لا يختلف اثنان على السياسات المتعمدة، التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال الأمريكي، لتدمير الاقتصاد العراقي، كجزء من مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا. خاصة في قطاع الإنتاج الصناعي والزراعي. مثلما لا يختلف اثنان على عدم وجود اية بارقة امل، تلوح في الأفق لإصلاح الوضع الاقتصادي، لا على يد السوداني ولا على يد من يخلفه. لأسباب عديدة تحدث عنها خبراء عراقيون وأجانب ومعاهد مختصة.
فعلي سبيل المثال لا الحصر، قالت الخبيرة في شؤون الاقتصاد والأعمال ببغداد، سلام سميسم، للعربي الجديد”، أن “سوء الإدارة في العراق وإهمال مطالب الناس، أديا إلى ضياع عشرات مليارات الدولارات، ولا تزال عملية الضياع مستمرة، طالما أن الجهات الرقابية بيد الأحزاب نفسها، وأن العراق خسر أموالا كبيرة، كانت مخصصة للمشاريع الخدمية وأخرى متعلقة بالطاقة، وبناء المدارس والمستشفيات وتأهيل البنى التحتية، لكنها ذهبت إلى جيوب الفاسدين”.
اما المعاهد المختصة، فقد ذهبت ابعد من ذلك. حيث وضعت اليد على الأسباب الأكثر أهمية، التي تقف وراء التردي الاقتصادي بكل جوانبه في العراق. فمعهد الاقتصاد العالمي في نيويورك يذكر الفوضى السياسية المنظمة في العراق، التي انعكست نتائجها بشكلٍ مباشر على كافة الجوانب والقطاعات، في “الدولة العراقية”. حيث ساهمت هذه الفوضى في تبديد الثروة الوطنية، وغياب تام للخطط والبرامج الاقتصادية والتنموية الحقيقية”. في حين “شكل غياب الامن والاستقرار، وتحكم المليشيات المسلحة، عائقا كبيرا امام استثمار رؤوس الأموال المحلية من جهة، واستثمار رؤوس الأموال العربية والأجنبية من جهة أخرى”. اما مؤشر معهد الاقتصاد والسلام الذي يقيس مستوى الاستقرار في دول العالم المختلفة، فقد وضع العراق تحت رقم 161 من أصل 170 دولة، في حين احتل جنوب السودان وأفغانستان وسوريا الترتيب 162 و163، 164 على التوالي.
هناك أيضا انتشار الفساد المالي والإداري في جميع مؤسسات الدولة العراقية، والذي يعتبر عائقا كبيرا امام الإصلاح، وقد اكدت هذه الظاهرة في العراق، منظمة الشفافية العالمية، التي تقيس نسبة مستوى الفساد في القطاع العام سنويا. حيث ذكرت ان العراق احتل، خلال السنوات الست الأخيرة، الترتيب 169 من أصل 180 دولة. وأضافت هذه المنظمة في تقريرها السنوي الأخير، بان اسوأ الدول أداء على مؤشر الفساد العالمي كانت، كل من العراق وليبيا والصومال والسودان وسوريا واليمن.
ويذكر تقرير اخر لمعهد السلام العالمي، ان عدم الشعور بحدوث استقرار في أي بلد، او تحقيق الامن في ظل الحكومات الفاسدة وأجهزتها المختلفة، يؤدي الى تراجع الاستثمار في رأس المال المادي والبشري، وتدمير الطاقات الإنتاجية. وهذا بدوره يؤدي، كما يقول التقرير، الى زيادة حالة الفقر والعاطلين عن العمل، وخاصة في صفوف الشباب. وقد أكد على هذه الحقيقة الناطق الرسمي لوزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي قبل عدة ايام، بالإشارة الى ان نسبة الفقر في العراق بلغت 22 %، وان نسبة العاطلين عن العمل قد تجاوزت 30 %. وحسب تصريح محمد شياع السوداني الذي جاء متزامنا مع تصريح الهنداوي قبل عدة أيام، ان هذه النسبة تشمل غالبية الشباب في العراق، حيث قال انها بلغت 60% من عدد سكان العراق.
ما معنى ان نذكر الحقائق ونتجاهلها في التطبيق العملي. فالسوداني وهو لا يدير دولة، بل مصالح فئة من الفاسدين، نحى جانبا مشروع الإصلاح الذي تعهد به، ليقتصر عمله على استعراض سياسي اجوف، والقيام بجولات تفتيشية لهذه الوزارة او تلك، او القيام بزيارة عدد من المحافظات، وزيارات خارجية لبعض الدول العربية والأجنبية، والتي لم ينتج عنها سوى تصريحات ملتوية، او عقد تفاهمات مع هذه الدولة او تلك، حول مشاريع غير محددة او تفاهمات لا معنى لها. اما خططه الاقتصادية، ودعم قطاع الزراعة والصناعة، فقد تم حذفها من قاموسه الإصلاحي المفبرك.
لقد كانت فضيحة السوداني مدوية. حيث ابتكر هؤلاء الأشرار الذين نصبوه دمية عرائس في مسرح ايل للسقوط، ميزانية فريدة من نوعها في العالم، شملت ثلاثة سنوات، تبين خلالها مدى إصرارهم على سرقة المال العام بوضح النهار. بدليل الخلافات التي استمرت شهورا وعطلت إقرار الميزانية، لأسباب معروفة جدا، تتعلق بتوزيع الحصص. وعلى الرغم من مرور أكثر من شهرين على إقرارها، فان السوداني لم يتمكن، لحد يومنا الحاضر، من إطلاق سراح الأموال المخصصة في الموازنة للوزارات ومجالس المحافظات والمؤسسات الأخرى. بسب اجراء بعض التعديلات لتجنب الفضيحة.
على ارض الواقع، فان التدهور الاقتصادي في العراق والقضاء على الإنتاج الصناعي والزراعي، جعل العراق المستورد رقم واحد في العالم، للبضائع كافة، بما فيها المنتجات الغذائية، لتستولي إيران وتركيا على حصة الأسد، فقد تجاوزت قيمة صادراتهما الى العراق عشرات المليارات من الدولارات سنويا. بل حتى الأردن التي تتلقى مساعدات من العراق تصدر له بضائع بمقدار 300 مليون دولار سنويا.
ما حدث لا يدعو الى الاستغراب. فهذه الحكومات المتعاقبة قد قامت بتنفيذ مخطط تدمير العراق بوعيها الكامل، وليس كما يروج البعض، بانها حكومات ساذجة او تنقصها الخبرة في الإدارة، لتبرير جرائمها وفسادها. وقد كشف المحتل وحكوماته المتعاقبة في العراق عن هذا المخطط الغادر دون حياء او خجل. فبعد اسقاط النظام، قام المحتل بحل الجيش والشرطة والاجهزة الأمنية، وتدمير البنى التحتية وقتل العلماء، وتصفير ما تبقى من الدولة، لمنع اية محاولة لإعادة هيكلتها واقامة مؤسساتها وبناها التحتية، بالقدر الذي يوفر للمواطنين حياة كريمة، او على الاقل توفير ابسط مقومات الحياة، كالكهرباء والماء والدواء، حالها حال العديد من الدول التي ترزح تحت الاحتلال.
دعونا نتابع هذا المخطط، والادوار التي أوكلت لهؤلاء الاشرار. فعلى سبيل المثال، قامت حكومة اياد علاوي المؤقتة، بدور جسر عبور لقوات الاحتلال للدخول الى المدن العراقية المقاومة، وهدمها على رؤوس ساكنيها، مثل مدينة الفلوجة والرمادي وصلاح الدين وديالى. بينما تعهدت حكومة ابراهيم الجعفري بإشعال نار الطائفية. في حين عقد نوري المالكي في ولايته الاولى، معاهدات الذل والعار مع المحتل الامريكي، وفي ولايته الثانية ادخل تنظيم داعش الارهابي الاجرامي ليحتل ثلث مساحة العراق. اما حكومة حيدر العبادي، فقد اخذت على عاتقها تدمير المدن، مثل الموصل والفلوجة والرمادي وصلاح الدين، تحت ذريعة طرد تنظيم داعش من هذه المدن. ولم تكن حكومة عادل عبد المهدي اقل سوءا، بل على العكس تماما. حيث لم يتورع عبد المهدي بقتل ثوار تشرين على يد اجهزته القمعية والمليشيات المسلحة والحرس الثوري الايراني. ليعقبه مصطفى الكاظمي الذي حارب ثوار تشرين بطريقة ناعمة.
لقد نجح هؤلاء الأشرار بتنفيذ مخطط أمريكا وحلفائها في المنطقة بتدمير العراق دولة ومجتمعا. ويعتبر العراق الان، بالإضافة الى الانهيار الاقتصادي وغياب الاستقرار والامن والقانون وتحكم المليشيات المسلحة، دولة فاشلة بامتياز. حيث تم تجاهل مبدا المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وكثرت الشروخ والصدوع في النظام القيمي والأخلاقي، وتعطل القانون وتهدمت البنى التحتية وفقدت الخدمات، بالمقابل تمت مصادرة الحريات بالسجن والترهيب والتعذيب والقتل، والقائمة بهذا الخصوص طويلة ومؤلمة.
ان وصول هؤلاء الأشرار الى هذا المستنقع، لم يمنعهم من التمسك بالسلطة والإصرار على إيجاد المبررات الواهية. وذلك بالعزف على مقولات جاهزة لتبرير جريمتهم، منها كثرة المؤامرات على العراق الجديد، او وجود الإرهاب الذي تقوده داعش او محاولات حزب البعث للعودة الى الحكم، وكلها لا تعادل ما تعرض له العراق من دمار شامل ابتداء بعاصفة الصحراء عام 1991، وليس انتهاء بالحصار الجائر الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا.
ومع ذلك، فقد تمكن النظام، من إعادة الكهرباء والماء ووسائل الاتصال ومواصلة الإنتاج عبر مئات المصانع، سواء في المجال الصناعي او الزراعي. فعلى سبيل المثال، هناك مصانع انتاج الغاز الطبيعي والغاز المسال والاسمدة الكيماوية والمنظفات والورق والزجاج والأدوية، وصناعة مواد البناء كالطابوق والاسمنت والحديد والصناعات الكهربائية على اختلاف انواعها. والصناعات النسيجية والجلدية. إضافة الى عدد كبير من مصانع الكبريت والفوسفات والمنتجات النفطية والتكرير والبتروكيمياويات وغيرها. اما المنتجات الغذائية فقد تمثلت في انتاج الالبان والزيوت النباتية وصناعة السكر والتعليب والمشروبات، وغيرها. وبدل الاستفادة منها وتطوريها، قام هؤلاء الأشرار، وعلى رؤوس الاشهاد، بتدمير هذه المصانع، ومنها مصفى بيجي العملاق وتفكيكه قطعا منفصلة عن بعضها وبيعها بثمن بخس. وهذا المصنع كان ينتج حتى اليوم الأخير من حكم النظام 300 ألف برميل نفط مكرر و15 مليون طن منتجات نفطية مختلفة.
لا نمل من التكرار، بان الحل في العراق وانقاذه من براثن المحتلين ووضع عملائهم في المنطقة الخضراء وكل من شارك في تدمير العراق خلف القضبان، يتمثل في طريق واحد، وهو الثورة الشعبية التي وضع ثوار تشرين قواعدها. هذا التفاؤل تسنده كل تجارب التاريخ التي تقول، ان الغزاة وحكوماتهم العميلة لا ينتصرون، وان جرائم هؤلاء الاشرار تنقلب عليهم اجلا او عاجلا. او كما يقول المثل العراقي الدارج ” اللي يأكله العنز يطلعه الدباغ”. وانطلاقا من هذه الرؤية التي لا تحتاج الكثير من الجدل، فان هذه الثورة العظيمة ستنتصر. لقد أثبت الشعب العراقي، بالتضحيات الجسيمة التي قدمها على طريق التحرر والتقدم، انه شعب حر لا ينام على ضيم ولا يموت له ثار ولا يهاب الموت وكرامته لا تهان ولا تذل والموت دونها ارحم.