إلى أين تتجه الأوضاع في منطقة إدلب؟ هل كانت عملية النيرب بداية هجوم تركي شامل، هدد به الرئيس التركي، أردوغان، النظام السوري، في حال لم تتراجع قوات الأخير المدعومة من روسيا وإيران إلى المواقع المتفق عليها قبل نهاية شهر فبراير/ شباط الجاري؟ أم أنها كان مجرد عملية استطلاعية، الغاية منها سبر النوايا، ومعرفة ردود فعل روسيا؟ هل سيكون الصراع على إدلب نقطة الافتراق بين الروس والأتراك، وعودة الدفء إلى العلاقات التركية الأميركية؟
هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، يطرحها اليوم المهتمون بالشأن السوري، والمتابعون لتطورات الصراع الإقليمي- الدولي ومستجداته على سورية، فتركيا التي كانت طرفاً أساسياً، منذ البدايات، في لقاءات وتوافقات أستانة وسوتشي، إلى جانب إيران وروسيا، وهي لقاءات كانت تتمحور حول توزيع مناطق النفوذ في سورية بين الدول المعنية، وبعيدا عن إرادة السوريين، بل أيضا عن معرفتهم. وقد تمكّنت تركيا، بفعل تلك الاتفاقيات، من دخول مناطق جرابلس وأعزاز والباب وعفرين وتل أبيض ورأس العين، وغيرها من المناطق التي شملتها عمليات: “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام” مقابل سيطرة النظام، بدعم روسي وإيراني، على مناطق حمص وحلب ودرعا وريف دمشق وريف حماة الشمالي ومناطق واسعة في محافظة إدلب نفسها. ويبدو الآن أن هناك خلافا روسيا – تركيا بشأن تفسير اتفاقيات سوتشي، العلنية منها والسرية، فبينما تدعم روسيا فكرة سيطرة النظام على كامل محافظة إدلب، وهي تتدخل بكل قوتها إلى جانب القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها، من أجل السيطرة على كامل محافظة إدلب باسم النظام. ترى تركيا أن نقاط المراقبة هي الحدود الفاصلة التي لا بد أن تتوقف عندها قوات النظام.
وحتى الآن، لم يتمكّن الطرفان، على الرغم من الزيارات المكوكية المتبادلة التي قامت بها الوفود السياسية والعسكرية – الاستخباراتية، من الوصول إلى اتفاق، على الرغم من كل تلك اللقاءات، بما فيها اللقاء الذي تم وأعلن عنه في موسكو في 13 يناير/ كانون الثاني 2020 بين رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان، ومدير مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك، بالإضافة إلى الاتصالات الهاتفية المستمرة بين الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بوتين.
واللافت في هذه اللوحة مطالبة تركيا حلف شمال الأطلسي (الناتو) بدعمها بمنظومة الباتريوت، في إجراء استباقي من أجل الاستعداد لاحتمالات تدخل الطيران، سواء الروسي أو التابع للنظام. وهذا بحد ذاته يشير إلى حجم التباينات وجدّيتها بين الجانبين، الروسي والتركي، وهي التباينات التي برزت نتيجة اختلاف الحسابات في المعادلة الإدلبية إذا صحّ التعبير؛ وذلك بناء على اعتبارات استراتيجية تتصل، من جانب الروس، بتأمين منطقة الساحل وقاعدة حميميم. وبالنسبة إلى الإيرانيين، هم يتطلعون نحو تثبيت مشروعهم التوسعي عبر استغلال التنوع والتداخل المذهبيين في المنطقة، الأمر الذي تتحسّب له تركيا أيضا، وذلك لانعكاساته المستقبلية على داخلها.
تعاني الحكومة التركية راهناً من جملة ضغوط، في مقدمتها التي يمارسها رفاق الأمس على الرئيس التركي. كما أن أحزاب المعارضة تمارس الضغط عبر الانتقادات الحادّة لسياسة الحكومة التركية في الملف السوري. كما أن العلاقات الفاترة جداً بين تركيا والسعودية تحول دون تشكل موقف إقليمي قوي متماسك، كان من شأنه ممارسة ضغط مؤثّر على النظام ورعاته، الأمر الذي كان من شأنه التخفيف بعض الشيء من محنة السوريين.
وفي سبيل ممارسة مزيد من الضغوط على أردوغان، دعا بوتين إلى اجتماع ثلاثي في طهران للتباحث في موضوع إدلب، بهدف الوصول إلى توافق ما، لن يكون، في جميع الأحوال، في مصلحة سكان المنطقة والسوريين على وجه العموم؛ ولكنه سيكون موائماً لحسابات أطراف التوافق المشار إليه. وهي حساباتٌ غالباً ما تأخذ المصالح العارية بعين الاعتبار، ومن دون أي احترام أو مراعاة لحقوق الإنسان، وتطلعات الشعوب، وهذا ما يؤكد وجود خللٍ بنيويٍّ كبير يعاني منه النظام العالمي المتمثل في الأنظمة والآليات التي تعمل بموجبها منظمة الأمم المتحدة، خصوصا مجلس الأمن الدولي الذي لم يتمكن، وبعد مرور نحو تسعة أعوام، على استمرارية الجرح السوري النازف، من وضع خريطة طريق ملزمة لمعالجة الموضوع، كما لم يتمكّن المجلس المعني من اتخاذ موقف حازم رادع من نظامٍ قصف على مدى أعوام المدن والبلدات السورية بكل أنواع الأسلحة، بما فيها الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة.
في هذه الأجواء، أكد الرئيس أردوغان موعد اللقاء الرباعي الذي سيجمع رؤساء تركيا وروسيا وفرنسا والمستشارة الألمانية في إسطنبول في الخامس من الشهر المقبل (مارس/ آذار)، بهدف الوصول إلى حل سياسي، يقطع الطريق على مزيد من التصعيد، ويقلّل من احتمالات المواجهة بين القوات التركية وقوات النظام؛ لأن أية مواجهة من هذا القبيل إنما هي مواجهة بين تركيا وروسيا التي تدعم النظام عسكرياً، وتغطيه سياسياً؛ وهذا مؤدّاه مواجهة بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) وروسيا، وهو الأمر الذي يتحاشاه الأوروبيون، خصوصا فرنسا وألمانيا، وذلك في ظل واقع برودة العلاقات بينهم وبين إدارة ترامب، والرغبة الأوروبية في تحقيق صيغة من التقارب مع الروس، بهدف إبعاد الاتحاد الأوروبي عن مخاطر جدّية، وتبعات مكلفة.
من جهة أخرى، يتحسّب الأوروبيون لاحتمالية موجة جديدة من اللاجئين، وانعكاساتها السلبية الكبيرة على الواقع الداخلي، خصوصا في مناخات تصاعد النزعات الشعبوية، واليمينية المتطرّفة التي ترفع شعاراتٍ معاديةً للأجانب.
واستناداً إلى التصريحات المتبادلة من الروس والأتراك، فضلاً عن تلك التي صرح بها مسؤولون أميركان عديدون؛ وما يُستشف من التحرّكات الجارية على الأرض، خصوصا من جهة الحشود التركية غير المسبوقة التي دخلت إلى منطقة إدلب، فإن المتوقع من اجتماع إسطنبول الرباعي هو الوصول إلى حل آني، يثبت حدود مناطق النفوذ المستجدة، على أن تبقى إدلب المدينة، والمناطق المتاخمة للحدود التركية، منطقة خاضعة للنفوذ التركي، ويحتفظ الروس والنظام بالمناطق الأخرى التي تقدّموا فيها، مع تعديلات هنا وهناك، وبما يعزّز سيطرة الروس من خلال واجهة النظام على الطرق الدولية التي تربط بين المدن السورية الأساسية.
أما مشكلة المهجّرين، فليس مستبعدا أن تُعتمد حلول وقتية بمساعدة أوروبية؛ ولكن مثل هذه الحلول تظل عديمة الجدوى بالنسبة إلى السوريين، بل تهدّد بتقسيم بلادهم بناء على إرادات الآخرين، خصوصا أنها تأتي بعد عمليات تغيير ديمغرافية لم تعد خافية الأهداف والنتائج على الأرض.
الحل السياسي الشامل يبقى الحل المطلوب؛ ولكنه يستوجب وجود إرادة دولية فاعلة قادرة على التأثير، بناء على التوافقات والقرارات الدولية، خصوصا بيان “جنيف 1” في 30 يونيو/ حزيران 2012، وقرار مجلس الأمن الدولي 2254 ، في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2015. ولكن من الواضح أن الروس يستغلون الوقت والظروف، فالأميركان مشغولون بخلافاتهم وانتخاباتهم الداخلية، والأوروبيون ما زالوا تحت تأثيرات صدمة خروج بريطانيا، ويعانون من تصاعد النزعات المتطرّفة. هذا في حين أن الموقف العربي شبه غائب عن الساحة.
وتركيا أردوغان تعاني من جملة صعوبات داخلية وإقليمية ودولية، تتطلب إعادة ترتيب الأولويات، والعمل الجاد في ميدان البحث عن الحلول. وفي مقدمة تلك الحلول العودة إلى العملية السلمية من أجل إيجاد حل عادل للقضية الكردية ضمن الإطار الوطني التركي، وعلى قاعدة احترام الخصوصية والإقرار بالحقوق. وأمر من هذا القبيل سيفتح الآفاق أمام حواراتٍ داخليةٍ بنّاءة لصالح تركيا ككل، وسيعزّز مكانة تركيا إقليمياً، ويحسّن علاقاتها الغربية، خصوصا مع الأميركان. كما أن احترام حرية التعبير، والانفتاح على الآخر المختلف، وضمان الحريات الصحافية بصورة عامة؛ كل ذلك يعد من مقومات المسألة المحورية في أي نظام ديمقراطي يستمد قوته الحقيقية من الشعب الحيوي الفاعل، القادر على التمييز بين الرؤى والمواقف الصائبة ونقائضها.
المصدر: العربي الجديد