تكون محكَمةً على العينين لحظة أن يصيح رئيس المهجع: الجميع نيام.

لم يطغَ على أصوات الجلبة المنبعثة من المهجع في تلك الساعة سوى أصوات مكبرات الصوت التي انطلقت من مساجد مدينة تدمر دفعةً واحدة، تلاوة آيات من القرآن الكريم ولا شيء سواها، استمرّت لمدّة ساعتين ثم توقفت، تلتْها حركة أقدام تتراكض مسرعةً داخل السجن، وأصوات للشرطة غير واضحة، فضلاً عن عدم اقتراب السجانين من شراقات المهاجع، على غير عادتهم. هذه الحركة المضطربة داخل السجن دفعت بعض السجناء – ممّن ينامون في أماكن منزوية لا يراها السجان من فتحة السقف – إلى التلصّص من شقوق الباب الصغيرة، لاستيضاح ما يجري، ولكنهم لا يستطيعون الكلام، لأن الجميع في وضعية النوم، وفي الوقت ذاته لا أحد نائم، بل الجميع مصلوب كالنائم، ولسان حاله يقول: ما الذي يجري هذا المساء في السجن؟

استطاع أحد السجناء ممّن تلصصوا من شقوق الباب، وفي الدقائق التي يجري فيها تبادل نوبات الحراسة بين الشرطة، أن يوصل للسجناء المصلوبين كالنيام جملة مختصرة تلخّص مجمل ما رأى: (جميع الشرطة والرقباء والمساعدين باللباس الميداني الكامل، بما في ذلك الخوذة والسلاح، وجميعهم يتحرك مضطرباً لا يعلم ماذا يفعل)، ثم ترك لهذه المعلومة مداها الكافي لدى السجناء، ليشبعوها تأويلاً وتفسيراً، كلّاً على حدة، ريثما تحين ساعة الاستيقاظ، لتتداخل التأويلات وتشتجر التفسيرات.

في السادسة إلّا عشر دقائق صباحاً، وفي الوقت الذي ينتظر فيه السجناء صيحة رئيس المهجع (استيقاظ) لينهضوا ويحرّكوا ظهورهم وأجنابهم المتخشّبة طيلة اثنتي عشرة ساعة من الالتصاق بالأرض، بدأت مكبرات الصوت من جديد، تنطلق منها تلاوة القرآن، ولم تمض دقائق، حتى توقفت جميعها، وانطلق من إحداها صوت شديد القوة والوضوح: (على جميع العسكريين في مدينة تدمر التوجّه نحو الساحة العامة، للمشاركة في مسيرة حداد على فقيد الوطن والأمة الرئيس حافظ الأسد).

ربما هذا البلاغ الصريح والواضح هو ما جعل جميع السجناء في تلك اللحظة يستعيدون في أذهانهم، ما فهموه على أنه مجرّد تحرّش من أحد أفراد الشرطة، حين قال لرئيس المهجع: (في واحد شخر).

واقع الحال آنذاك يشهد على أن ردّات فعل السجناء على موت الأسد (الأب) كانت لا تخلو من التناقضات الممزوجة بالاضطراب والذهول، لعلّ أبرز ردّات الفعل هي لجوء البعض إلى السجود الممزوج بالدموع السخيّة، تعبيراً عن الشكر لله، في حين ركن البعض الآخر خائفاً، متوقّعاً ردّة فعل انتقامية يقوم بها السجانون، وما عزّز هذا التخوف هو تعذيب جماعي انتقامي نفّذته إدارة السجن بحق السجناء ليلة مات الخميني ( 3 حزيران 1989 )، بينما اعتقد قسم آخر من السجناء، أن ردّة فعل السلطة ستكون مقرونة بطبيعة الشخص البديل عن الأسد، ومدى توجهاته السياسية الجديدة، إلّا أن الهاجس الذي لا يغيب عن جميع ردّات الفعل هذه، هو حالة الانتعاش التي بدأت تتغلغل في جميع النفوس، كما يتغلغل الماء في شقوق الأرض العطشى، إذ إن كثيرا من السجناء – آنذاك – قد شارف على إتمام عقدين من عمره في السجن، فضلاً عن أن استمرار التعذيب الممنهج داخل سجن تدمر، قد جعل الإحباط واليأس طبقات تزداد تراكماً في النفوس كلما تقدّم الزمن، أمّا وقد مات الذي – لشدّة بطشه وجبروته – ظنّه البعض بأنه لن يموت، فتلك لحظة جديرة بأن تفجّر ينابيع الأمل في يباس القلوب طيلة ستة أيام متتالية، وفي اليوم السابع، أي صباح السابع عشر من حزيران، تعمّدت إدارة السجن إدخال عدد من جريدة البعث إلى كل مهجع، ذاك العدد الذي يحمل في صفحاته خبر توريث الحكم لبشار الأسد في سوريا، إذ إنه كان خبراً صادماً، إلى درجة جعلت البعض يقول: ليتنا لم نُخبر بموت حافظ الأسد، حتى لا نُحبطَ بتوريث ابنه بشار، مضيفاً: لن يتبقى لدينا من العمر ما يكفي لموت بشار وتوريث حافظ الحفيد، بينما احتفظ البعض الآخر بشيء من تفاؤله، مُرجّحاً أن الأمور لن تبقى على ما هي عليه، وقد عزز من تفاؤل أصحاب هذا المنحى، مجيء لجنة أمنية من كبار ضباط المخابرات إلى سجن تدمر مساء ليلة السابع عشر من حزيران ذاتها، من هذه اللجنة ضابطان مشهوران( اللواء هشام الاختيار الذي قُتل في حادث تفجير خلية الأزمة عام 2012 ، واللواء حسن خليل)، حيث قابلت اللجنة الأمنية معظم سجناء تدمر على مدى يومين، مؤكِّدةً للجميع أن سوريا في عهد بشار ستكون جديدة، وعلى الجميع نسيان ما مضى، ولكن كيف؟ وما الذي سيتغيّر؟ لا أحد يدري، إلى أن جاء يوم 16 تشرين الثاني عام 2000، إذ أفرج بشار الأسد عن (600) معتقل فقط، من ضمن آلاف المعتقلين، مُسَجّلاً في تاريخه الجديد أول (مكرمة) تجاه خصوم أبيه.

وقد قيل فيما بعد: إن الفترة الممتدة من موت الرئيس في العاشر من حزيران، وحتى تشرين الثاني من العام نفسه، هي الفترة ذاتها التي شهدت صراعاً بين ما يسمى بالحرس القديم والجديد، وقد حسمها محاربو النظام القدماء لصالح توجهاتهم باستمرار النهج الأمني الذي نهضت عليه دولة الأسد.

يمكن التأكيد على أن التاريخ الدموي لسجن تدمر، على امتداد واحد وعشرين عاماً، قد شهد حادثتين فقط، استطاعتا أن تخترقا جدار البؤس النفسي للسجناء، وتُدخِلا أشعة الأمل والبهجة إلى نفوسهم، الأولى كانت بموت حافظ الأسد، وقد تشظّت هذه البهجة بتوريث ابنه. والثانية هي يوم 27 تموز من العام 2001، حين تقرّر إخلاء سجنيْ تدمر والمزة، وتحويل جميع المعتقلين إلى سجن صيدنايا، ولتلك الحادثة قصة أخرى.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى